الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                ( الوجه العاشر وهو الثالث عشر في الحقيقة : أنا نعلم يقينا أن الحبوب من الشعير والبيضاء والذرة ونحوها كانت تزرع في مزارع المدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته ونعلم أن الدواب إذا داست فلا بد أن تروث وتبول ولو كان ذلك ينجس الحبوب لحرمت مطلقا أو لوجب تنجيسها .

                وقد أسلمت الحجاز واليمن ونجد وسائر جزائر العرب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وبعث إليهم سعاته وعماله يأخذون عشور حبوبهم من الحنطة وغيرها وكانت سمراء الشام تجلب إلى المدينة فيأكل منها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون على عهده وعامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع وكان يعطي المرأة من نسائه ثمانين وسق شعير من غلة خيبر وكل هذه [ ص: 582 ] تداس بالدواب التي تروث وتبول عليها فلو كانت تنجس بذلك لكان الواجب على أقل الأحوال تطهير الحب وغسله ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك ولا فعل على عهده فعلم أنه صلى الله عليه وسلم لم يحكم بنجاستها .

                ولا يقال : هو لم يتيقن أن ذلك الحب الذي أكله مما أصابه البول والأصل الطهارة ; لأنا نقول : فصاحب الحب قد تيقن نجاسة بعض حبه واشتبه عليه الطاهر بالنجس فلا يحل له استعمال الجميع ; بل الواجب تطهير الجميع ; كما إذا علم نجاسة بعض البدن أو الثوب أو الأرض وخفي عليه مكان النجاسة غسل ما يتيقن به غسلها وهو لم يأمر بذلك .

                ثم اشتباه الطاهر بالنجس نوع من اشتباه الطعام الحلال بالحرام فكيف يباح أحدهما من غير تحر ؟ فإن القائل : إما أن يقول يحرم الجميع وإما أن يقول بالتحري فأما الأكل من أحدهما بلا تحر فلا أعرف أحدا جوزه وإنما يستمسك بالأصل مع تيقن النجاسة ولا محيص عن هذا الدليل إلا إلى أحد أمرين : إما أن يقال : بطهارة هذه الأبوال والأرواث أو أن يقال : عفي عنها في هذا الموضع للحاجة . كما يعفى عن ريق الكلب في بدن الصيد على أحد [ ص: 583 ] الوجهين وكما يطهر محل الاستنجاء بالحجر في أحد الوجهين إلى غير ذلك من مواضع الحاجات .

                فيقال : الأصل فيما استحل جريانه على وفاق الأصل فمن ادعى أن استحلال هذا مخالف للدليل ; لأجل الحاجة فقد ادعى ما يخالف الأصل فلا يقبل منه إلا بحجة قوية وليس معه من الحجة ما يوجب أن يجعل هذا مخالفا للأصل .

                ولا شك أنه لو قام دليل يوجب الحظر لأمكن أن يستثنى هذا الموضع فأما ما ذكر من العموم الضعيف والقياس الضعيف فدلالة هذا الموضع على الطهارة المطلقة أقوى من دلالة تلك على النجاسة المطلقة على ما تبين عند التأمل . على أن ثبوت طهارتها والعفو عنها في هذا الموضع أحد موارد الخلاف فيبقى إلحاق الباقي به بعدم القائل بالفرق .

                ومن جنس هذا : ( الوجه الحادي عشر وهو الرابع عشر : وهو إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم في كل عصر ومصر على دياس الحبوب من الحنطة وغيرها بالبقر ونحوها مع القطع ببولها وروثها على الحنطة ولم ينكر ذلك منكر ولم يغسل الحنطة لأجل هذا أحد ولا احترز عن شيء مما في البيادر لوصول البول إليه . [ ص: 584 ] والعلم بهذا كله علم اضطراري ما أعلم عليه سؤالا ولا أعلم لمن يخالف هذا شبهة .

                وهذا العمل إلى زماننا متصل في جميع البلاد لكن لم نحتج بإجماع الأعصار التي ظهر فيها هذا الخلاف ; لئلا يقول المخالف أنا أخالف في هذا وإنما احتججنا بالإجماع قبل ظهور الخلاف .

                وهذا الإجماع من جنس الإجماع على كونهم كانوا يأكلون الحنطة ويلبسون الثياب ويسكنون البناء فإنا نتيقن أن الأرض كانت تزرع ونتيقن أنهم كانوا يأكلون ذلك الحب ويقرون على أكله ونتيقن أن الحب لا يداس إلا بالدواب ونتيقن أن لا بد أن تبول على البيدر الذي يبقى أياما ويطول دياسها له وهذه كلها مقدمات يقينية .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية