الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          أقول : لا يبعد أن يكون في قوله - تعالى - بعد نفي الخلة والشفاعة : والكافرون هم الظالمون تعريض بهؤلاء الملوك الذين يمنحون بالشفاعة غير المستحق ويمنعون المستحق ويعاقبون بها البريء ويعفون عن المجرم ، والمراد بالكافرين بالنعم بقرينة السياق وهم الذين لا ينفقون في سبل البر والخير ، وقد صار الظلم عليهم كما أفادت الجملة المعرفة الطرفين تشنيعا لحالهم ، كأن كل ظلم غير ظلمهم ضعيف لا يعتد به ; لأنهم ظلموا أنفسهم ودنسوها برذيلة البخل ومنع الحق ، وظلموا الفقراء والمساكين وغيرهم من الأصناف الذين فرضت لهم الصدقة بمنعهم مما فرض الله لهم ، وظلموا الأمة بإهمال مصالحها المعبر عنها بسبيل الله ، وإن أمة يؤدي أغنياؤها ما فرض الله عليهم لفقرائها ولمصالحها العامة لا تهلك ولا تخزى ، ولا شيء أسرع في إهلاك الأمة من فشو البخل ومنع الحق في أفرادها .

                          وأقول : إن هذا الكفر والظلم مما يتهاون فيه المسلمون في هذه الأزمنة وفي أزمنة قبلها ; لظنهم أن جميع ما في القرآن من وعيد الكافرين يراد به الكافرون بالمعنى الخاص في اصطلاح المتكلمين والفقهاء وهم الجاحدون للألوهية أو للنبوة أو لشيء مما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلم من الدين بالضرورة إجماعا ، وهذه الآية نفسها تبطل ظنهم وفي معناها آيات كثيرة ، ثم إنهم يروون عن عطاء أنه قال : " الحمد لله الذي قال : والكافرون هم الظالمون ولم يقل والظالمون هم الكافرون " يعني أن لا يكاد يسلم امرؤ من ظلم لنفسه ولغيره ، فلو كان كل ظالم كافرا لهلك الناس ، وقد فات صاحب هذا القول أن الظلم والكفر في القرآن يتواردان على المعنى الواحد ، فيطلقان تارة على ما يتعلق بالاعتقاد وتارة على ما يتعلق بالعمل ومنه الحكم بين الناس ، ويقابل هذه الآية في الجمع بينهما في المعنى قوله - تعالى - : ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون [ 6 : 33 ] ومن استعمال الظلم بمعنى الاعتقاد الباطل قوله - تعالى - : إن الشرك لظلم عظيم [ 31 : 13 ] وقوله - تعالى - : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون [ 6 : 82 ] فسر الظلم هنا في الحديث المرفوع المتفق عليه بالشرك وتلا - صلى الله عليه وسلم - الآية السابقة شاهدا ، ومن استعمال الكفر بمعنى كفر النعم بعمل السوء قوله - تعالى - : وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد [ 14 : 7 ] بل استعمل الكفر في القرآن بمعنى لغوي غير مذموم وذلك قوله - تعالى - : كمثل غيث أعجب الكفار نباته [ 57 : 20 ] الكفار هنا بمعنى الزراع ، سموا بذلك لأنهم يكفرون الحب بالتراب ، أي يغطونه ويسترونه .

                          والستر والتغطية هو المعنى العام لهذه المادة ، ولم يستعمل الظلم في معنى محمود قط ، فالظلم في جملة معانيه شر من الكفر في جملة معانيه .

                          [ ص: 18 ] ثم إن الله - تعالى - توعد على الظلم بالهلاك والعذاب كما توعد على الكفر سواء كانا بالمعنى الأول أو الثاني . قال تعالى : ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار [ 14 : 28 - 30 ] الوعيد الأول على كفر النعمة بعمل السيئات وترك الأعمال النافعة الصالحة ، والوعيد الثاني على الشرك وكلاهما من وعيد الآخرة . وقال تعالى : وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون [ 16 :112 - 114 ] فالوعيد الأول دنيوي وهو على كفر النعمة ، والثاني مثله وهو على الظلم في الاعتقاد . والآية الثالثة صريحة في أن الإيمان الصحيح والتوحيد الخالص يقتضي شكر النعم وحسن العمل . ومن الوعيد على الظلم بعذاب الآخرة قوله - تعالى - : ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا [ 19 : 72 ] أي في النار . وقوله : ألا إن الظالمين في عذاب مقيم [ 42 : 45 ] وأما وعيد الظالمين بعذاب الدنيا كهلاك الأمة فكثير كقوله - تعالى - : وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد [ 11 : 102 ] إذا تدبرت هذه الآيات وأمثالها علمت أن ما نقل عن عطاء لا وجه له ، وأن الظالمين والكافرين في كتابه - تعالى - وفي حكمه سواء ; وأن الكفر والظلم في العمل أثر الكفر والظلم في الاعتقاد إلا ما لا يسلم منه البشر من اللمم ، فقد يلم بالمؤمن الذنب بجهالة أو نسيان أو غلبة انفعال ثم يعود من قريب ولا يصر على الذنب وهو يعلم ، وإن ما نحن بصدده من الإنفاق في سبيل الله ليس من اللمم ، فالمنع له لا يتفق مع الإيمان الصحيح والدين الخالص من الشوائب ، ويعجبني ما قاله البيضاوي في تفسير هذه الجملة قال : " يريد : والتاركون للزكاة هم الذين ظلموا أنفسهم إذ وضعوا المال في غير موضعه ، وصرفوه على غير وجهه . فوضع " الكافرون " موضعه تغليظا وتهديدا كقوله : ومن كفر [ 3 : 97 ] مكان : ومن لم يحج ، وإيذانا بأن ترك الزكاة من صفات الكفار ، كقوله : وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة [ 41 : 6 ، 7 ] اهـ " . وقد صدق في قوله : إن منع الزكاة من صفات الكفار ، أي لا يصر عليها فتكون صفة له . قال الأستاذ الإمام ما معناه : لو فتشتم عن خفايا النفس لوجدتم أن العلة الصحيحة في منع الزكاة ونحوها من النفقات الواجبة هي أن حب المال أعلى في قلب المانع من حب الله - تعالى - ، وشأن المال أعظم في نفسه من حقوق الله - عز وجل - ; لأن النفس تذعن دائما لما هو أرجح في شعورها نفعا ، وأعظم في وجدانها وقعا ، مهما تعارضت وجوه المنافع ، ولو وزنتم جميع [ ص: 19 ] أنواع الظلم الذي يصدر من الإنسان لوجدتم أرجحها ظلم الباخل بفضل ما له على ملهوف يغيثه ومضطر يكشف ضرورته ، أو على المصالح العامة التي تقي أمته مصارع الهلكات أو ترفعها على غيرها درجات ، أو تسد الخروق التي حدثت في بناء الدين ، أو تزيل السدود والعقبات من طريق المسلمين ، فإن هذا النوع من الظلم هو الذي لا يعذر صاحبه بوجه من وجوه العذر التي يتعلل بها سواه من ظالمي أنفسهم ، أو التي قد تكون أعذارا طبيعية فيمن لم يؤخذ بأدب الدين ، كسورة الغضب وثورة الشهوة العارضة .

                          ( قال ) : ترى كثيرا من أغنياء المسلمين عارفين بما عليه أمتهم من الجهل بأمور الدين ومصالح الدنيا وفساد الأخلاق وتقطع الروابط وتراخي الأواخي وما نشأ عن ذلك من هضم حقوقها وانتزاع منافعها من أيدي أبنائها ، ويعلمون أن إصلاحهم يتوقف على بذل شيء من أموالهم ينفق على التربية والتعليم ونحوهما من المنافع العامة ، ثم هم يدعون إلى بذل قليل من كثير ما خزنوه في صناديق الحديد وما ينفقونه في شهواتهم ولذاتهم وتأييد أهوائهم وحظوظهم فيبخلون بذلك ويرونه مغرما ثقيلا ، ولا يحلفون بوعد الله للمنفقين في سبيله ولا وعيده للباخلين بفضله ، وأمثال هؤلاء لا يستحقون أن يكونوا من المسلمين ; لأنه لا يوجد في نفس الواحد منهم عرق ينبض في التألم لمصائب الإسلام وأهله ، فمن كان يرى أن ماله أفضل من دينه في الوجدان والعمل ، وهواه أرجح من رضوان الله فهو كافر حقيقة وإن سمى نفسه مؤمنا فما إيمانه إلا كإيمان من نزل فيهم ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين [ 2 : 8 ] فهناك يحكى عنهم دعوى الإيمان ويحكم عليهم بعدمه ; لأن عملهم لا يشهد لإيمانهم وهاهنا يعبر عنهم بالكافرين ، ومن المستبعد أن يطلق الله - تعالى - هذين الوصفين على من كان للإيمان في قلبه بقية تبعثه على الإنفاق في سبيله إيثارا لرضوانه وخشيته على الشهوات والحظوظ الباطلة وترجيحا على حب المال . وأزيد على هذه المعاني المتعلقة بجوهر الدين وما به النجاة في الآخرة التنبيه إلى العبرة بشقاء الدنيا الذي يترتب على ترك الإنفاق . وأقول : ماذا يبلغ وزن إيمان هؤلاء إذا وضع في ميزان القرآن وقوبل بمثل قوله في خطاب المؤمنين بعد الامتنان عليهم بأنه لم يسألهم إنفاق جميع أموالهم منذرا إياهم بأن البخل قاض بإهلاكهم واستبدال قوم آخرين بهم هاأنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم [ 47 : 38

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية