الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          260 - مسألة :

                                                                                                                                                                                          وللرجل أن يتلذذ من امرأته الحائض بكل شيء ، حاشا الإيلاج في الفرج ، وله أن يشفر ولا يولج ، وأما الدبر فحرام في كل وقت .

                                                                                                                                                                                          وفي هذا خلاف فروينا عن ابن عباس أنه كان يعتزل فراش امرأته إذا حاضت وقال عمر بن الخطاب وسعيد بن المسيب وعطاء - إلا أنه لا يصح عن عمر - وأبو حنيفة ومالك والشافعي : له ما فوق الإزار من السرة فصاعدا إلى أعلاها ، وليس له ما دون ذلك .

                                                                                                                                                                                          فأما من ذهب مذهب ابن عباس فإنه احتج بقول الله تعالى : { ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن } ، وبحديث رويناه من طريق أبي داود عن سعيد بن عبد الجبار عن عبد العزيز الدراوردي عن أبي اليمان عن أم ذرة عن عائشة أم المؤمنين قالت " كنت إذا حضت نزلت عن المثال على الحصير فلم نقرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ندن منه حتى نطهر .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وأما هذا الخبر فإنه من طريق أبي اليمان كثير بن اليمان الرحال وليس بالمشهور ، عن أم ذرة وهي مجهولة فسقط ، وأما الآية فهي موجبة لفعل ابن عباس [ ص: 396 ] إلا أن يأتي بيان صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيوقف عنده ، فأرجأنا أمر الآية .

                                                                                                                                                                                          ثم نظرنا فيما احتج به من ذهب إلى ما قال به أبو حنيفة ومالك ، فوجدناهم يحتجون بخبر رويناه من طريق ابن وهب عن مخرمة بن بكير عن أبيه عن كريب مولى ابن عباس سمعت ميمونة أم المؤمنين قالت { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضطجع معي وأنا حائض وبيني وبينه ثوب } .

                                                                                                                                                                                          وبحديث آخر رويناه من طريق الليث بن سعد عن الزهري عن حبيب مولى عروة عن ندبة مولاة ميمونة { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يباشر المرأة من نسائه وهي حائض إذا كان عليها إزار يبلغ أنصاف الفخذين أو الركبتين وهي محتجزة } .

                                                                                                                                                                                          وبحديث رويناه من طريق أبي خليفة عن مسدد عن أبي عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه { عن عائشة أنها كانت تنام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حائض وبينهما ثوب } .

                                                                                                                                                                                          وبخبر رويناه عن أبي إسحاق عن عاصم بن عمرو العجلي { أن نفرا سألوا عمر فقال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما يحل للرجل من امرأته حائضا ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لك ما فوق الإزار ، لا تطلعن إلى ما تحته حتى تطهر } .

                                                                                                                                                                                          وروي أيضا عن أبي إسحاق عن عمير مولى عمر مثله ، وعن عبد الرحمن بن مهدي عن مالك بن مغول عن عاصم بن عمرو : عن عمر مثله . ورويناه أيضا عن مسدد عن أبي الأحوص عن طارق بن عبد الرحمن عن عاصم بن عمرو . وبحديث رويناه من طريق هارون بن محمد بن بكار ثنا مروان يعني ابن محمد - حدثنا الهيثم بن حميد ثنا العلاء بن الحارث { عن حرام بن حكيم عن عمه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما يحل لي من امرأتي وهي حائض ؟ قال : لك ما فوق الإزار } .

                                                                                                                                                                                          وبخبر رويناه من طريق هشام بن عبد الملك اليزني عن بقية بن الوليد عن سعيد بن عبد الله الأغطش عن عبد الرحمن بن عائذ الأزدي هو ابن قرط أمير حمص - عن معاذ بن جبل { سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يحل للرجل من امرأته وهي حائض ؟ قال : ما فوق الإزار ، والتعفف عن ذلك أفضل } . [ ص: 397 ] وبحديث رويناه من طريق عبد الرحيم بن سليمان ثنا محمد بن كريب عن كريب { عن ابن عباس أنه سئل عما يحل من المرأة وهي حائض لزوجها ؟ قال : سمعنا والله أعلم إن كان قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كذلك : يحل ما فوق الإزار } .

                                                                                                                                                                                          وبخبر رويناه من طريق محمد بن الجهم عن محمد بن الفرج عن يونس بن محمد ثنا عبد الله بن عمر عن ابن النضر عن أبي سلمة عن عائشة { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل ما يحل للرجل من امرأته ؟ قال : ما فوق الإزار } .

                                                                                                                                                                                          فنظرنا في هذه الآثار فوجدناها لا يصح منها شيء ، أما حديثا ميمونة فأحدهما عن مخرمة بن بكير عن أبيه ولم يسمع من أبيه ، وأيضا فقد قال فيه ابن معين : مخرمة هو ضعيف ليس حديثه بشيء ، والآخر من طريق ندبة وهي مجهولة لا تعرف ، وأبو داود يروي هذا الحديث عن الليث فقال : قال ندبة بفتح النون والدال ومعمر يرويه ويقول : ندبة بضم النون وإسكان الدال ، ويونس يقول بدية ، بالباء المضمومة والدال المفتوحة والياء المشددة ، كلهم يرويه عن الزهري كذلك ، فسقط خبرا ميمونة " .

                                                                                                                                                                                          وأما حديثا عائشة فأحدهما من طريق عمر بن أبي سلمة ، وقد ضعفه شعبة ولم يوثقه أحد فسقط ، وأما الثاني : فمن طريق عبد الله بن عمر وهو العمري الصغير ، وهو متفق على ضعفه ، إنما الثقة أخوه عبيد الله ، فسقط حديثا عائشة . وأما حديث عمر فإن أبا إسحاق لم يسمعه من عمير مولى عمر ، هكذا رويناه من طريق زهير بن حرب : ثنا عبد الله بن جعفر المخرمي ثنا عبيد الله بن عمرو الجزري عن زيد بن أبي أنيسة عن أبي إسحاق عن عاصم بن عمرو عن عمير مولى عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر هذا الحديث نصا ، فسقط إسناده لأن عاصم بن عمرو لم يسمعه من عمر بل رواه كما ذكرنا منقطعا عن عمير ، ورويناه أيضا عن زهير بن معاوية عن أبي إسحاق عن عاصم بن عمرو الشامي عن أحد النفر الذين أتوا عمر فذكر هذا الحديث بنصه ، ورويناه أيضا من طريق شعبة قال : سمعت عاصم بن عمرو البجلي يحدث عن رجل من القوم الذين سألوا عمر فذكر الحديث نفسه فإنما رواه عاصم عن رجل مجهول عن مجهولين ، فسقط جملة . ثم نظرنا في حديث حرام بن حكيم عن عمه فوجدناه لا يصح ; لأن حرام بن حكيم ضعيف ، وهو الذي روى غسل الأنثيين من المذي ، وأيضا فإن هذا الخبر رواه [ ص: 398 ] عن حرام مروان بن محمد وهو ضعيف .

                                                                                                                                                                                          ثم نظرنا في حديث معاذ فوجدناه لا يصح ; لأنه عن بقية وليس بالقوي ، عن سعيد الأغطش وهو مجهول ، مع ما فيه من أن التعفف عن ذلك أفضل ، وهم لا يقولون بهذا .

                                                                                                                                                                                          ثم نظرنا في حديث ابن عباس فوجدناه لم يحقق إسناده ، فسقطت هذه الأخبار كلها ولم يجز التعلق بشيء منها . ثم نظرنا فيما قلناه فوجدنا الصحيح عن ميمونة وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنهما هو ما رويناه من طريق عبد الله بن شداد عن ميمونة { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر نساءه فوق الإزار وهن حيض } .

                                                                                                                                                                                          وما رويناه من طريق عبد الرحمن بن الأسود وإبراهيم النخعي كلاهما عن الأسود { عن عائشة أنه عليه السلام كان يأمرها أن تتزر في فور حيضتها ثم يباشرها ، وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك إربه } .

                                                                                                                                                                                          حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا عمرو بن منصور ثنا هشام بن عبد الملك هو الطيالسي - ثنا يحيى بن سعيد هو القطان - حدثني جابر بن صبح قال : سمعت خلاس بن عمرو يقول سمعت { عائشة أم المؤمنين تقول كنت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعار الواحد وأنا حائض ، فإن أصابه مني شيء غسله لم يعده إلى غيره وصلى فيه ثم يعود معي } .

                                                                                                                                                                                          حدثنا عبد الله بن ربيع حدثنا محمد بن إسحاق ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود ثنا موسى بن إسماعيل ثنا حماد هو ابن سلمة - عن أيوب عن عكرمة عن بعض أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد من الحائض شيئا ألقى على فرجها ثوبا } .

                                                                                                                                                                                          حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا زهير بن حرب ثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا حماد بن سلمة ثنا ثابت هو البناني - عن أنس بن مالك { أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت ، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فأنزل الله تعالى : { ويسألونك عن المحيض قل هو أذى [ ص: 399 ] فاعتزلوا النساء في المحيض } إلى آخر الآية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اصنعوا كل شيء إلا النكاح } .

                                                                                                                                                                                          فكان هذا الخبر بصحته ، وبيان أنه كان إثر نزول الآية هو البيان عن حكم الله تعالى في الآية ، وهو الذي لا يجوز تعديه ، وأيضا فقد يكون المحيض في اللغة موضع الحيض وهو الفرج ، وهذا فصيح معروف ، فتكون الآية حينئذ موافقة للخبر المذكور ، ويكون معناها : فاعتزلوا النساء في موضع الحيض ، وهذا هو الذي صح عمن جاء عنه في ذلك شيء من الصحابة رضي الله عنهم ، كما روينا عن أيوب السختياني عن أبي معشر عن إبراهيم النخعي عن مسروق قال : سألت عائشة : ما يحل لي من امرأتي وهي حائض ؟ قالت كل شيء إلا الفرج ، وعن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { فاعتزلوا النساء في المحيض } قال : اعتزلوا نكاح فروجهن ، وهو قول أم سلمة أم المؤمنين ومسروق والحسن وعطاء وإبراهيم النخعي والشعبي ، وهو قول سفيان الثوري ومحمد بن الحسن والصحيح من قول الشافعي ، وهو قول داود وغيره من أصحاب الحديث .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وقال من لا يبالي بما أطلق به لسانه : إن حديث عمر - الذي لا يصح - ناسخ لحديث أنس - الذي لا يثبت غيره في معناه - قال : لأن حديث أنس كان متصلا بنزول الآية .

                                                                                                                                                                                          قال علي : وهذا هو الكذب بعينه وقفا ما لا علم له به ، ولو صح حديث عمر فمن له أنه كان بعد نزول الآية ؟ ولعله كان قبل نزولها ، فإذ ذلك ممكن هكذا فلا يجوز القطع بأحدهما ، ولا يجوز ترك يقين ما جاء به القرآن وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم إثر نزول الآية لظن كاذب في حديث لا يصح ، مع أن الحديثين الثابتين اللذين رويناهما : أحدهما عن الأعمش عن ثابت بن عبيد عن القاسم بن محمد { عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها : ناوليني الخمرة من المسجد قالت فقلت : إنني حائض فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن حيضتك ليست في يدك } . [ ص: 400 ] وروينا الآخر من طريق يحيى بن سعيد القطان عن يزيد بن كيسان وأبي حازم عن أبي هريرة { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في المسجد فقال : يا عائشة ناوليني الثوب ، فقالت إني حائض ، فقال : إن حيضتك ليست في يدك } فهما دليل أن لا يجتنب إلا الموضع الذي فيه الحيضة وحده ، وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية