nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=8nindex.php?page=treesubj&link=29000_18004_19645_28861ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=9والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين
لم يترك القرآن فاذة من أحوال علائق المسلمين بالمشركين إلا بين واجبهم فيها المناسب لإيمانهم ، ومن أشد تلك العلائق علاقة النسب ، فالنسب بين المشرك والمؤمن يستدعي الإحسان وطيب المعاشرة ، ولكن اختلاف الدين يستدعي المناواة والمغاضبة ولا سيما إذ كان المشركون متصلبين في شركهم ومشفقين من أن تأتي دعوة الإسلام على أساس دينهم ، فهم يلحقون الأذى بالمسلمين ليقلعوا عن متابعة الإسلام ، فبين الله بهذه الآية ما على المسلم في معاملة أنسبائه من المشركين . وخص بالذكر منها نسب الوالدين لأنه أقرب نسب ، فيكون ما هو دونه أولى بالحكم الذي يشرع له .
وحدثت قضية أو قضيتان دعتا إلى تفصيل هذا الحكم . روي
أن سعد بن [ ص: 213 ] أبي وقاص حين أسلم قالت له أمه حمنة بنت أبي سفيان : يا سعد ، بلغني أنك صبأت ، فوالله لا يظلني سقف بيت ، وإن الطعام والشراب علي حرام حتى تكفر بمحمد ، وبقيت كذلك ثلاثة أيام ، فشكا سعد ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية ، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يداريها ويترضاها بالإحسان .
وروي أنه لما أسلم
عياش بن أبي ربيعة المخزومي وهاجر مع
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب إلى
المدينة قبل هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج
أبو جهل وأخوه
الحارث ، وكانا أخوي
عياش لأمه ، فنزلا
بعياش وقالا له : إن
محمدا يأمر ببر الوالدين وقد تركت أمك ، وأقسمت أن لا تطعم ولا تشرب ولا تأوي بيتا حتى تراك ، وهي أشد حبا لك منها لنا ، فاخرج معنا ، فاستشار
عمر فقال
عمر : هما يخدعانك ، فلم يزالا به حتى عصى نصيحة
عمر وخرج معهما ، فلما انتهوا إلى البيداء ، قال
أبو جهل : إن ناقتي كلت فاحملني معك . قال
عياش : نعم ، ونزل ليوطئ لنفسه
ولأبي جهل ، فأخذاه وشداه وثاقا وذهبا به إلى أمه ، فقالت له : لا تزال بعذاب حتى ترجع عن دين
محمد ، وأوثقته عندها ، فقيل : إن هذه الآية نزلت في شأنهما .
والمقصود من الآية هو قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=8وإن جاهداك لتشرك بي إلى آخره ، وإنما افتتحت بـ "
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=8ووصينا الإنسان بوالديه حسنا " ؛ لأنه كالمقدمة للمقصود ليعلم أن الوصاية بالإحسان إلى الوالدين لا تقتضي طاعتهما في السوء ونحوه ؛ لقول النبيء - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10342313لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق . ولقصد تقرير حكم
nindex.php?page=treesubj&link=19806_18031الإحسان للوالدين في كل حال إلا في حال الإشراك حتى لا يلتبس على المسلمين وجه الجمع بين الأمر بالإحسان للوالدين وبين الأمر بعصيانهما إذا أمرا بالشرك ؛ لإبطال قول
أبي جهل : أليس من دين
محمد البر بالوالدين ، ونحوه .
وهذا من أساليب الجدل ، وهو الذي يسمى " القول بالموجب " ، وهو تسليم الدليل مع بقاء النزاع ، ومنه في القرآن قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=10قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=11قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده فعلم أنه لا تعارض بين
[ ص: 214 ] الإحسان إلى الوالدين وبين إلغاء أمرهما بما لا يرجع إلى شأنهما .
والتوصية : كالإيصاء ، يقال : أوصى ووصى ، وهي أمر بفعل شيء في مغيب الآمر به ، ففي الإيصاء معنى التحريض على المأمور به ، وتقدم في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=180الوصية للوالدين وقوله : " وأوصى بها إبراهيم " في البقرة .
وفعل الوصاية يتعدى إلى الموصى عليه بالباء ، تقول : أوصى بأبنائه إلى فلان ، على معنى أوصى بشئونهم ، ويتعدى إلى الفعل المأمور به بالباء أيضا ، وهو الأصل مثل " وأوصى بها
إبراهيم بنيه " ، فإذا جمع بين الموصى عليه والموصى به وغلب حذف الباء من البدل اكتفاء بوجودها في المبدل منه فكذلك قوله تعالى هنا :
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=8ووصينا الإنسان بوالديه حسنا تقديره : وصينا الإنسان بوالديه بحسن ، بنزع الخافض .
والحسن : اسم مصدر ، أي بإحسان . والجملة
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=8وإن جاهداك لتشرك بي عطف على جملة وصينا وهو بتقدير قول محذوف ؛ لأن المعطوف عليه فيه معنى القول .
والمجاهدة : الإفراط في بذل الجهد في العمل ، أي ألحا لأجل أن تشرك بي .
والمراد بالعلم في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=8ما ليس لك به علم العلم الحق المستند إلى دليل العقل أو الشرع ، أي أن تشرك بي أشياء لا تجد في نفسك دليلا على استحقاقها العبادة كقوله تعالى : "
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=46فلا تسألني ما ليس لك به علم " ، أي علم بإمكان حصوله . وفي " الكشاف " : إن نفي العلم كناية عن نفي المعلوم ، كأنه قال : أن تشرك بي شيئا لا يصح أن يكون إلها ، أي لا يصح أن يكون معلوما ، يعني أنه من باب قولهم : هذا ليس بشيء ، كما صرح به في تفسير " سورة
لقمان " كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=30ما يدعون من دونه الباطل .
وجملة :
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=8إلي مرجعكم مستأنفة استئنافا بيانيا لزيادة تحقيق ما أشارت إليه مقدمة الآية من قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=8ووصينا الإنسان بوالديه حسنا ؛ لأن بقية الآية لما آذنت بفظاعة أمر الشرك وحذرت من طاعة المرء والديه فيه كان ذلك مما يثير
[ ص: 215 ] سؤالا في نفوس الأبناء أنهم هل يعاملون الوالدين بالإساءة لأجل إشراكهما ، فأنبئوا أن عقابهما على الشرك مفوض إلى الله تعالى ، فهو الذي يجازي المحسنين والمسيئين .
والمرجع : البعث . والإنباء : الإخبار ، وهو مستعمل كناية عن علمه تعالى بما يعملونه من ظاهر الأعمال وخفيها ، أي ما يخفونه عن المسلمين وما يكنونه في قلوبهم ، وذلك أيضا كناية عن الجزاء عليه من خير أو شر ، ففي قوله : فأنبئكم كنايتان : أولاهما إيماء ، وثانيتهما تلويح ، أي فأجازيكم ثوابا على عصيانهما فيما يأمران ، وأجازيهما عذابا على إشراكهما .
فجملة
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=9والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين تصريح ببعض ما أفادته الكناية التي في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=8فأنبئكم بما كنتم تعملون ، اهتماما بجانب
nindex.php?page=treesubj&link=29680جزاء المؤمنين . وقد أشير إلى شرف هذا الجزاء بأنه جزاء الصالحين الكاملين كقوله : " فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين " ، ألا ترى إلى قول سليمان
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=19وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ؟ .
ومن لطيف مناسبة هذا الظرف في هذا المقام أن المؤمن لما أمر بعصيان والديه إذا أمراه بالشرك كان ذلك مما يثير بينه وبين أبويه جفاء وتفرقة ، فجعل الله جزاء عن وحشة تلك التفرقة أنسا بجعله في عداد الصالحين يأنس بهم .
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=8nindex.php?page=treesubj&link=29000_18004_19645_28861وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=9وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ
لَمْ يَتْرُكِ الْقُرْآنُ فَاذَّةً مِنْ أَحْوَالِ عَلَائِقِ الْمُسْلِمِينَ بِالْمُشْرِكِينَ إِلَّا بَيَّنَ وَاجِبَهُمْ فِيهَا الْمُنَاسِبَ لِإِيمَانِهِمْ ، وَمِنْ أَشَدِّ تِلْكَ الْعَلَائِقِ عَلَاقَةُ النَّسَبِ ، فَالنَّسَبُ بَيْنَ الْمُشْرِكِ وَالْمُؤْمِنِ يَسْتَدْعِي الْإِحْسَانَ وَطِيبَ الْمُعَاشَرَةِ ، وَلَكِنَّ اخْتِلَافَ الدِّينِ يَسْتَدْعِي الْمُنَاوَاةَ وَالْمُغَاضَبَةَ وَلَا سِيَّمَا إِذْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ مُتَصَلِّبِينَ فِي شِرْكِهِمْ وَمُشْفِقِينَ مِنْ أَنْ تَأْتِيَ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ عَلَى أَسَاسِ دِينِهِمْ ، فَهُمْ يُلْحِقُونَ الْأَذَى بِالْمُسْلِمِينَ لِيُقْلِعُوا عَنْ مُتَابَعَةِ الْإِسْلَامِ ، فَبَيَّنَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَا عَلَى الْمُسْلِمِ فِي مُعَامَلَةِ أَنْسِبَائِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَخَصَّ بِالذِّكْرِ مِنْهَا نَسَبَ الْوَالِدَيْنِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ نَسَبٍ ، فَيَكُونُ مَا هُوَ دُونَهُ أَوْلَى بِالْحُكْمِ الَّذِي يُشْرَعُ لَهُ .
وَحَدَثَتْ قَضِيَّةٌ أَوْ قَضِيَّتَانِ دَعَتَا إِلَى تَفْصِيلِ هَذَا الْحُكْمِ . رُوِيَ
أَنَّ سَعْدَ بْنَ [ ص: 213 ] أَبِي وَقَّاصٍ حِينَ أَسْلَمَ قَالَتْ لَهُ أُمُّهُ حَمْنَةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ : يَا سَعْدُ ، بَلَغَنِي أَنَّكَ صَبَأْتَ ، فَوَاللَّهِ لَا يُظِلُّنِي سَقْفُ بَيْتٍ ، وَإِنَّ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ عَلَيَّ حَرَامٌ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ ، وَبَقِيَتْ كَذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، فَشَكَا سَعْدٌ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُدَارِيَهَا وَيَتَرَضَّاهَا بِالْإِحْسَانِ .
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ
عَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيُّ وَهَاجَرَ مَعَ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إِلَى
الْمَدِينَةِ قَبْلَ هِجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ
أَبُو جَهْلٍ وَأَخُوهُ
الْحَارِثُ ، وَكَانَا أَخَوَيْ
عَيَّاشٍ لِأُمِّهِ ، فَنَزَلَا
بِعَيَّاشٍ وَقَالَا لَهُ : إِنَّ
مُحَمَّدًا يَأْمُرُ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَقَدْ تَرَكْتَ أُمَّكَ ، وَأَقْسَمَتْ أَنْ لَا تَطْعَمَ وَلَا تَشْرَبَ وَلَا تَأْوِي بَيْتًا حَتَّى تَرَاكَ ، وَهِيَ أَشَدُّ حُبًّا لَكَ مِنْهَا لَنَا ، فَاخْرُجْ مَعَنَا ، فَاسْتَشَارَ
عُمَرَ فَقَالَ
عُمَرُ : هُمَا يَخْدَعَانِكَ ، فَلَمْ يَزَالَا بِهِ حَتَّى عَصَى نَصِيحَةَ
عُمَرَ وَخَرَجَ مَعَهُمَا ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى الْبَيْدَاءِ ، قَالَ
أَبُو جَهْلٍ : إِنَّ نَاقَتِي كَلَّتْ فَاحْمِلْنِي مَعَكَ . قَالَ
عَيَّاشٌ : نَعَمْ ، وَنَزَلَ لِيُوَطِّئَ لِنَفْسِهِ
وَلِأَبِي جَهْلٍ ، فَأَخَذَاهُ وَشَدَّاهُ وِثَاقًا وَذَهَبَا بِهِ إِلَى أُمِّهِ ، فَقَالَتْ لَهُ : لَا تَزَالُ بِعَذَابٍ حَتَّى تَرْجِعَ عَنْ دِينِ
مُحَمَّدٍ ، وَأَوْثَقَتْهُ عِنْدَهَا ، فَقِيلَ : إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِهِمَا .
وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ هُوَ قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=8وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي إِلَى آخِرِهِ ، وَإِنَّمَا افْتُتِحَتْ بِـ "
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=8وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا " ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُقَدِّمَةِ لِلْمَقْصُودِ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْوِصَايَةَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ لَا تَقْتَضِي طَاعَتَهُمَا فِي السُّوءِ وَنَحْوِهِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيءِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10342313لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ . وَلِقَصْدِ تَقْرِيرِ حُكْمِ
nindex.php?page=treesubj&link=19806_18031الْإِحْسَانِ لِلْوَالِدَيْنِ فِي كُلِّ حَالٍ إِلَّا فِي حَالِ الْإِشْرَاكِ حَتَّى لَا يَلْتَبِسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ لِلْوَالِدَيْنِ وَبَيْنَ الْأَمْرِ بِعِصْيَانِهِمَا إِذَا أَمَرَا بِالشِّرْكِ ؛ لِإِبْطَالِ قَوْلِ
أَبِي جَهْلٍ : أَلَيْسَ مِنْ دِينِ
مُحَمَّدٍ الْبَرُّ بِالْوَالِدَيْنِ ، وَنَحْوِهِ .
وَهَذَا مِنْ أَسَالِيبِ الْجَدَلِ ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى " الْقَوْلَ بِالْمُوجِبِ " ، وَهُوَ تَسْلِيمُ الدَّلِيلِ مَعَ بَقَاءِ النِّزَاعِ ، وَمِنْهُ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=10قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=11قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ
[ ص: 214 ] الْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ وَبَيْنَ إِلْغَاءِ أَمْرِهِمَا بِمَا لَا يَرْجِعُ إِلَى شَأْنِهِمَا .
وَالتَّوْصِيَةُ : كَالْإِيصَاءِ ، يُقَالُ : أَوْصَى وَوَصَّى ، وَهِيَ أَمْرٌ بِفِعْلِ شَيْءٍ فِي مَغِيبِ الْآمِرِ بِهِ ، فَفِي الْإِيصَاءِ مَعْنَى التَّحْرِيضِ عَلَى الْمَأْمُورِ بِهِ ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=180الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَقَوْلِهِ : " وَأَوْصَى بِهَا إِبْرَاهِيمُ " فِي الْبَقَرَةِ .
وَفِعْلُ الْوِصَايَةِ يَتَعَدَّى إِلَى الْمُوصَى عَلَيْهِ بِالْبَاءِ ، تَقُولُ : أَوْصَى بِأَبْنَائِهِ إِلَى فُلَانٍ ، عَلَى مَعْنَى أَوْصَى بِشِئُونِهِمْ ، وَيَتَعَدَّى إِلَى الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ بِالْبَاءِ أَيْضًا ، وَهُوَ الْأَصْلُ مِثْلَ " وَأَوْصَى بِهَا
إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ " ، فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَ الْمُوصَى عَلَيْهِ وَالْمُوصَى بِهِ وَغَلَبَ حَذْفُ الْبَاءِ مِنَ الْبَدَلِ اكْتِفَاءً بِوُجُودِهَا فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا :
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=8وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا تَقْدِيرُهُ : وَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ بِحُسْنٍ ، بِنَزْعِ الْخَافِضِ .
وَالْحُسْنُ : اسْمُ مَصْدَرٍ ، أَيْ بِإِحْسَانٍ . وَالْجُمْلَةُ
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=8وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ وَصَّيْنَا وَهُوَ بِتَقْدِيرِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ ؛ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ .
وَالْمُجَاهَدَةُ : الْإِفْرَاطُ فِي بَذْلِ الْجُهْدِ فِي الْعَمَلِ ، أَيْ أَلَحَّا لِأَجْلِ أَنْ تُشْرِكَ بِي .
وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=8مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ الْعِلْمُ الْحَقُّ الْمُسْتَنِدُ إِلَى دَلِيلِ الْعَقْلِ أَوِ الشَّرْعِ ، أَيْ أَنْ تُشْرِكَ بِي أَشْيَاءَ لَا تَجِدُ فِي نَفْسِكَ دَلِيلًا عَلَى اسْتِحْقَاقِهَا الْعِبَادَةَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : "
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=46فَلَا تَسْأَلَنِّي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ " ، أَيْ عِلْمٌ بِإِمْكَانِ حُصُولِهِ . وَفِي " الْكَشَّافِ " : إِنَّ نَفْيَ الْعِلْمِ كِنَايَةٌ عَنْ نَفْيِ الْمَعْلُومِ ، كَأَنَّهُ قَالَ : أَنْ تُشْرِكَ بِي شَيْئًا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا ، أَيْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا ، يَعْنِي أَنَّهُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِمْ : هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي تَفْسِيرِ " سُورَةِ
لُقْمَانَ " كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=30مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ .
وَجُمْلَةُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=8إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِزِيَادَةِ تَحْقِيقِ مَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ مُقَدِّمَةُ الْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=8وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ؛ لِأَنَّ بَقِيَّةَ الْآيَةِ لَمَّا آذَنَتْ بِفَظَاعَةِ أَمْرِ الشِّرْكِ وَحَذَّرَتْ مِنْ طَاعَةِ الْمَرْءِ وَالِدَيْهِ فِيهِ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُثِيرُ
[ ص: 215 ] سُؤَالًا فِي نُفُوسِ الْأَبْنَاءِ أَنَّهُمْ هَلْ يُعَامِلُونَ الْوَالِدَيْنِ بِالْإِسَاءَةِ لِأَجْلِ إِشْرَاكِهِمَا ، فَأُنْبِئُوا أَنَّ عِقَابَهُمَا عَلَى الشِّرْكِ مُفَوَّضٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ، فَهُوَ الَّذِي يُجَازِي الْمُحْسِنِينَ وَالْمُسِيئِينَ .
وَالْمَرْجِعُ : الْبَعْثُ . وَالْإِنْبَاءُ : الْإِخْبَارُ ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنْ عِلْمِهِ تَعَالَى بِمَا يَعْمَلُونَهُ مِنْ ظَاهِرِ الْأَعْمَالِ وَخَفِيِّهَا ، أَيْ مَا يُخْفُونَهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ وَمَا يُكِنُّونَهُ فِي قُلُوبِهِمْ ، وَذَلِكَ أَيْضًا كِنَايَةٌ عَنِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ ، فَفِي قَوْلِهِ : فَأُنَبِّئُكُمْ كِنَايَتَانِ : أُولَاهُمَا إِيمَاءٌ ، وَثَانِيَتُهُمَا تَلْوِيحٌ ، أَيْ فَأُجَازِيكُمْ ثَوَابًا عَلَى عِصْيَانِهِمَا فِيمَا يَأْمُرَانِ ، وَأُجَازِيهِمَا عَذَابًا عَلَى إِشْرَاكِهِمَا .
فَجُمْلَةُ
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=9وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ تَصْرِيحٌ بِبَعْضِ مَا أَفَادَتْهُ الْكِنَايَةُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=8فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ، اهْتِمَامًا بِجَانِبِ
nindex.php?page=treesubj&link=29680جَزَاءِ الْمُؤْمِنِينَ . وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى شَرَفِ هَذَا الْجَزَاءِ بِأَنَّهُ جَزَاءُ الصَّالِحِينَ الْكَامِلِينَ كَقَوْلِهِ : " فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيئِينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ " ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ سُلَيْمَانَ
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=19وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ؟ .
وَمِنْ لَطِيفِ مُنَاسَبَةِ هَذَا الظَّرْفِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَمَّا أُمِرَ بِعِصْيَانِ وَالِدَيْهِ إِذَا أَمَرَاهُ بِالشِّرْكِ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُثِيرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبَوَيْهِ جَفَاءً وَتَفْرِقَةً ، فَجَعَلَ اللَّهُ جَزَاءً عَنْ وَحْشَةِ تِلْكَ التَّفْرِقَةِ أُنْسًا بِجَعْلِهِ فِي عِدَادِ الصَّالِحِينَ يَأْنَسُ بِهِمْ .