الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                والله سبحانه : بعث رسله ( بإثبات مفصل ونفي مجمل فأثبتوا لله الصفات على وجه التفصيل ونفوا عنه ما لا يصلح له من التشبيه والتمثيل كما قال تعالى { فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا }

                قال أهل اللغة : { هل تعلم له سميا } أي نظيرا يستحق مثل اسمه . ويقال : مساميا يساميه وهذا معنى ما يروى عن ابن عباس ( هل تعلم له سميا مثيلا أو شبيها

                وقال تعالى { لم يلد ولم يولد } { ولم يكن له كفوا أحد } وقال تعالى : { فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون } وقال تعالى : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله } وقال تعالى : { وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون } { بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم } ؟

                وقال تعالى : { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا } { الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك } وقال تعالى : { فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون } { أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون } { ألا إنهم من إفكهم ليقولون } { ولد الله وإنهم لكاذبون } { أاصطفى البنات على البنين } { ما لكم كيف تحكمون } { أفلا تذكرون } { أم لكم سلطان مبين } { فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين } { وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون } { سبحان الله عما يصفون } { إلا عباد الله المخلصين } إلى قوله : { سبحان ربك رب العزة عما يصفون } { وسلام على المرسلين } { والحمد لله رب العالمين } . فسبح نفسه عما يصفه المفترون المشركون وسلم على المرسلين لسلامة ما قالوه من الإفك والشرك وحمد نفسه ; إذ هو سبحانه المستحق للحمد بما له من الأسماء والصفات وبديع المخلوقات

                وأما ( الإثبات المفصل : فإنه ذكر من أسمائه وصفاته ما أنزله في محكم آياته كقوله : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } الآية بكمالها

                وقوله : { قل هو الله أحد } { الله الصمد } السورة وقوله : { وهو العليم الحكيم } { وهو العليم القدير } { وهو السميع البصير } { وهو العزيز الحكيم } { وهو الغفور الرحيم } [ ص: 6 ] { وهو الغفور الودود } { ذو العرش المجيد } { فعال لما يريد } { هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم } { هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير }

                وقوله : { ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم } وقوله : { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين } الآية وقوله : { رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه } وقوله : { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه } وقوله : { إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون } وقوله : { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة } وقوله : { ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين } وقوله : { وكلم الله موسى تكليما } وقوله : { وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا } وقوله : { ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون } وقوله { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } وقوله : { هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم } { هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون } { هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم } . إلى أمثال هذه الآيات والأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في أسماء الرب تعالى وصفاته فإن في ذلك من إثبات ذاته وصفاته على وجه التفصيل وإثبات وحدانيته بنفي التمثيل ما هدى الله به عباده إلى سواء السبيل فهذه طريقة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .

                وأما من زاغ وحاد عن سبيلهم من الكفار والمشركين والذين أوتوا الكتاب ومن دخل في هؤلاء من الصابئة والمتفلسفة والجهمية والقرامطة والباطنية ونحوهم : فإنهم على ضد ذلك يصفونه بالصفات السلبية على وجه التفصيل ولا يثبتون إلا وجودا مطلقا لا حقيقة له عند التحصيل وإنما يرجع إلى وجود في الأذهان يمتنع تحققه في الأعيان

                فقولهم يستلزم غاية التعطيل وغاية التمثيل ; فإنهم يمثلونه بالممتنعات والمعدومات والجمادات ; ويعطلون الأسماء والصفات تعطيلا يستلزم نفي الذات . فغلاتهم يسلبون عنه النقيضين فيقولون : لا موجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل لأنهم يزعمون أنهم إذا وصفوه بالإثبات شبهوه بالموجودات وإذا وصفوه بالنفي شبهوه بالمعدومات [ ص: 8 ] فسلبوا النقيضين وهذا ممتنع في بداهة العقول ; وحرفوا ما أنزل الله من الكتاب وما جاء به الرسول فوقعوا في شر مما فروا منه فإنهم شبهوه بالممتنعات إذ سلب النقيضين كجمع النقيضين كلاهما من الممتنعات

                وقد علم بالاضطرار . أن الوجود لا بد له من موجد واجب بذاته غني عما سواه ; قديم أزلي ; لا يجوز عليه الحدوث ولا العدم فوصفوه بما يمتنع وجوده فضلا عن الوجوب أو الوجود أو القدم . وقاربهم طائفة من الفلاسفة وأتباعهم فوصفوه بالسلوب والإضافات دون صفات الإثبات وجعلوه هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق وقد علم بصريح العقل أن هذا لا يكون إلا في الذهن لا فيما خرج عنه من الموجودات وجعلوا الصفة هي الموصوف ، فجعلوا العلم عين العالم مكابرة للقضايا البديهات وجعلوا هذه الصفة هي الأخرى فلم يميزوا بين العلم والقدرة والمشيئة جحدا للعلوم الضروريات

                وقاربهم طائفة ثالثة من أهل الكلام من المعتزلة ومن اتبعهم ; فأثبتوا لله الأسماء دون ما تتضمنه من الصفات - فمنهم من جعل العليم والقدير ; والسميع ; والبصير ; كالأعلام المحضة المترادفات ومنهم من قال عليم بلا علم قدير بلا قدرة سميع بصير بلا سمع ولا بصر فأثبتوا الاسم دون ما تضمنه من الصفات

                [ ص: 9 ] والكلام على فساد مقالة هؤلاء وبيان تناقضها بصريح المعقول المطابق لصحيح المنقول مذكور في غير هذه الكلمات

                وهؤلاء جميعهم يفرون من شيء فيقعون في نظيره وفي شر منه مع ما يلزمهم من التحريف والتعطيل ولو أمعنوا النظر لسووا بين المتماثلات وفرقوا بين المختلفات كما تقتضيه المعقولات ; ولكانوا من الذين أوتوا العلم الذين يرون أنما أنزل إلى الرسول هو الحق من ربه ويهدي إلى صراط العزيز الحميد . ولكنهم من أهل المجهولات المشبهة بالمعقولات يسفسطون في العقليات ويقرمطون في السمعيات . وذلك أنه قد علم بضرورة العقل أنه لا بد من موجود قديم غني عما سواه إذ نحن نشاهد حدوث المحدثات : كالحيوان والمعدن والنبات والحادث ممكن ليس بواجب ولا ممتنع وقد علم بالاضطرار أن المحدث لا بد له من محدث والممكن لا بد له من موجد كما قال تعالى : { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } فإذا لم يكونوا خلقوا من غير خالق ولا هم الخالقون لأنفسهم تعين أن لهم خالقا خلقهم .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية