الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت ) فاعلم أن أول الآية ، وهو قوله : ( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا ) يفيد التخويف العظيم على سبيل الإجمال ، وقوله بعد ذلك : ( ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت ) كالتفصيل لذلك المجمل ، والمراد بالظالمين الذين ذكرهم ، وغمرات الموت جمع غمرة ، وهي شدة الموت ، وغمرة كل شيء كثرته ومعظمه ، ومنه غمرة الماء ، وغمرة الحرب ، ويقال غمره الشيء إذا علاه وغطاه . وقال الزجاج : يقال لكل من كان في شيء كثير قد غمره ذلك ، وغمره الدين إذا كثر [ ص: 70 ] عليه ، هذا هو الأصل ، ثم يقال للشدائد والمكاره : الغمرات ، وجواب " لو " محذوف ، أي لرأيت أمرا عظيما ، ( والملائكة باسطو أيديهم ) قال ابن عباس : ملائكة العذاب باسطو أيديهم يضربونهم ويعذبونهم ، كما يقال بسط إليه يده بالمكروه ، ( أخرجوا أنفسكم ) . هاهنا محذوف ، والتقدير : يقولون أخرجوا أنفسكم ، وفيه مسألتان :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : في الآية سؤال : وهو أنه لا قدرة لهم على إخراج أرواحهم من أجسادهم ، فما الفائدة في هذا الكلام ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                            فنقول : في تفسير هذه الكلمة وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الأول : ولو ترى الظالمين إذا صاروا إلى غمرات الموت في الآخرة فأدخلوا جهنم ، فغمرات الموت عبارة عما يصيبهم هناك من أنواع الشدائد والتعذيبات ، والملائكة باسطو أيديهم عليهم بالعذاب يبكتونهم ، ويقولون لهم : أخرجوا أنفسكم من هذا العذاب الشديد إن قدرتم .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني : أن يكون المعنى : ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت عند نزول الموت بهم في الدنيا والملائكة باسطو أيديهم لقبض أرواحهم ، يقولون لهم : أخرجوا أنفسكم من هذه الشدائد ، وخلصوها من هذه الآفات والآلام .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الثالث : أن قوله : ( أخرجوا أنفسكم ) أي أخرجوها إلينا من أجسادكم ، وهذه عبارة عن العنف والتشديد في إزهاق الروح من غير تنفيس وإمهال ، وأنهم يفعلون بهم فعل الغريم الملازم الملح يبسط يده إلى من عليه الحق ويعنف عليه في المطالبة ولا يمهله ، ويقول له : أخرج إلي ما لي عليك الساعة ولا أبرح من مكاني حتى أنزعه من أحداقك .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الرابع : أن هذه اللفظة كناية عن شدة حالهم ، وأنهم بلغوا في البلاء والشدة إلى حيث تولى بنفسه إزهاق روحه .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الخامس : أن قوله : ( أخرجوا أنفسكم ) ليس بأمر ، بل هو وعيد وتقريع ، كقول القائل : امض الآن لترى ما يحل بك . قال المفسرون : إن نفس المؤمن تنشط في الخروج للقاء ربه ، ونفس الكافر تكره ذلك فيشق عليها الخروج ؛ لأنها تصير إلى أشد العذاب ، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من أراد لقاء الله أراد الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه وذلك عند نزع الروح ، فهؤلاء الكفار تكرههم الملائكة على نزع الروح .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : الذين قالوا : إن النفس الإنسانية شيء غير هذا الهيكل ، وغير هذا الجسد ، احتجوا عليه بهذه الآية ، وقالوا : لا شك أن قوله : ( أخرجوا أنفسكم ) معناه : أخرجوا أنفسكم عن أجسادكم ، وهذا يدل على أن النفس مغايرة للأجساد ، إلا أنا لو حملنا الآية على الوجهين الأولين من التأويلات الخمسة المذكورة ، لم يتم هذا الاستدلال .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( اليوم تجزون عذاب الهون ) قال الزجاج : عذاب الهون أي العذاب الذي يقع به الهوان الشديد . قال تعالى : ( أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ) [ النحل : 59 ] والمراد منه أنه تعالى جمع هناك بين الإيلام وبين الإهانة ، فإن الثواب شرطه أن يكون منفعة مقرونة بالتعظيم ، فكذلك العقاب شرطه أن [ ص: 71 ] يكون مضرة مقرونة بالإهانة . قال بعضهم : الهون هو الهوان ، والهون هو الرفق والدعة . قال تعالى : ( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا ) [ الفرقان : 63 ] وقوله : ( بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون ) وذلك يدل أن هذا العذاب الشديد إنما حصل بسبب مجموع الأمرين ؛ الافتراء على الله ، والتكبر على آيات الله . وأقول : هذان النوعان من الآفات والبلاء ترى أكثر المتوسمين بالعلم متوغلين فيه مواظبين عليه نعوذ بالله منه ، ومن آثاره ونتائجه .

                                                                                                                                                                                                                                            وذكر الواحدي : أن المراد بقوله : ( وكنتم عن آياته تستكبرون ) أي لا تصلون له ، قال عليه السلام : من سجد لله سجدة بنية صادقة فقد برئ من الكبر .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية