الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون

تفريع على الإذن لهم في الأكل من هذه البيوت بأن ذكرهم بأدب الدخول المتقدم في قوله : يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها لئلا يجعلوا القرابة والصداقة والمخالطة مبيحة لإسقاط الآداب فإن واجب المرء أن يلازم الآداب مع القريب والبعيد ولا يغرنه قول الناس : إذا استوى الحب سقط الأدب .

ومعنى فسلموا على أنفسكم فليسلم بعضكم على بعض ، كقوله : ولا تقتلوا أنفسكم .

ولقد عكف قوم على ظاهر هذا اللفظ وأهملوا دقيقته فظنوا أن الداخل يسلم على نفسه إذا لم يجد أحدا ، وهذا بعيد من أغراض التكليف والآداب . وأما ما ورد في التشهد من قوله : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، فذلك سلام بمعنى الدعاء بالسلامة جعله النبيء صلى الله عليه وسلم لهم عوضا عما كانوا يقولون : السلام على الله ، السلام على النبيء ، السلام على جبريل ومكائيل ، السلام [ ص: 304 ] على فلان وفلان . فقال لهم رسول الله : إن الله هو السلام ، إبطالا لقولهم : السلام على الله . ثم قال لهم : قولوا السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، فإنكم إذا قلتموها أصابت كل عبد لله صالح في السماء وفي الأرض .

وأما السلام في هذه الآية فهو التحية كما فسره بقوله تحية من عند الله مباركة طيبة ولا يؤمر أحد بأن يسلم على نفسه .

والتحية : أصلها مصدر حياه تحية ثم أدغمت الياءان تخفيفا وهي قول : حياك الله . وقد تقدم في قوله تعالى : وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها في سورة النساء .

فالتحية مصدر فعل مشتق من الجملة المشتملة على فعل ( حيا ) ، مثل قولهم : جزاه ، إذا قال له : جزاك الله خيرا ، كما تقدم في فعل ( وتسلموا على أهلها ) آنفا . وكان هذا اللفظ تحية العرب قبل الإسلام تحية العامة قال النابغة :


حياك ربي فإنا لا يحل لنا لهو النساء وإن الدين قد عزما

وكانت تحية الملوك ( عم صباحا ) فجعل الإسلام التحية كلمة ( السلام عليكم ) ، وهي من جوامع الكلم ; لأن المقصود من التحية تأنيس الداخل بتأمينه إن كان لا يعرفه وباللطف له إن كان معروفا .

ولفظ ( السلام ) يجمع المعنيين ; لأنه مشتق من السلامة فهو دعاء بالسلامة وتأمين بالسلام ; لأنه إذا دعا له بالسلامة فهو مسلم له فكان الخبر كناية عن التأمين ، وإذا تحقق الأمران حصل خير كثير ; لأن السلامة لا تجامع شيئا من الشر في ذات السالم ، والأمان لا يجامع شيئا من الشر يأتي من قبل المعتدي فكانت دعاء ترجى إجابته وعهدا بالأمن يجب الوفاء به . وفي كلمة ( عليكم ) معنى التمكن ، أي السلامة مستقرة عليكم .

ولكون كلمة ( السلام ) جامعة لهذا المعنى امتن الله على المسلمين بها بأن جعلها من عند الله إذ هو الذي علمها رسوله بالوحي .

[ ص: 305 ] وانتصب ( تحية ) على الحال من التسليم الذي يتضمنه ( فسلموا ) نظير عود الضمير على المصدر في قوله : اعدلوا هو أقرب للتقوى .

والمباركة : المجعولة فيها البركة . والبركة : وفرة الخير . وإنما كانت هذه التحية مباركة لما فيها من نية المسالمة وحسن اللقاء والمخالطة وذلك يوفر خير الأخوة الإسلامية .

والطيبة : ذات الطيب ، وهو طيب مجازي بمعنى النزاهة والقبول في نفوس الناس . ووجه طيب التحية أنها دعاء بالسلامة وإيذان بالمسالمة والمصافاة . ووزن ( طيبة ) فيعلة مبالغة في الوصف مثل : الفيصل . وتقدم في قوله تعالى : قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة في آل عمران وفي قوله : وجرين بهم بريح طيبة في سورة يونس .

والمعنى أن كلمة السلام عليكم تحية خير من تحية أهل الجاهلية . وهذا كقوله تعالى : وتحيتهم فيها سلام أي تحيتهم هذا اللفظ .

وجملة كذلك يبين الله لكم الآيات تكرير للجملتين الواقعتين قبلها في آية الاستئذان ; لأن في كل ما وقع قبل هذه الجملة بيانا لآيات القرآن اتضحت به الأحكام التي تضمنتها ، وهو بيان يرجى معه أن يحصل لكم الفهم والعلم بما فيه كمال شأنكم .

التالي السابق


الخدمات العلمية