الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          ولادة عيسى

                                                          قال الله (تعالى): واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا فحملته فانتبذت به مكانا قصيا

                                                          قلنا: إن العصر الذي قارب عيسى هو عصر الإيمان بالأسباب والمسببات العادية؛ حتى ادعي أن الكون نشأ من منشئه على نظام العلة والمعلول؛ [ ص: 4620 ] وإذا كانت تلك سمة هذا العصر؛ فكان عصر الخوارق المبطلة لذلك التفكير الضال؛ وقلنا: إن يحيى كان حمله خارقا للعادة; لأنه كان من أب بلغ من الكبر عتيا؛ وأم كانت عاقرا لا تنجب.

                                                          وعيسى كان من غير أب؛ بل سبق ذلك خوارق أخرى في الحمل بأمه؛ وفي كفالتها؛ ومدة حضانتها؛ فقد كانت وهي في حضانة زكريا تعيش في المسجد محررة له؛ كما نذرتها أمها في أثناء الحمل بها؛ إذ قالت - مخاطبة ربها -: إذ قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء

                                                          نرى أن خرق نظام الأسباب والمسببات ابتدأ بما كان من رزق مريم؛ الذي أثار عجب زكريا؛ وقد رأى الأسباب تطوى؛ ولا تحول بين الله (تعالى) وما يريد؛ فدعا ربه أن يهب له من لدنه ذرية طيبة؛ فخرق نظام الأسباب العادية ومسبباتها كان في أم عيسى قبل أن تجيء إرهاصات ولادته؛ بل كانت هذه هي الإرهاصات الأولى؛ ولذا كان اصطفاء الله مريم البتول؛ لتكون أم المسيح؛ إذ قال - عز من قائل -: وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ؛ كانت هذه كلها إرهاصات لما اختارها الله (تعالى) له. [ ص: 4621 ] قال الله (تعالى): واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ و "الكتاب "؛ هو القرآن الكريم؛ فهو الكتاب الكامل؛ الذي إذا ذكرت كلمة "الكتاب "؛ انتهت إليه؛ فهو الجدير وحده بأن يسمى "الكتاب "; لأنه كامل في نسبته إلى الله (تعالى)؛ إذ هو خطابه لعباده؛ وكامل فيما اشتمل عليه من إعجاز؛ وكامل فيما اشتمل عليه من شرائع وحكم ومواعظ وقصص.

                                                          إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا "النبذ ": الطرح والرمي؛ و "انتبذ "؛ معناه: نبذه نبذا شديدا؛ والمعنى أنها اعتزلت الناس ونبذتهم؛ وانفردت لعبادة الله وحده؛ لا تأنس إلا به؛ ولا يعمر قلبها إلا بذكره؛ والمعنى: انفردت من أهلها مكانا شرقيا أي: انفردت من أهلها في مكان شرقي بيت المقدس؛ الذي كان فيه محرابها؛ ومحراب كافلها زكريا - عليه السلام -؛ وكان وراء هذا الانفراد أن اتخذت حجابا يحول بينهما.

                                                          ولذا قال (تعالى):

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية