الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 10 ] ( قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ) .

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أنه تعالى لما علم رسوله أنواع دلائل التوحيد ، والرد على القائلين بالشركاء والأنداد والأضداد وبالغ في تقرير إثبات التوحيد والنافين للقضاء والقدر ، ورد على أهل الجاهلية في أباطيلهم ، أمره أن يختم الكلام بقوله : ( إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ) وذلك يدل على أن الهداية لا تحصل إلا بالله ، وانتصب "دينا" لوجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : على البدل من محل صراط ؛ لأن معناه هداني ربي صراطا مستقيما كما قال : ( ويهديك صراطا مستقيما ) [الفتح : 2] .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن يكون التقدير : الزموا دينا ، وقوله : ( قيما ) قال صاحب "الكشاف" : القيم فيعل من قام كسيد من ساد وهو أبلغ من القائم ، وقرأ أهل الكوفة : ( قيما ) مكسورة القاف خفيفة الياء ، قال الزجاج : هو مصدر بمعنى القيام كالصغر والكبر والحول والشبع ، والتأويل : دينا ذا قيم ، ووصف الدين بهذا الوصف على سبيل المبالغة .

                                                                                                                                                                                                                                            وقوله : ( ملة إبراهيم حنيفا ) فقوله : ( ملة ) بدل من قوله : ( دينا قيما ) وحنيفا منصوب على الحال من إبراهيم ، والمعنى : هداني ربي وعرفني ملة إبراهيم حال كونها موصوفة بالحنيفية ، ثم قال في صفة إبراهيم : ( وما كان من المشركين ) والمقصود منه الرد على المشركين .

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين )

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أنه تعالى كما عرفه الدين المستقيم عرفه كيف يقوم به ويؤديه ، فقوله : ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ) يدل على أنه يؤديه مع الإخلاص وأكده بقوله : ( لا شريك له ) وهذا يدل على أنه لا يكفي في العبادات أن يؤتى بها كيف كانت بل يجب أن يؤتى بها مع تمام الإخلاص ، وهذا من أقوى الدلائل على أن شرط صحة الصلاة أن يؤتى بها مقرونة بالإخلاص .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( ونسكي ) فقيل : المراد بالنسك الذبيحة بعينها ، يقول : من فعل كذا فعليه نسك ؛ أي : دم يهريقه ، وجمع بين الصلاة والذبح ، كما في قوله : ( فصل لربك وانحر ) [الكوثر : 2] وروى ثعلب عن ابن الأعرابي أنه قال : النسك سبائك الفضة ، كل سبيكة منها نسيكة ، وقيل للمتعبد ناسك ؛ لأنه خلص نفسه من دنس الآثام ، وصفاها كالسبيكة المخلصة من الخبث ، وعلى هذا التأويل ، فالنسك كل ما تقربت به إلى الله تعالى . إلا أن الغالب عليه في العرف الذبح ، وقوله : ( ومحياي ومماتي ) أي حياتي وموتي لله .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 11 ] واعلم أنه تعالى قال : ( إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ) فأثبت كون الكل لله ، والمحيا والممات ليسا لله بمعنى أنه يؤتى بهما لطاعة الله تعالى ، فإن ذلك محال ، بل معنى كونهما لله أنهما حاصلان بخلق الله تعالى ، فكذلك أن يكون كون الصلاة والنسك لله مفسرا بكونهما واقعين بخلق الله ، وذلك من أدل الدلائل على أن طاعات العبد مخلوقة لله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            وقرأ نافع ( محياي ) ساكنة الياء ونصبها في مماتي ، وإسكان الياء في محياي شاذ غير مستعمل ، لأن فيه جمعا بين ساكنين لا يلتقيان على هذا الحد في نثر ولا نظم ، ومنهم من قال : إنه لغة لبعضهم ، وحاصل الكلام ، أنه تعالى أمر رسوله أن يبين أن صلاته وسائر عباداته وحياته ومماته كلها واقعة بخلق الله تعالى ، وتقديره وقضائه وحكمه ، ثم نص على أن لا شريك له في الخلق ، والتقدير : ثم يقول وبذلك أمرت : أي وبهذا التوحيد أمرت .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم يقول : ( وأنا أول المسلمين ) أي المستسلمين لقضاء الله وقدره ، ومعلوم أنه ليس أولا لكل مسلم ، فيجب أن يكون المراد كونه أولا لمسلمي زمانه .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية