الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وقد ثبت في الصحيحين أيضا عن أبي هريرة { أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت بعد الركوع في صلاة الصبح شهرا إذا قال : سمع الله لمن حمده يقول في قنوته : اللهم نج الوليد بن الوليد اللهم نج سلمة بن هشام اللهم نج عياش بن أبي ربيعة اللهم نج المستضعفين من المؤمنين اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف } قال { أبو هريرة : ثم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ترك الدعاء لهم بعد فقلت : أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ترك الدعاء لهم قال : فقيل : أوما تراهم قد قدموا } ؟ وهذا الحديث فيه أنواع من الفقه فإن أبا هريرة لم يصل خلف [ ص: 152 ] النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد خيبر وخيبر بعد الحديبية وكانت الهدنة التي بينه وبين المشركين في الحديبية : على أن لا يدع أحدا منهم يهاجر إليه ولا يرد إليه من ذهب مرتدا منه إليهم فهؤلاء وأمثالهم كانوا من المستضعفين بمكة الذين قهرهم أهلوهم والمسلمون كلهم من بني مخزوم وهم بنو عبد مناف أشرف قبائل قريش وبنو مخزوم كانوا هم الذين ينادون عبد مناف والمحاسدة التي بينهم هي إحدى ما منعت أشرافهم - كالوليد وأبي جهل وغيرهما - من الإسلام فلما قدم بعد الحديبية من قدم من المهاجرين ولحقوا بسيف البحر على الساحل - كأبي بصير وأبي جندل بن سهيل بن عمرو - فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجرهم بالشرط فصاروا بأيدي أنفسهم بالساحل يقطعون على أهل مكة حتى أرسل أهل مكة حينئذ إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يأذن لهم في المقام عنده ليأمنوا قطعهم فقدموا حينئذ أولئك المستضعفون فترك النبي صلى الله عليه وسلم القنوت .

                وهذا القنوت بعد القنوت الذي رواه أنس : { أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهرا يدعو على رعل وذكوان وعصية ثم تركه } فإن ذلك القنوت كان في أوائل الأمر لما أرسل القراء السبعين : أصحاب بئر معونة وذلك متقدم قبل الخندق التي هي قبل الحديبية كما [ ص: 153 ] ثبت ذلك في الصحيح فتبين أن تركه للقنوت لم يكن ترك نسخ ; إذ قد ثبت أنه قنت بعد ذلك وإنما قنت لسبب فلما زال السبب ترك القنوت كما بين في هذا الحديث أنه ترك الدعاء لهم لما قدموا . وليس أيضا قوله في حديث أنس المتفق عليه : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت شهرا بعد الركوع يدعو على أحياء من أحياء العرب ثم تركه } أنه ترك الدعاء فقط كما يظنه من ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مداوما على القنوت في الفجر بعد الركوع أو قبله بل ثبت في أحاديث أنس التي في الصحيحين : { أنه لم يقنت بعد الركوع إلا شهرا } وغير ذلك مما يبين أن المتروك كان القنوت .

                وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع وبينا أن من تأمل الأحاديث علم علما يقينا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يداوم على القنوت في شيء من الصلوات لا الفجر ولا غيرها ; ولهذا لم ينقل هذا أحد من الصحابة ; بل أنكروه . ولم ينقل أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم حرفا واحدا مما يظن أنه كان يدعو به في القنوت الراتب وإنما المنقول عنه ما يدعو به في العارض : كالدعاء لقوم وعلى قوم فأما ما يدعو به من يستحب المداومة على قنوت الفجر من قول : { اللهم اهدنا فيمن هديت } فهذا إنما في السنن أنه علمه للحسن يدعو به في قنوت الوتر .

                [ ص: 154 ] ثم من العجب . أنه لا يستحب المداومة عليه في الوتر الذي هو من متن الحديث ويداوم عليه في الفجر ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قاله في الفجر ومن المعلوم باليقين الضروري أن القنوت لو كان مما داوم عليه لم يكن هذا مما يهمل ; ولتوفرت دواعي الصحابة ثم التابعين على نقله : فإنهم لم يهملوا شيئا من أمر الصلاة التي كان يداوم عليها إلا نقلوه ; بل نقلوا ما لم يكن يداوم عليه : كالدعاء في القنوت لمعين وعلى معين وغير ذلك .

                ودعوى هذا أيضا هي من بعض الوجوه مما يدعيه بعض أهل الأهواء في النص الجلي على معين في الإمامة ; أو من زيادة في القرآن وغير ذلك ; ولهذا كان المصنفون يفرقون بين بيان ما يمتنع من الكذب وما يمتنع من الكتمان فإذا تكلموا في الأخبار الصادقة التي يمتنع أن تكون كذبا من الأخبار المتواترة : تكلموا فيما يمتنع أن يكون من الأخبار للعادة العامة أو الخاصة أو للأدلة الشرعية الدالة على حفظ هذا الدين وأمثال ذلك . وبسط هذا له موضع آخر .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية