الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون .

                                                                                                                                                                                                                                      اختلف العلماء في معنى قوله : ليعبدون ، فقال بعضهم : المعنى ما خلقتهم إلا ليعبدني السعداء منهم ويعصيني الأشقياء ، فالحكمة المقصودة من إيجاد الخلق التي هي عبادة الله حاصلة بفعل السعداء منهم كما يدل عليه قوله تعالى : فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين [ 6 \ 89 ] ، وهذا القول نقله ابن جرير عن زيد بن أسلم وسفيان .

                                                                                                                                                                                                                                      وغاية ما يلزم على هذا القول أنه أطلق فيها المجموع وأراد بعضهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأمثال ذلك كثيرة في القرآن ، ومن أوضحها قراءة حمزة والكسائي : " فإن قتلوكم فاقتلوهم " ، من القتل لا من القتال ، وقد بينا هذا في مواضع متعددة ، وذكرنا أن من شواهده العربية قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      فسيف بني عبس وقد ضربوا به نبا من يدي ورقاء عن رأس خالد

                                                                                                                                                                                                                                      فتراه نسب الضرب لبني عبس مع تصريحه أن الضارب الذي نبا بيده السيف عن رأس خالد يعني ابن جعفر الكلابي ، هو ورقاء يعني ابن زهير العبسي .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد قدمنا في الحجرات أن من ذلك قوله تعالى : قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا [ 49 \ 147 ] ، بدليل قوله : ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر إلى قوله : سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم [ 9 \ 99 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعض العلماء : معنى قوله : إلا ليعبدون : أي " إلا ليقروا لي بالعبودية طوعا [ ص: 445 ] أو كرها " ، لأن المؤمن يطيع باختياره والكافر مذعن منقاد لقضاء ربه جبرا عليه ، وهذا القول رواه ابن جرير عن ابن عباس واختاره ، ويدل له قوله تعالى : ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها [ 13 \ 15 ] ، والسجود والعبادة كلاهما خضوع وتذلل لله - جل وعلا - وقد دلت الآية على أن بعضهم يفعل ذلك طوعا وبعضهم يفعله كرها .

                                                                                                                                                                                                                                      وعن مجاهد أنه قال : إلا ليعبدون : أي إلا ليعرفوني . واستدل بعضهم لهذا القول بقوله : ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله [ 43 \ 87 ] ، ونحو ذلك من الآيات وهو كثير في القرآن ، وقد أوضحنا كثرته فيه في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعض أهل العلم : وهو مروي عن مجاهد أيضا معنى قوله : إلا ليعبدون : أي إلا لآمرهم بعبادتي فيعبدني من وفقته منهم لعبادتي دون غيره ، وعلى هذا القول : فإرادة عبادتهم المدلول عليها باللام في قوله : ليعبدون - إرادة دينية شرعية وهي الملازمة للأمر ، وهي عامة لجميع من أمرتهم الرسل لطاعة الله ، لا إرادة كونية قدرية ، لأنها لو كانت كذلك لعبده جميع الإنس والجن ، والواقع خلاف ذلك بدليل قوله تعالى : قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد إلى آخر السورة .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : التحقيق - إن شاء الله - في معنى هذه الآية الكريمة إلا ليعبدون ، أي إلا لآمرهم بعبادتي وأبتليهم أي أختبرهم بالتكاليف ، ثم أجازيهم على أعمالهم ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، وإنما قلنا إن هذا هو التحقيق في معنى الآية ، لأنه تدل عليه آيات محكمات من كتاب الله ، فقد صرح تعالى في آيات من كتابه أنه خلقهم ليبتليهم أيهم أحسن عملا ، وأنه خلقهم ليجزيهم بأعمالهم .

                                                                                                                                                                                                                                      قال تعالى في أول سورة هود : وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء [ 11 \ 7 ] ، ثم بين الحكمة في ذلك فقال : ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين [ 11 \ 7 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 446 ] وقال تعالى في أول سورة الملك : الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ 67 \ 2 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال تعالى في أول سورة الكهف : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا [ 18 \ 7 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      فتصريحه - جل وعلا - في هذه الآيات المذكورة بأن حكمة خلقه للخلق ، هي ابتلاؤهم أيهم أحسن عملا ، يفسر قوله : ليعبدون . وخير ما يفسر به القرآن - القرآن .

                                                                                                                                                                                                                                      ومعلوم أن نتيجة العمل المقصود منه لا تتم إلا بجزاء المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ، ولذا صرح تعالى بأن حكمة خلقهم أولا وبعثهم ثانيا ، هو جزاء المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ، وذلك في قوله تعالى في أول يونس : إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون [ 10 \ 4 ] ، وقوله في النجم : ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى [ 53 \ 31 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أنكر تعالى على الإنسان حسبانه وظنه أنه يترك سدى ، أي مهملا ، لم يؤمر ولم ينه ، وبين أنه ما نقله من طور إلى طور حتى أوجده إلا ليبعثه بعد الموت أي ويجازيه على عمله ، قال تعالى : أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى إلى قوله : أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى [ 75 \ 36 - 40 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      والبراهين على البعث دالة على الجزاء ، وقد نزه تعالى نفسه عن هذا الظن الذي ظنه الكفار به تعالى ، وهو أنه لا يبعث الخلق ولا يجازيهم منكرا ذلك عليهم في قوله : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم [ 23 \ 115 - 116 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في أول سورة الأحقاف في الكلام على قوله تعالى : ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى [ 46 \ 3 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية