الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( وأما ) كيفية ثبوته فالنذر لا يخلو إما إن أضيف إلى وقت مبهم ، وإما إن أضيف إلى وقت معين ، فإن أضيف إلى وقت مبهم بأن قال : لله علي أن أصوم شهرا ولا نية له ، فحكمه هو حكم الأمر المطلق عن الوقت ، واختلف أهل الأصول في ذلك أن حكمه وجوب الفعل على الفور أم على التراخي ، حكى الكرخي رحمه الله عن أصحابنا أنه على الفور ، وروى ابن شجاع البلخي عن أصحابنا أنه يجب وجوبا موسعا ، فظهر الاختلاف بين أصحابنا في الحج ، فعند أبي يوسف يجب على الفور ، وعند محمد على التراخي .

                                                                                                                                وروي عن أبي حنيفة - عليه الرحمة - مثل قول أبي يوسف ، وقال عامة مشايخنا بما وراء النهر أنه على التراخي ، وتفسير الواجب على التراخي عندهم أنه يجب في جزء من عمره غير معين وإليه خيار التعيين ، ففي أي وقت شرع فيه تعين ذلك الوقت للوجوب ، وإن لم يشرع يتضيق الوجوب في آخر عمره إذا بقي من آخر عمره قدر ما يمكنه الأداء فيه بغالب ظنه ، حتى لو مات قبل الأداء يأثم بتركه ، وهو الصحيح ; لأن الأمر بالفعل مطلق عن الوقت ، فلا يجوز تقييده إلا بدليل ، فكذلك النذر ; لأن النصوص المقتضية لوجوب الوفاء بالنذر مطلقة عن الوقت ، فلا يجوز تقييدها إلا بدليل ، وكذا سبب الوجوب وهو النذر وجد مطلقا عن الوقت ، والحكم يثبت على وفق السبب ، فيجب عليه أن يصوم شهرا من عمره غير معين ، وخيار التعيين إليه إلى أن يغلب على ظنه الفوت لو لم يصم فيضيق الوقت حينئذ .

                                                                                                                                وكذا حكم الاعتكاف المضاف إلى وقت مبهم ، بأن قال : لله علي أن أعتكف شهرا ، ولا نية له ، وهذا بخلاف اليمين بالكلام ، بأن قال : والله لا أكلم فلانا شهرا ; أنه يتعين الشهر الذي يلي اليمين ، وكذا الإجارة بأن أجر داره ، أو عبده شهرا ، فإنه يتعين الشهر الذي يلي العقد ; لأنه أضاف النذر إلى شهر منكر ، والصرف إلى الشهر الذي يلي النذر يعين المنكر ، ولا يجوز تعيين المنكر إلا بدليل هو الأصل ، وقد قام دليل التعيين في باب اليمين والإجارة ; لأن غرض الحالف منع نفسه عن الكلام ، والإنسان إنما يمنع نفسه عن الكلام مع غيره ; لإهانته والاستخفاف به لداع يدعوه إلى ذلك الحال ، والإجارة تنعقد للحاجة إلى الانتفاع بالمستأجر ، والحاجة قائمة عقيب العقد ، فيتعين الزمان المتعقب للعقد لثبوت حكم الإجارة ، ويجوز تعيين المبهم عند قيام الدليل المعين .

                                                                                                                                ولو نوى شهرا معينا صحت نيته ; لأنه نوى ما يحتمله لفظه ، وفيه تشديد عليه ، ثم في النذر المضاف إلى وقت مبهم إذا عين شهرا للصوم فهو بالخيار : إن شاء تابع ، وإن شاء فرق ، بخلاف الاعتكاف إنه إذا عين شهرا للاعتكاف فلا بد وأن يعتكف متتابعا في النهار والليالي جميعا ; لأن الإيجاب في النوعين حصل مطلقا عن صفة التتابع ، إلا أن في [ ص: 95 ] ذات الاعتكاف ما يوجب التتابع ، وهو كونه لبثا على الدوام فكان مبناه على الاتصال ، والليالي والنهر قابلة لذلك ، فلا بد من التتابع ومبنى الصوم ليس على التتابع بل على التفريق لما بين كل يومين ما لا يصلح له وهو الليل ، فبقي له الخيار .

                                                                                                                                وإن أضيف إلى وقت معين بأن قال : لله علي أن أصوم غدا يجب عليه صوم الغد وجوبا مضيقا ، ليس له رخصة التأخير من غير عذر .

                                                                                                                                وكذا إذا قال لله علي صوم رجب فلم يصم فيما سبق من الشهور على رجب حتى هجم رجب لا يجوز له التأخير من غير عذر ; لأنه إذا لم يصم قبله حتى جاء رجب تعين رجب لوجوب الصوم فيه على التضييق ، فلا يباح له التأخير ، ولو صام رجبا وأفطر منه يوما لا يلزمه الاستقبال ، ولكنه يقضي ذلك اليوم من شهر آخر ، بخلاف ما إذا قال : لله علي أن أصوم شهرا متتابعا ، أو قال : أصوم شهرا ونوى التتابع فأفطر يوما - أنه يستقبل ; لأن هناك أوجب على نفسه صوما موصوفا بصفة التتابع ، وصح الإيجاب ; لأن صفة التتابع زيادة قربة لما يلحقه بمراعاتها من زيادة مشقة ، وهي صفة معتبرة شرعا ورد الشرع بها في كفارة القتل ، والظهار ، والإفطار ، واليمين عندنا ، فيصح التزامه بالنذر ، فيلزمه كما التزم ، فإذا ترك فلم يأت بالملتزم ; فيستقبل كما في صوم كفارة الظهار والقتل .

                                                                                                                                فأما ههنا فما أوجب على نفسه صوما متتابعا ، وإنما وجب عليه التتابع لضرورة تجاور الأيام ; لأن أيام الشهر متجاورة ، فكانت متتابعة فلا يلزمه إلا قضاء ما أفطر ، كما لو أفطر يوما من رمضان لا يلزمه إلا قضاؤه ، وإن كان صوم شهر رمضان متتابعا لما قلنا كذا هذا ; ولأنا لو ألزمناه الاستقبال لوقع أكثر الصوم في غير ما أضيف إليه النذر ، ولو أتم وقضى يوما لكان مؤديا أكثر الصوم في الوقت المعين ، فكان هذا أولى ، ولو أفطر رجبا كله قضى في شهر آخر ; لأنه فوت الواجب عن وقته فصار دينا عليه ، والدين مقضي على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا وجب قضاء رمضان إذا فات عن وقته ; ولأن الوجوب عند النذر بإيجاب الله - عز شأنه - فيعتبر بالإيجاب المبتدأ وما أوجبه الله - تعالى عز شأنه - على عباده ابتداء لا يسقط عنه إلا بالأداء أو بالقضاء كذا هذا والله - تعالى عز شأنه - أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية