الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1323 - وعن جابر رضي الله عنه ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور ، كما يعلمنا السورة من القرآن ، يقول : " إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ، ثم ليقل : اللهم إني أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم ، فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علام الغيوب ، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ، ومعاشي ، وعاقبة أمري - أو قال : في عاجل أمري وآجله - فاقدره لي ، ويسره لي ، ثم بارك لي فيه ، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ، ومعاشي ، وعاقبة أمري أو قال : في عاجل أمري وآجله فاصرفه عني ، واصرفني عنه ، واقدر لي الخير حيث كان ، ثم أرضني به " ، قال : " ويسمي حاجته " . رواه البخاري .

التالي السابق


1323 - ( وعن جابر ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة ) ، أي : طلب تيسر الخير في الأمرين من الفعل ، أو الترك من الخير وهو ضد الشر . ( في الأمور ) ، أي : التي نريد الإقدام عليها مباحة كانت أو عبادة ، لكن بالنسبة إلى إيقاع العبادة في وقتها وكيفيتها لا بالنسبة إلى أصل فعلها . ( كما يعلمنا السورة من القرآن ) : وهذا يدل على شدة الاعتناء بهذا الدعاء ( يقول ) : بدل أو حال ( إذا هم ) ، أي : قصد ( أحدكم بالأمر ) ، أي : من نكاح أو سفر أو غيرها مما يريد فعله أو تركه ، قال ابن أبي جمرة : الوارد على القلب على مراتب : الهمة ، ثم اللمة ، ثم الخطرة ، ثم النية ، ثم الإرادة ، ثم العزيمة ، فالثلاثة الأول لا يؤاخذ بها بخلاف الثلاث الأخيرة فقوله : إذا هم يشير إلى أنه أول ما يرد على القلب ، فيستخير ، فيظهر له ببركة الصلاة والدعاء ما هو الخير ، بخلاف ما إذا تمكن الأمر عنده وقويت عزيمته فيه ، فإنه يصير إليه ميل وحب ، فيخشى أن يخفى عليه وجه الأرشدية لغلبة ميله إليه ، قال : ويحتمل أن يكون المراد بالهم العزيمة ; لأن الخواطر لا تثبت فلا يستخير إلا على ما يقصد التصميم على فعله ، وإلا لو استخار في كل خاطر لاستخار فيما لا يعبأ به فتضيع عليه أوقاته ، ووقع في حديث ابن مسعود بلفظ " إذا أراد أحدكم أمرا " . رواه الطبراني ، وصححه الحاكم . ( فليركع ) ، أي : ليصل أمر ندب ( ركعتين ) : بنية الاستخارة ، وهما أقل ما يحصل به المقصود ، يقرأ في الأولى ( الكافرون ) : وفي الثانية ( الإخلاص ) : وقيل في الأولى : ( وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون ) وفي الثانية : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ) ( من غير الفريضة ) : بيان للأكمل ، ونظيره : تحية المسجد وشكر الوضوء ، قال ميرك : فيه إشارة إلى أنه لا تجزئ الفريضة وما عين وقتا فتجوز في جميع الأوقات ، وإليه ذهب جمع ، والأكثرون على أنها في غير الأوقات المكروهة . ( ثم ليقل ) ، أي : بعد الصلاة ( اللهم إني أستخيرك ) ، أي : أطلب أصلح الأمرين ( بعلمك ) ، أي : بسبب علمك ، والمعنى أطلب منك أن تشرح صدري لخير الأمرين بسبب علمك بكيفيات الأمور ، وجزئياتها ، وكلياتها ; إذ لا يحيط بخير الأمرين على الحقيقة إلا من هو كذلك ، كما قال تعالى : ( وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) .

قال الطيبي : الباء فيه ، وفي قوله : ( وأستقدرك بقدرتك ) : إما للاستعانة كما في قوله تعالى : ( بسم الله مجراها ومرساها ) ، أي : أطلب خيرك مستعينا بعلمك فإني لا أعلم فيم خيرك ، وأطلب منك القدرة فإنه لا حول ولا قوة إلا بك ، وإما للاستعطاف ، أي بحق علمك الشامل وقدرتك الكاملة اهـ .

ونظير قوله تعالى : ( قال رب بما أنعمت علي ) الآية . وقيل : أي أطلب منك أن تقدر لي الخير بمعنى تظهر لي تقديرك الخير بسبب قدرتك عليه . ( وأسألك من فضلك العظيم ) ، أي : تعيين الخير وتبيينه وتقديره وتيسيره ، وإعطاء القدرة لي عليه ، ( فإنك تقدر ) : بالقدرة الكاملة على كل شيء ممكن تعلقت به إرادتك ، ( ولا أقدر ) : على شيء إلا بقدرتك وحولك وقوتك ، ( وتعلم ) : بالعلم المحيط بجميع الأشياء خيرها وشرها ، كليها [ ص: 986 ] وجزئيها ، ممكنها وغيرها ، ( ولا أعلم ) : شيئا منها إلا بإعلامك وإلهامك ( وأنت علام الغيوب ) : بضم الغين وكسرها ، وهذا من باب الاكتفاء ، أو من طريق البرهان ، أي : أنت كثير العلم بما يغيب عن السوي ، فإنك تعلم السر وأخفى ، فضلا عن الأمور الحاضرة ، والأشياء الظاهرة في الدنيا والآخرة ، وهذا الكلام تذييل وتتميم وتكميل مع إطناب وتأكيد لما قبله ، ومقام الدعاء خليق بذلك لما ورد : إن الله تعالى يحب الملحين في الدعاء ، ولعل حكمة تشويش النشر الإشارة بتقديم العلم أولا إلى عمومه ، وبتقديم القدرة ثانيا إلى أنها الأنسب بالمطلوب الذي هو الإقدار على فعل خير الأمرين على أن مقام العلم ختم بأخيره بجملة وأنت علام الغيوب ، وترك : وأنت القادر على كل شيء . ( اللهم إن كنت تعلم ) ، أي : إن كان في علمك ( أن هذا الأمر ) ، أي : الذي يريده كما في رواية ، ويسمي حاجته أو يضمر في باطنه ، قال الطيبي : معناه اللهم إنك تعلم ، فأوقع الكلام موقع الشك على معنى التفويض إليه . : والرضا بعلمه فيه ، وهذا النوع يسميه أهل البلاغة ( تجاهل العارف ) ، و ( مزج الشك باليقين ) ، ويحتمل أن الشك في أن العلم متعلق بالخير أو الشر ، لا في أصل العلم اهـ .

والقول الآخر هو الظاهر ، ونتوقف في جواز الأول بالنسبة إلى الله تعالى . ( خير لي ) أي الأمر الذي عزمت عليه أصلح ( في ديني ) ، أي : فيما يتعلق بديني أولا وآخرا ( ومعاشي ) : في الصحاح : العيش الحياة ، وقد عاش الرجل معاشا ومعيشا ، وكل واحد منهما يصلح أن يكون مصدرا وأن يكون اسما مثل معاب ومعيب ، قال ميرك : يحتمل أن يكون المراد بالمعاش الحياة ، وأن يكون المراد ما يعاش فيه ، ووقع في حديث ابن مسعود ، عند الطبراني في الأوسط : في ديني وفي دنياي وفي حديث أبي أيوب عنده أيضا في الكبير : في دنياي وآخرتي . ( وعاقبة أمري أو قال : في عاجل أمري وآجله ) : الظاهر أنه بدل من قوله : في ديني إلخ ، وقال الجزري في مفتاح الحصن : " أو " في الموضعين للتخيير ، أي : أنت مخير إن شئت قلت : عاجل أمري وآجله ، أو قلت معاشي وعاقبة أمري .

قال الطيبي الظاهر أنه شك في أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : عاقبة أمري ، أو قال : عاجل أمري وآجله ، وإليه ذهب القوم حيث قالوا هي على أربعة أقسام : خير في دينه دون دنياه وهو مقصود الإبدال ، وخير في دنياه فقط وهو حظ حقير ، وخير في العاجل دون الآجل وبالعكس وهو أولى ، والجمع أفضل ، ويحتمل أن يكون الشك في أنه - عليه الصلاة والسلام - قال : في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ، أو قال بدل الألفاظ الثلاثة : في عاجل أمري وآجله ، ولفظ " في " المعادة في قوله : في عاجل أمري ، ربما يؤكد هذا ، وعاجل الأمر يشمل الديني والدنيوي ، والآجل يشملهما والعاقبة . ( فاقدره ) : بضم الدال ويكسر ( لي ) ، أي : اجعله مقدورا لي أو هيئه ونجزه لي ، في النهاية : قد تكرر ذكر القدر في الحديث ، وهو عبارة عما قضاه الله وحكم به من الأمر ، وهو مصدر قدر يقدر قدرا ، وقد تسكن داله ، ومنه ليلة القدر التي تقدر فيها الأرزاق وتقضى ، ومنه حديث الاستخارة : فاقدره لي ، قال ميرك : روي بضم الدال وكسرها ، ومعناه أدخله تحت قدرتي ، ويكون قوله : ( ويسره لي ) : طلب التيسير بعد التقدير ، وقيل : المراد من التقدير التيسير فيكون ويسره عطفا تفسيريا اهـ . ولا يخفى بعده ; لأن الأقدار أعم ، وفي رواية البزار ، عن ابن مسعود : " فوفقه وسهله " ، وقال ابن المعلى في منسكه : تنبيه ، قال شهاب الدين القرافي في كتابه القواعد : من الدعاء المحرم المرتب على استئناف المشيئة ، كمن يقول : اقدر لي الخير ; لأن الدعاء بوضعه اللغوي ، إنما يتناول المستقبل دون الماضي ; لأنه طلب ، والطلب في الماضي محال ، فيكون مقتضى هذا الدعاء أن يقع تقدير الله تعالى في المستقبل من الزمان ، والله تعالى يستحيل عليه استئناف التقدير ، أي لأنه من باب البداء ، بل وقع جميعه في الأزل ، فيكون هذا الدعاء يقتضي مذهب من يرى أنه لا قضاء ، وأن الأمر أنف ، كما أخرجه مسلم عن الخوارج وهو فسق بإجماع .

فإن قلت : قد ورد الدعاء بلفظ : اقدر في حديث الاستخارة فقال فيه : " واقدر لي الخير حيث كان " ، قلت : يتعين أن يعتقد أن التقدير أريد به هاهنا التيسير على سبيل المجاز ، فالداعي إذا أراد هذا المجاز جاز ، وإنما يحرم الإطلاق عند عدم النية . ( ثم بارك لي فيه ) ، أي : أكثر الخير والبركة فيما أقدرتني عليه ويسرته لي ، والظاهر أن ثم [ ص: 987 ] للرتبة ، وقال ابن حجر : وحكمة ثم أن في الحصول بعد السؤال نوع تراخ غالبا اهـ . وهو في غاية البعد ; إذ لو لم يكن مصحوبا بالبركة من أول الوهلة كان مضمحلا ، نعم ظهور البركة قد يكون متراخيا مع أنه غير مراد ، وعلى تسليم صحة ما قال في الخارج مثلا ، فهو لا يناسب مقام الطلب والدعاء أصلا .

( وإن كنت تعلم أن هذا الأمر ) ، أي : المذكور أو المضمر ، فاللام للعهد ( شر لي ) ، أي : غير صالح ( في ديني ، ومعاشي ، وعاقبة أمري ) ، أي : معادي ( أو قال ) ، أي : النبي صلى الله عليه وسلم بدل ما تقدم ، أو قال المستخير بدله ( في عاجل أمري وآجله ) : " فأو " على الأول للشك وعلى الثاني للتخيير ، وعلى كل حال فلا يجمع بينهما كما قيل : وإن جمع بأن حذف ، قال : ليكون من باب التأكيد فلا بأس ، واعلم أن المروي في سائر أحاديث الاستخارة انحصر على الأول . ( فاصرفه عني ) ، أي : بالبعد بيني وبينه ، وبعدم إعطاء القدرة لي عليه وبالتعويق والتعسير فيه . ( واصرفني عنه ) : قال ابن الملك : تأكيد لقوله : فاصرفه ; لأنه لا يكون مصروفا عنه إلا ويكون هو مصروفا عنه ، ويجوز أن يراد بقوله : فاصرفه عني لا تقدرني عليه ، وبقوله : اصرفني عنه اصرف خاطري عنه ، حتى لا يكون سبب اشتغال البال ، والله أعلم بالحال .

( واقدر لي الخير ) ، أي : يسره لي واجعله مقدورا لفعلي . ( حيث كان ) ، أي : الخير من زمان أو مكان ، وفي رواية النسائي : حيث كنت ، وفي رواية البزار : وإن كان غير ذلك خيرا فوفقني للخير حيث كان ، وفي رواية ابن حبان : " وإن كان غير ذلك خيرا لي فاقدر لي الخير حيثما كان " ، وفي رواية له : " ، أينما كان لا حول ولا قوة إلا بالله " . ( ثم أرضني به ) ، أي : بالخير ، وفي رواية النسائي : بقضائك ، قال ابن الملك ، أي اجعلني راضيا بخيرك المقدور ; لأنه ربما قدر له ما هو خير له فرآه شرا ، وفي نسخة صحيحة : " ثم رضني به " من الترضية ، وهو جعل الشيء راضيا وأرضيت ورضيت بالتشديد بمعنى ، قال ميرك وهو بهذا اللفظ في رواية ابن حبان . ( قال ) ، أي : الراوي وهو جابر أو غيره ( ويسمي حاجته ) ، أي : عند قوله هذا الأمر ، قال الطيبي : ويسمي حاجته إما حال من فاعل يقل ، أي : فليقل هذا مسميا ، أو عطف على ليقل على التأويل ; لأنه أي : يسمى في معنى الأمر اهـ . وتبعه ابن حجر ، وهو مبني على أنه من لفظ النبوة وليس كذلك ، ويشهد عليه الأصول ، فإنه ليس بموجود فيها ، وأيضا لا يشترط في إبراز الأمر وتعيينه التسمية والإظهار ، بل يكفي في تبيينه النية والإضمار ، والله أعلم بالأسرار . ( رواه البخاري ) : قال ميرك : ورواه الأربعة ، وابن حبان ، وابن أبي شيبة ، قلت : وزاد ابن حبان وابن أبي شيبة كلاهما ، عن أبي أيوب : فإن كان زواجا فليكتم الخطبة ، أي : بالكسر ، ثم ليتوضأ فيحسن وضوءه ثم ليصل ما كتب الله له ، ثم ليحمد الله ويمجده ، ثم ليقل : اللهم إنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب ، فإن رأيت ، أي علمت أن في فلانة ويسميها ، أي يذكرها باسمها ، أي : في لسانه أو قلبه خيرا لي في ديني ودنياي وآخرتي فاقدرها لي ، وإن كان غيرها خيرا لي منها في ديني وآخرتي فاقدرها لي اهـ .

وفي ترك الدنيا في الفقرة الأخيرة نكتة لا تخفى ، وروى الحاكم والترمذي ، من حديث سعد بن أبي وقاص ، وقال الترمذي : غريب ولفظه : " من سعادة ابن آدم كثرة استخارته الله ورضاه بما قضى الله تعالى له ، ومن شقاوة ابن آدم تركه استخارة الله وسخطه بما قضى الله له " ، ولفظ الحاكم : " من سعادة ابن آدم كثرة استخارته الله ، ومن شقوته تركه استخارة الله " ، وفي الصحاح : الشقوة بالكسر والفتح لغة الشقاوة ، وفي الحديث : " ما خاب من استخار ، ولا ندم من استشار ، ولا عال من اقتصد " . رواه الطبراني في الأوسط عن أنس رضي الله عنه ، قيل : ويمضي بعد الاستخارة لما ينشرح له صدره انشراحا خاليا عن هوى النفس ، فإن لم ينشرح لشيء ، فالذي يظهر أنه يكرر الصلاة حتى يظهر له الخير ، قيل : إلى سبع مرات ، وإن كان الأمر عجلة فليقل : اللهم خر لي بكسر الخاء ، واختر لي واجعل لي الخيرة بفتح الياء فيه ، أو اللهم خر لي واختر لي ، ولا تكلني إلى اختياري ، ونقل عن شيخ الإسلام محمد بن عبد الله الأنصاري هذه الاستخارة المنظومة .

يا خائرا لعبيده لا تتركن أحدا سدى خر لي إليك طريقة بيديك أسباب الهدى ومن الدعوات المأثورة : اللهم اهدني لصالح الأعمال والأخلاق ، لا يهدي لصالحها إلا أنت ، واصرف عني سيئها ، لا يصرف عني سيئها إلا أنت .

[ ص: 988 ]



الخدمات العلمية