الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قرأ نافع وابن عامر وأبو عمر " ذرياتهم " بالألف على الجمع ، والباقون( ذريتهم ) على الواحد . قال الواحدي : الذرية تقع على الواحد والجمع ، فمن أفرد فإنه قد استغنى عن جمعه وبوقوعه على الجمع فصار كالبشر فإنه يقع على الواحد كقوله :( ما هذا بشرا ) [يوسف : 31] وعلى الجمع كقوله :( أبشر يهدوننا ) [ التغابن : 6 ] وقوله :( إن أنتم إلا بشر مثلنا ) [إبراهيم : 10] وكما لم يجمع بشر بتصحيح ولا تكسير كذلك لا يجمع الذرية ، ومن جمع قال : إن الذرية وإن كان واحدا فلا إشكال في جواز الجمع فيه ، وإن كان جمعا فجمعه أيضا حسن ؛ لأنك قد رأيت الجموع المكسرة قد جمعت ، نحو الطرقات والجدرات ، وهو اختيار يونس ، أما قوله تعالى :( وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ) فنقول : أما على قول من أثبت الميثاق الأول فكل هذه الأشياء محمولة على ظواهرها ، وأما على قول من أنكره قال : إنها محمولة على التمثيل ، والمعنى : أنه تعالى نصب لهم الأدلة على ربوبيته ، وشهدت بها عقولهم ، فصار ذلك جاريا مجرى ما إذا أشهدهم على أنفسنا وإقرارنا بوحدانيته ، أما قوله :( شهدنا ) ففيه قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            القول الأول : أنه من كلام الملائكة ، وذلك لأنهم لما قالوا :( بلى ) قال الله للملائكة اشهدوا ، فقالوا شهدنا ، وعلى هذا القول يحسن الوقف على قوله :( قالوا بلى ) لأن كلام الذرية قد انقطع ههنا . وقوله :( أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ) تقريره : أن الملائكة قالوا شهدنا عليهم بالإقرار ، لئلا يقولوا ما [ ص: 44 ] أقررنا ، فأسقط كلمة " لا " كما قال :( وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم ) [ النحل : 15 ] يريد لئلا تميد بكم ، هذا قول الكوفيين ، وعند البصريين تقديره : شهدنا كراهة أن يقولوا .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثاني : أن قوله :( شهدنا ) من بقية كلام الذرية ، وعلى هذا التقرير ، فقوله :( أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ) متعلق بقوله :( وأشهدهم على أنفسهم ) والتقدير : وأشهدهم على أنفسهم بكذا وكذا ، لئلا يقولوا يوم القيامة :( إنا كنا عن هذا غافلين ) أو كراهية أن يقولوا ذلك ، وعلى هذا التقدير فلا يجوز الوقف عند قوله :( شهدنا ) ؛ لأن قوله :( أن يقولوا ) متعلق بما قبله ، وهو قوله :( وأشهدهم ) فلم يجز قطعه منه . واختلف القراء في قوله :( أن يقولوا ) أو تقولوا : فقرأ أبو عمرو بالياء جميعا ؛ لأن الذي تقدم من الكلام على الغيبة ، وهو قوله :( من بني آدم من ظهورهم ) ،( وأشهدهم على أنفسهم ) لئلا يقولوا ، وقرأ الباقون بالتاء ؛ لأنه قد جرى في الكلام خطاب وهو قوله :( ألست بربكم قالوا بلى شهدنا ) وكلا الوجهين حسن ، لأن الغائبين هم المخاطبون في المعنى .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله :( أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل ) قال المفسرون : المعنى أن المقصود من هذا الإشهاد : أن لا يقول الكفار إنما أشركنا ؛ لأن آباءنا أشركوا ، فقلدناهم في ذلك الشرك ، وهو المراد من قوله :( أفتهلكنا بما فعل المبطلون ) والحاصل : أنه تعالى لما أخذ عليهم الميثاق امتنع عليهم التمسك بهذا القدر . وأما الذين حملوا الآية على أن المراد منه مجرد نصب الدلائل . قالوا : معنى الآية أنا نصبنا هذه الدلائل ، وأظهرناها للعقول كراهة أن يقولوا يوم القيامة :( إنا كنا عن هذا غافلين ) فما نبهنا عليه منبه ، أو كراهة أن يقولوا إنما أشركنا على سبيل التقليد لأسلافنا ، لأن نصب الأدلة على التوحيد قائم معهم ، فلا عذر لهم في الإعراض عنه ، والإقبال على التقليد والاقتداء بالآباء .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال :( وكذلك نفصل الآيات ) والمعنى : أن مثل ما فصلنا وبينا في هذه الآية ، بينا سائر الآيات ليتدبروها فيرجعوا إلى الحق ، ويعرضوا عن الباطل ، وهو المراد من قوله :( ولعلهم يرجعون ) وقيل : أي ما أخذ عليهم من الميثاق في التوحيد ، وفي الآية قول ثالث ؛ وهو أن الأرواح البشرية موجودة قبل الأبدان ، والإقرار بوجود الإله من لوازم ذواتها وحقائقها ، وهذا العلم ليس يحتاج في تحصيله إلى كسب وطلب ، وهذا البحث إنما ينكشف تمام الانكشاف بأبحاث عقلية غامضة ، لا يمكن ذكرها في هذا الكتاب . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية