الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ثم قال تعالى : للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله الآية . قال الأستاذ الإمام : بعد ما أمر الله - تعالى - بالإنفاق في سبيله وبإيتاء الفقراء عامة نبه إلى أمرين : أحدهما عدم التحرج من الصدقة على غير المسلم ، وهو ما بينته الآية السابقة ، وثانيهما : بيان أحق الناس بالصدقة وهم الفقراء الذين ذكرت صفاتهم في هذه الآية ، وهي خمس صفات من أفضل الصفات [ ص: 73 ] وأعلاها ، وقد ورد أنها نزلت في أهل الصفة وهم أربعمائة أرصدوا أنفسهم لحفظ القرآن والخروج مع السرايا ، ولعل ما ذكره كغيره هو أكثر ما انتهى إليه عددهم ، والمشهور أن متوسط عددهم كان ثلاثمائة والذين عرفت أسماؤهم منهم لا يبلغون مائة وهم من فقراء المهاجرين ، لم يكن لأكثرهم مأوى ; لذلك كانوا يقيمون في صفة المسجد وهي موضع مظلل منه ، فالصفة - بالضم - كالظلة لفظا ومعنى ( قال ) أولئك الذين نزلت فيهم الآية كانوا من الذين هاجروا بدينهم وتركوا أموالهم فحيل بينهم وبينها ، فهم محصرون في سبيل الله بهذه الهجرة ، ومحصرون بحبس أنفسهم على حفظ القرآن ، وقد كان حفظه أفضل العبادات على الإطلاق ; لأنه حفظ للدين كله وأنتم تعرفون أنهم ما كانوا يحفظونه لأجل تلاوته أمام الجنائز ، ولا في الأعراس والمآتم ، ولا لاستجداء الناس به ، ولا لمجرد التعبد بتلاوة ألفاظه ، وإنما كانوا يحفظونه للفهم والاهتداء والعمل به ، ولحفظ أصل الدين بحفظه ، وكانوا أيضا يحفظون ما يبينه به النبي - صلى الله عليه وسلم - من سنته .

                          ( قال ) ويحتج بأهل الصفة أكلة أموال الناس بالباطل من أهل التكايا الذين ينقطعون إليها تاركين للأعمال النافعة ، فلا يتعلمون العلم ولا يجاهدون في سبيل الله وليس فيهم صفة من الصفات الخمس التي وصف الله بها أهل الصفة ، وإنما قصارى أمرهم أنهم يأكلون بدينهم ، يأكلون الصدقات والأوقاف لأجل أن يعبدوا الله - تعالى - في هذه المواضع خاصة ، فهي لهم كالأديار للنصارى وهم فيها كالرهبان وإن كان بعضهم يتزوج - وقد يخرج الذي يتزوج من التكية لأنه قد يكون من شروط المقيم فيها ألا يتزوج - ومنهم من لا يلتزم الإقامة في التكية وإنما يجمعه بأصحابها اسم الطريقة ، كأصحاب السيارات الذين ينزل شيخ الطريقة منهم بزعنفة من جماعته بلدا بعد آخر ، فيكلفون من يستضيفونه الذبائح والطعام الكثير ، ثم لا يخرجون إلا مثقلين ، يسألون فيلحفون ، بل يسلبون وينهبون ، فإذا منعوا ما أرادوا انتقموا لأنفسهم بكل ما قدروا عليه من أنواع الانتقام ، أقول : إن الناس يحفظون عنهم شيئا كثيرا من ضروب الإيذاء ، ومنه ما يبرزونه في معرض الكرامات والخوارق ، حدثني غير واحد أن من الفلاحين من قصر في إجابة مطالب بعض الشيوخ عندما نزل وزعنفته به فأحرقوا له جرن ( بيدر ) الحنطة ، وزعموا أن الله أحرقه بغير فعل فاعل كرامة لشيخهم ، وحدثت أن بعضهم اتخذ في رأس العلم الذي يحمل فوق رأسه عدسة من الزجاج كان يوجهها من ناحية الشمس إلى الجرن الذي يريد إحراقه من حيث لا يشعر الفلاحون ، ويقول : إنه يريد التصرف فيه ، فيقع الحريق فيه ولم يدن أحد منه ، فلا يشك الفلاحون الجاهلون في أن الحريق كان كرامة للشيخ الذي لا حرفة له إلا أكل أموال الناس بالكذب على الله - تعالى - وادعاء الولاية والقرب منه ، وهؤلاء الأشرار الضالون [ ص: 74 ] هم الذين يشبهون أنفسهم بأهل الصفة ، ويزعمون أن لأكلهم أموال الناس بالباطل أصلا في الكتاب والسنة ، وحاش لكتاب الله وسنة رسوله من ذلك .

                          ما ذكره الأستاذ الإمام من نزول الآية في أهل الصفة هو المروي عن ابن عباس ، ومحمد بن كعب القرظي ، وعن سعيد بن جبير أنها نزلت في قوم أصابتهم الجراحات في سبيل الله - تعالى - فصاروا زمنى ، فجعل لهم في أموال المسلمين حقا ، والقاعدة الأصولية : أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فكل من اتصف بهذه الصفة من الفقراء كان له حكم من نزلت فيهم الآية من استحقاق الصدقة ، وقد رأيت المفسرين أوجزوا في تفسير هذه الصفات ، فأحببت أن أبسط القول فيها فأقول :

                          ( الصفة الأولى ) الإحصار في سبيل الله فقوله - تعالى - : أحصروا في سبيل الله بالبناء للمفعول ، يدل على المراد بالإحصار المانع من الكسب فيه بسبب اضطراري ، ويفهم منه أن حبس النفس في سبيل الله ، أي في الأعمال المشروعة التي تقوم بها المصالح كالجهاد والعلم لا ينبغي أن يمنع الإنسان عن الكسب الذي يستطيعه للقيام بأوده بل يطلب منه أن يعمل للمصلحة العامة في أوقات الفراغ من العمل الذي به قوام معيشته ، فإن ترك الكسب مختارا لم يحل له أن يأخذ الصدقة ، أما السبب الاضطراري للإحصار عن الكسب فمنه ما هو طبيعي كالعجز وما هو شرعي كالعلم بتعطيل المصلحة العامة التي أحصر فيها إذا هو تركها لأجل الكسب ، فإن تعين الناس لذلك بأن كان غيرهم يعجز عن القيام بالمصلحة وكان جمعهم بينه وبين الكسب متعذرا وجب عليهم ترك الكسب وحبس أنفسهم في سبيل الله ، وكانوا بذلك محصرين بالاضطرار الشرعي ، ووجبت نفقتهم في بيت المال ، وإلا فعلى أغنياء الأمة ، وإن لم يتعين لذلك أناس مخصوصون كان الأمر من فروض الكفاية كما هو ظاهر ، ومنه الإحصار لتعلم الفنون العسكرية .

                          ( الصفة الثانية ) قوله - تعالى - : لا يستطيعون ضربا في الأرض أي إنهم عاجزون عن الكسب ، والضرب في الأرض هو السفر لنحو التجارة ، وبذلك فسره المفسرون هنا ، وهنا يؤيد ما قلناه آنفا من اشتراط الاضطرار فيما يحصر عنه وإن كان ما يحصر فيه اختياريا ; وإن القادر على الكسب ولو بالسفر لا يحل له أن يأكل الصدقة .

                          ( الصفة الثالثة ) قوله : يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف أي إذا رآهم الجاهل بحقيقة حالهم يظنهم أغنياء لما هم عليه من التعفف ، وهو المبالغة في التنزه عن الطمع فيما في أيدي الناس ، وكل ما لا يليق كالقبيح والمحرم ، وقد فسر أهل اللغة التعفف : بالعفة وبالصبر والنزاهة عن الشيء ، وجعله المفسرون هنا للتكلف ، ولكن صيغة " تفعل " تأتي لتكلف الشيء ، وللمبالغة فيه ، والثاني أظهر هنا ، لأن من يتكلف العفة قلما يخفى حاله على رائيه ، [ ص: 75 ] وأما المبالغ في العفة فهو الذي لا يكاد يظهر عليه أثر الحاجة ، فهو المتبادر هنا ، والمقام مقام المدح والمبالغ في الفضيلة أحق به من متكلفها .

                          ( الصفة الرابعة ) قوله - تعالى - : تعرفهم بسيماهم أي بعلاماتهم الخاصة بهم ، قيل : هي الخشوع والتواضع ، وقيل : هي الرثاثة في الثياب أو الحال ، وليسا بشيء ، وقيل : بآثار الجوع والحاجة في الوجه ، وهذا قريب ، والصواب أن هذه السيما لا تتعين بهيأة خاصة لاختلافها باختلاف الأشخاص والأحوال ، وإنما تترك إلى فراسة المؤمن الذي يتحرى بالإنفاق أهل الاستحقاق ، فصاحب الحاجة لا يخفى على المتفرس مهما تستر وتعفف ، فكم من سائل يأتيك رث الثياب خاشع الطرف والصوت تعرف من سيماه أنه يسأل تكثرا وهو غني ، وكم من رجل يقابلك بطلاقة وجه وحسن بزة فتحكم بالفراسة في لحن قوله ، ومعارف وجهه أنه مسكين عزيز النفس .

                          ( الصفة الخامسة ) قوله - تعالى - : لا يسألون الناس إلحافا أي لا يسألون الناس شيئا مما في أيديهم سؤال إلحاح ، كما هو شأن الشحاذين ، وأهل الكدية المعروفين ، فالإلحاف : هو الإلحاح في السؤال ، وظاهر العبارة نفي سؤال الإلحاف لا مطلق السؤال ، وأما ظاهر السياق فهو أن القيد لبيان حال السائلين في العادة ، وأن النفي للسؤال مطلقا ، والمعنى أنهم لا يسألون أحدا شيئا لا سؤال إلحاف ولا سؤال رفق واستعطاف ، وعليه المحققون . وهذا الذي اخترناه هو ما تؤيده الأخبار ، ففي حديث أبي هريرة في الصحيحين قال :قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان ، واللقمة واللقمتان ، إنما المسكين الذي يتعفف ، اقرءوا إن شئتم : لا يسألون الناس إلحافا وفي لفظ : ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان ، والتمرة والتمرتان ، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ، ولا يفطن له فيتصدق عليه ، ولا يقوم فيسأل الناس .

                          والسؤال محرم في الإسلام لغير ضرورة ، روى أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه ، وابن ماجه من حديث أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : المسألة لا تحل إلا لثلاثة : لذي فقر مدقع ، أو لذي غرم مفظع ، أو لذي دم موجع فالفقر المدقع : هو الشديد الذي يلصق صاحبه بالدقعاء ، وهي الأرض التي لا نبات فيها ، والغرم - بالضم - ما يلزم أداؤه تكلفا لا في مقابلة عوض ، ومنه ما يحمله الإنسان من النفقة لإصلاح ذات البين ولنحو ذلك من أعمال البر ، كدفع مظلمة وحفظ مصلحة ، فله أن يسأل الناس مساعدته على ما يحمله من المغارم . وقد اشترط في الحديث أن يكون الغرم الذي تسأل الإعانة عليه مفظعا أي شديدا فظيعا ، فإذا تحمل غرما خفيفا يسهل عليه أداؤه فليس له أن يسأل لأجله ، ويختلف ذلك باختلاف حال المتحملين ، وأما ذو الدم الموجع فهو الذي يتحمل الدية عن الجاني من قريب أو حميم أو نسيب لئلا يقتل فيتوجع لقتله .

                          وروى أبو داود والترمذي من حديث عبد الله بن عمرو ، والنسائي وابن ماجه من [ ص: 76 ] حديث أبي هريرة ، وأحمد من حديثهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي وقد حسنه الترمذي ، ولبعضهم مقال في بعض رجاله . وروى أحمد وأبو داود والنسائي والدارقطني عن عبيد الله بن عدي بن الخيار " أن رجلين أخبراه أنهما أتيا النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألانه من الصدقة ، فقلب فيهما البصر ورآهما جلدين ، فقال : إن شئتما أعطيتكما ، ولا حظ فيها لغني ، ولا لقوي مكتسب " قال أحمد في هذا الحديث : هو أجودها إسنادا ، قاله في المنتقى . وروي عنه أنه قال : ما أجوده من حديث . والمرة في الحديث الأول - بكسر الميم - القوة والسوي الخلق : السليم الأعضاء ، والمراد به القادر على الكسب . وروى أحمد وأبو داود وابن حبان عن سهل ابن الحنظلية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم ، قالوا : يا رسول الله وما يغنيه ؟ قال: ما يغديه أو يعشيه وعند أبي داود يغديه ويعشيه وقد احتج الإمام أحمد بهذا الحديث وصححه ابن حبان . وروى أحمد والشيخان من حديث أبي هريرة . قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لأن يغدو أحدكم فيحتطب على ظهره فيتصدق منه ويستغني به عن الناس خير له من أن يسأل رجلا أعطاه أو منعه وروى أحمد ومسلم وابن ماجه من حديثه أيضا : من سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمرا ، فليستقل أو ليستكثر .

                          وأما الحديث المشهود : للسائل حق وإن جاء على فرس فقد رواه أحمد وأبو داود من حديث الحسين بن علي ، والروايات عنه كلها مراسيل ، وفي إسناد الحديث ليعلى بن أبي يحيى ، قال أبو حاتم الرازي مجهول ، وقد حملوه على تحسين الظن بالمسلم ، وأنه لم يسأل إلا لحاجة تبيح له السؤال المحرم . قال في نيل الأوطار : فيه ، أي الحديث الآمر بحسن الظن بالمسلم الذي امتهن نفسه بذل السؤال فلا يقابله بسوء الظن واحتقاره ، بل يكرمه بإظهار السرور له ، ويقدر أن الفرس التي تحته عارية ، أو أنه ممن يجوز له أخذ المحرم ، كتحمل غرم أو دية أو ضرورة عارضة فما كل سائل لفقره هو ، فالأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - كان يسأل بعض أصدقائه الموسرين ، أي يطلب منهم المال للجمعية الخيرية ولغيرها من أعمال البر ، وما كل من يسأل تكثرا ويجعل السؤال حرفة ، والأصل في المؤمن أن يكون عزيز النفس متنزها عن الحرام فلا يسأل إلا لضرورة تبيح له السؤال ، فينبغي أن يجعل الغني قدرا معينا من ماله الذي يعده للصدقات لما يعرض من أمثال هذه الحاجات أو الضرورات ، ومن يعلم أنه يسأل لنفسه تكثرا كالشحاذين الذين جعلوا السؤال حرفة [ ص: 77 ] وهم قادرون على العمل فلا يعطون إذ لا حق لهم في هذا المال كما علم من الأحاديث السابقة ، وقد رأى عمر - رضي الله عنه - سائلا يحمل جرابا فأمر أن ينظر ما فيه فإذا هو خبز ، فأمر بأن يؤخذ منه ويلقى إلى إبل الصدقة .

                          ثم قال - تعالى - بعد بيان الناس بالصدقة : وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم لا يخفى عليه حسن النية فيه وتحري النفع به ووضعه في موضعه وإيتائه أحق الناس فأحقهم به ، فهو يجازي عليه بحسب ذلك ، فالجملة تذييل مرغب في الإنفاق على الوجه الذي سيقت الهداية إليه .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية