الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ 16 ] ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه النهي عن كتمان الشهادة بعد النهي عن إباء تحملها على أحد الوجوه في قوله : ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا تأكيد كتأكيد أمر الكاتب بأن يكتب بعد نهيه عن الإباء ، فقد أمر الله الكتاب والشهود بأن يعينوا الناس على حفظ أموالهم ، وحرم عليهم أن يقصروا في ذلك ، كما حرم على أرباب الأموال [ ص: 110 ] أن يضاروهم ، فلا بد من الجمع بين مصلحة الجميع ، ولما كان الذي يدرك الوقائع التي شهد بها ويعيها هو القلب وهو لب الإنسان وآلة عقله وشعوره كان كتمان الشهادة عبارة عن حبس ذلك فيه ولذلك جعله هو الآثم أي هو موضع الإثم في هذا الكتمان وحده ، وإلا فهو مصدر كل إثم ، وهذا يدفع ما يزعمه الجاهلون من أن الإثم لا يكون إلا بعمل الجوارح وحركات الأعضاء الظاهرة . وما قال تعالى : إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا [ 17 : 36 ] إلا ؛ لأن للفؤاد أي القلب ، أو النفس أعمالا خاصة به وأعمالا يزعج الجوارح إليها ، فأضيف إليه ما هو خاص به وأسند الباقي إلى مظهره من السمع والبصر في هذه الآية ، ومن الأيدي والأرجل في نصوص أخرى . ومن آثام القلب سوء القصد وفساد النية وهي شر الذنوب والآثام ، ودلت الآية على أن الإنسان يؤاخذ على ترك المعروف كما يؤاخذ على فعل المنكر ؛ لأن الترك في الحقيقة فعل للنفس يعبر عنه بالكتم والكتمان في مثل الشهادة ، وبالكف في غيرها ، ولكل مقام مقال فكل ذلك يعد في الحقيقة فعلا وعملا ، ولذلك قال : والله بما تعملون عليم وفي هذا من الوعيد ما مر بيان مثله .

                          هذا وإن الأحكام في الآيتين - على كونها أظهر من الشمس معنى وعلة وحكمة - قد وقع فيهما خلاف أشرنا إلى بعضه ، وقد بسط الأستاذ الإمام القول في مسألة وجوب كتابة الدين ، ولم يكد يزيد على ما قال المفسرون في غير ذلك من مواقع الخلاف شيئا ، فلا بد من بيان ما اختلف وتحقيق الحق فيه على النسق الذي أورده في الدرس مع بيان رأيه رحمه الله تعالى .

                          ذهب الجمهور إلى أن الأمر بكتابة الدين للندب ، واستدلوا بثلاثة أمور :

                          أحدهما: قوله - تعالى - : فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته فإنه أجاز ذلك بإقرارهم عليه وهو يستلزم عدم الكتابة والاستشهاد .

                          والثاني : كون المسلمين لم يلتزموا الكتابة والاستشهاد في العصر الأول ولا فيما بعده ، بل كانوا يأتونه تارة ويتركونه تارة ، ولو فهموا أنه واجب لالتزموه . أقول : وجعل الرازي هذا الترك من المسلمين في جميع ديار الإسلام إجماعا وما هو من الإجماع في شيء .

                          والثالث : أن في الكتابة حرجا وهو منفي بالنص .

                          وذهب أقوام إلى أن الأمر للوجوب وبه قال عطاء والشعبي وابن جرير في تفسيره وهو الأصل في الأمر عند الجمهور ، وقد تتابعت الأوامر في الآية وتأكدت حتى في حال السفه والضعف والعجز ، فقد أمر ولي من عليه الحق من هؤلاء بأن يملي عنه للكاتب ولم يعفهم من الكتابة . ومثل هذا التأكيد لا يكون في غير الواجب ويؤيده التعليل بكون ذلك أقسط [ ص: 111 ] عند الله إلخ . قالوا أما قوله - تعالى - : فإن أمن بعضكم بعضا إلخ فهو محمول على حال الضرورة كالأوقات التي لا يوجد فيها كاتب ولا شهود . فإذا احتاج امرؤ إلى الاقتراض من أخيه في مثل هذه الحال فإن الله - تعالى - لا يحرم عليه قضاء حاجته وسد خلته إذا هو ائتمنه .

                          أقول : وتقدم لنا أن الآية في الأمانة على الإطلاق ، فإذا دخل في عمومها ما ذكر من الائتمان على الثمن عند فقد الكاتب فلا يجعل دليلا على ترك الواجب - وهو الكتابة - في كل حال . وقال ابن جرير بعد أن بين الرخصة في إقامة الرهن مقام الكتابة عند فقد الكاتب : لوجب أن يكون قوله : وإن كنتم على سفر إلخ ناسخا قوله : إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه إلخ . لوجب أن يكون قوله : وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا [ 4 : 43 ] ناسخا للوضوء بالماء في الحضر والسفر: إلخ قالوا : وأما دعوى تعامل أهل الصدر الأول وغيرهم من المسلمين بغير كتابة ولا إشهاد فهي على إطلاقها باطلة . فإنه لم يؤثر عن الصحابة الذين يحتج بمعاملاتهم ، ولا عن التابعين شيء صحيح يؤيد هذه الدعوى ، وإنما اغتر هؤلاء القائلون من الفقهاء بعدم وجوب الكتابة والإشهاد بمعاملات أهل عصرهم ، فجعلوا ذلك عاما ولم يرووا عن الصحابة فيه شيئا صحيحا واقعا بالفعل .

                          وأما قولهم: إن في ذلك ضيقا وحرجا فجوابه : أن هذا الضيق والحرج في بادئ الرأي هو عين السهولة والسعة واليسر في حقيقة الأمر ، فإن التعامل الذي لا يكتب ولا يستشهد عليه يترتب عليه مفاسد كثيرة : منها ما يكون عن عمد إذا كان أحد المتداينين ضعيف الأمانة فيدعي بعد طول الزمن خلاف الواقع ، ومنها ما يكون عن خطأ ونسيان ، فإذا ارتاب المتعاملان واختلفا ولا شيء يرجع إليه في إزالة الريبة ورفع الخلاف من كتابة أو شهود أساء كل منهما الظن بالآخر ، ولم يسهل عليه الرجوع عن اعتقاده إلى قول خصمه فلج في خصامه وعدائه ، وكان وراء ذلك من شرور المنازعات ما يرهقهما عسرا ويرميهما بأشد الحرج ، وربما ارتكبا في ذلك محارم كثيرة .

                          هكذا أوضح الأستاذ الإمام رأي القائلين بأن هذا الأمر للوجوب وهو المختار عنده .

                          ومما قال في رد قولهم : إن هذا من الحرج المرفوع : كيف يكون هذا حرجا وهو مما لا يقع إلا قليلا لبعض المكلفين ولا يكون الوضوء حرجا وهو مما يجب على كل مكلف كل يوم يصلي فيه خمس مرات ، فما كل ما يتكرر يكون حرجا ; يعني أنه لا حرج في هذا ولا ذاك كما سيأتي عنه . وأقول : ليس المراد بالحرج والعسر المنفيين بالنص أنه لا مشقة ولا كلفة في شيء من التكاليف الشرعية ، بل المراد أنه لا شيء منها للإعنات وتجشيم المشاق والإيقاع في العسر والحرج ، وإنما لكل حكم منها فائدة أو فوائد ترفع الحرج والعسر ويصلح بها أمر [ ص: 112 ] الناس في أنفسهم وفي شئونهم الاجتماعية ، فهي كسائر الأعمال التي عرف الناس فوائدها بالضرورة أو الاختبار والاستدلال ، فهم يعملونها وإن كان فيها مشقة ما طلبا لفوائدها التي هي أرجح وأجدر بالإيثار ، ثم إن وراء هذه المصلحة الخاصة في كتابة الدين مصلحة عامة ، وهي جعل المسلمين أمة كتاب ونظام ، والإسلام بدأ بالعرب وهي أمة أمية ، وقد امتن عليها بالرسول الذي علمها الكتاب والحكمة ، ففرض كتابة الدين عليهم هو من وسائل إخراجهم من الأمية .

                          وقال الأستاذ الإمام : هبوا أن هذه الأوامر المؤكدة للندب ، فهل ينبغي أن يترك المسلمون جملة ما ندب إليه كتاب الله بحجة أن فيه حرجا أو بغير ذلك من الحجج ، حتى صار من تراه من المسلمين يعنى بكتابة ديونه ، فإنما يفعل ذلك لضعف ثقته بمدينه ، لا عملا بهداية دينه ، ألا إن الحرج في هذا كالحرج في تحريم جميع أنواع الشرك والمعاصي ، فكما لا يجوز أن تكون مشركا بنوع ما من أنواع الشرك ، لا يجوز أن تفرط في شيء من الحق ، والحق الذي لا مراء فيه أنه لا شيء من الحرج في الكتابة ، فإن البلد قد يكفيه كاتب واحد للديون المؤجلة ، وقد رخص الله لنا في ترك كتابة التجارة الحاضرة . والحاصل أن ظاهر الآية وأسلوبها وطريقة تأديتها تدل على أن الأمر فيها للوجوب وإن كان الجمهور على خلافه .

                          ( قال ) وقد اختلف الفقهاء بعد هذا بالعمل بالخط ، ونحمد الله أن كان المفتى به هو العمل بالخط ; إذ لو كان المفتى به هو خلاف ما أمر به القرآن لكان المصاب عظيما ، واستدل القائلون بعدم العمل بالخط بأنه يحتمل فيه التزوير ، وزعموا أن فائدة الكتابة التذكار فقط ، كما أن الأمر بالإشهاد لأجل التذكار ، ومنشأ الشبهة في هذا قوله - تعالى - في المرأتين : أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى والصواب : أن كلا من الكتابة والاستشهاد قد شرع للاستيثاق بين الدائن والمدين لا لأجل التذكر بعد النسيان ، والكتابة أقوى من الشهادة فيه ، وهي عون للشهادة فهي آلة الاستيثاق للمتعاملين ، فالدائن يستوثق بماله فيأمن من إنكاره كله أو بعضه ، والمدين يستوثق بما عليه فلا يخاف أن يزاد فيه ، والشاهد يستوثق بشهادته فإذا شك أو نسي رجع إلى الكتاب فتذكر واطمأن قلبه ; ولذلك قال تعالى : ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا ونفع الكتابة الأكبر يكون بعد موت الشهيدين أو أحدهما فلا يصح في هذه الحال أن تضيع الحقوق ولا حافظ لها حينئذ إلا الكتابة يرجع إليها فيعمل بها .

                          قال : واحتجاجهم على أن الشهادة هي الأصل في إثبات الحقوق ، وأن الكتابة ليست إلا مذكرة بها بأن الخط يحتمل فيه التزوير منقوض بأن احتمال وقوع التزوير في الشهادة أشد ، بل حصوله فيها بالفعل أكثر ، حتى إن النسبة بينهما تكاد تكون كنسبة الخمسة إلى [ ص: 113 ] الألف ، ثم إن في الشهادة احتمالات أخرى تسقطها عن مرتبة الكتابة كالنسيان والذهول .

                          ومن محاسن الأجوبة في هذا المقام ما وقع لأحد القضاة في الوجه القبلي ( الصعيد ) إذ جاءه مدع يطالب آخر بدين له كتب في صك وختم بخاتم المدعى عليه ، فقال القاضي للمدعي :

                          إن هذا الصك لا يعمل به ؛ لأن الختم ليس ببينة فلا بد من الشهود . قال المدعي : من قال بهذا ؟ قال القاضي : الإمام أبو حنيفة . قال المدعي : هل عندك شهود سمعت منهم ذلك ؟ فبهت القاضي .

                          قال الأستاذ فالأشياء البديهية يلهم حكمها كل الناس : أقول يعني بالناس أصحاب الفطرة السليمة ، ولا غرو فالإسلام دين الفطرة ولا يفسد الفطرة شيء كالتقليد .

                          أقول : ومما اختلفوا فيه من أحكام الآية شهادة الأرقاء ، فالظاهر دخولهم في عموم رجالكم وبذلك قال شريح وعثمان البتي وأحمد وإسحاق بن راهويه وأبو ثور ، وذهب الجمهور إلى عدم جواز شهادتهم لما يلحقهم من نقص الرق ولأن الخطاب في الآية للمتعاملين بالأموال وهم ليسوا من أربابها ، وأنت ترى أن الدليلين ضعيفان .

                          أما الأول : فإن الله - تعالى - اشترط في الشاهدين العدالة لا الحرية ، والرق لا ينافي العدالة .

                          وأما الثاني : فالخطاب للمؤمنين عامة ، يقول : من يتداين منكم فعليهم كذا من الكتابة والإشهاد ، والكتاب والشهداء لا يلزم أن يكونوا من أرباب الأموال ، ولو صح هذا لوجب أن يشترط في الكاتب لوثيقة الدين أن يكون حرا ولم يقل بذلك أحد منهم . وقال الشعبي والنخعي : تصح شهادة العبد في القليل دون الكثير وهو تحكم لا يقوم عليه دليل .

                          واختلفوا أيضا في الإشهاد على البيع هل هو واجب أم مندوب ؟ ظاهر الأمر به أنه واجب كما تقدم ، وروي ذلك عن أبي موسى الأشعري وعمر ، وبه قال الضحاك وعطاء وسعيد بن المسيب وجابر بن زيد ومجاهد وداود بن علي الظاهري واختاره ابن جرير ، وينبغي أن يخص بما أجل فيه الثمن .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية