الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( وأما ) الكسوة فالكلام فيها في ثلاثة مواضع : في بيان قدرها ، وفي بيان صفتها ، وفي بيان مصرفها ( أما ) الأول فأدنى الكسوة ثوب واحد جامع لكل مسكين قميص أو رداء أو كساء أو ملحفة أو جبة أو قباء أو إزار كبير وهو الذي يستر البدن لأن الله تعالى ذكر الكسوة ولم يذكر فيه التقدير فكل ما يسمى لابسه مكتسيا يجزي وما لا فلا ولابس ما ذكرنا يسمى مكتسيا فيجزي عن الكفارة ولا تجزي القلنسوة والخفان والنعلان لأن لابسهما لا يسمى مكتسيا إذا لم يكن عليه ثوب ولا هي تسمى كسوة في العرف .

                                                                                                                                وأما السراويل والعمامة فقد اختلفت الروايات فيها ، روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمهم الله أنه إذا أعطى مسكينا قباء أو كساء أو سراويل أو عمامة سابغة يجوز وروي عن أبي يوسف أنه لا تجزي السراويل والعمامة ، وهو رواية عن محمد في الإملاء .

                                                                                                                                وروى هشام رحمه الله عنه : أن السراويل تجزيه وهذا لا يوجب اختلاف الرواية في العمامة ، لأن في رواية الحسن شرط في العمامة أن تكون سابغة ، فتحمل رواية عدم الجواز فيها على ما إذا لم تكن سابغة وهي أن لا تكفي تقميص واحد ( وأما ) السراويل ( فوجه ) رواية الجواز تجوز فيه الصلاة فيجزي عن الكفارة كالقميص ( ووجه ) رواية عدم الجواز وهي التي صححها القدوري رحمه الله أن لابس السراويل لا يسمى مكتسيا عرفا وعادة بل يسمى عريانا فلا يدخل تحت مطلق الكسوة وذكر الطحاوي أنه إذا كسا امرأة فإنه يزيد فيه الخمار وهذا اعتبار جواز الصلاة في الكسوة على ما روي عن محمد لأن رأسها عورة لا تجوز صلاتها مع انكشافها ولو أعطى كل مسكين نصف ثوب لم يجزه من الكسوة ولكنه يجزي من الطعام عندنا إذا كان يساوي نصف صاع من حنطة ( أما ) عدم جوازه من الكسوة فلأن الواجب هو الكسوة ونصف ثوب لا يسمى كسوة ، لا يجوز أن تعتبر قيمته عن كسوة رديئة ; لأن الشيء لا يكون بدلا عن نفسه .

                                                                                                                                ( وأما ) جوازه عن الطعام إذا بلغ قيمته نصف صاع فلأن القيمة تجوز بدلا عن الكسوة عندنا كما تجوز بدلا [ ص: 106 ] عن الطعام والوجه فيه على نحو ما ذكرنا في الطعام وهل تشترط نية البدلية ؟ قال أبو يوسف : تشترط ولا تجزي الكسوة عن الطعام إلا بالنية وقال محمد : لا تشترط ، ونية التكفير كافية .

                                                                                                                                ( وجه ) قول محمد إن الواجب عليه ليس إلا التكفير فيستدعي نية التكفير وقد وجدت فيجزيه ، كما لو أعطى المساكين دراهم بنية الكفارة وهي لا تبلغ قيمة الكسوة وتبلغ قيمة الطعام جازت عن الطعام ، ولو كانت لا تبلغ قيمة الطعام وتبلغ قيمة الكسوة جازت عن الكسوة من غير نية البدلية كذا هذا ( وجه ) قول أبي يوسف إن المؤدى يحتمل الجواز عن نفسه لأنه يمكن تكميله بضم الباقي إليه فلا يصير بدلا إلا بجعله بدلا وذلك بالنية ، بخلاف الدراهم لأنه لا جواز لها عن نفسها لأنها غير منصوص عليها فكانت متعينة للبدلية فلا حاجة إلى التعيين وكذلك لو كسا كل مسكين قلنسوة أو خفين أو نعلين لم يجزه في الكسوة وأجزأه في الطعام إذا كان يساويه في القيمة عند أصحابنا لما قلنا ، وكذا لو أعطى عشرة مساكين ثوبا واحدا بينهم كثير القيمة ، نصيب كل مسكين منهم أكثر من قيمة ثوب لم يجزه في الكسوة وأجزأه في الطعام لما ذكرنا أن الكسوة منصوص عليها فلا تكون بدلا عن نفسها وتصلح بدلا عن غيرها كما لو أعطى كل مسكين ربع صاع من حنطة وذلك يساوي صاعا من تمر أنه لا يجزي عن الطعام .

                                                                                                                                وإن كان مد من حنطة يساوي ثوبا يجزي عن الكسوة لأن الطعام يجوز أن يكون قيمة عن الثوب ولا يجوز أن يكون قيمة عن الطعام ، لأن الطعام كله شيء واحد لأن المقصود منه واحد فلا يجوز بعضه عن بعض بخلاف الطعام مع الكسوة لأنهما متغايران ذاتا ومقصودا فجاز أن يقوم أحدهما مقام الآخر وكذا لو أعطى عشرة مساكين دابة أو عبدا وقيمته تبلغ عشرة أثواب جاز في الكسوة وإن لم تبلغ قيمته عشرة أثواب وبلغت قيمة الطعام أجزأه عنه عندنا لأن دفع البدل في باب الكفارة جائز عندنا قال أبو يوسف : لو أن رجلا عليه كفارة يمين فأعطى عشرة مساكين مسكينا نصف صاع من حنطة ومسكينا صاعا من شعير ومسكينا ثوبا وغدى مسكينا وعشاه لم يجزه ذلك حتى يكمل عشرة من أحد النوعين لأن الله - تبارك وتعالى - جعل الكفارة أحد الأنواع الثلاثة من الإطعام أو الكسوة أو التحرير بقوله تبارك وتعالى : { فكفارته إطعام عشرة مساكين } إلى قوله تعالى : { أو كسوتهم } وأو تتناول أحدها فلا تجوز الجمع بينها لأنه يكون نوعا رابعا وهذا لا يجوز ، لكنه إذا اختار الطعام جاز له أن يعطي مسكينا حنطة ومسكينا شعيرا ومسكينا تمرا لأن اسم الطعام يتناول الكل ، ولو أعطى نصف صاع من تمر جيد يساوي نصف صاع من بر لم يجز إلا عن نفسه بقدره لأن التمر منصوص عليه في الإطعام كالبر فلا يجزي أحدهما عن الآخر كما لا يجوز الثمن عن التمر ، ويجزي التمر عن الكسوة لأن المقصود من كل واحد منهما غير المقصود من الآخر فجاز إخراج أحدهما عن الآخر بالقيمة والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية