الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفصل الثاني

1324 - عن علي رضي الله عنه ، قال : حدثني أبو بكر - وصدق أبو بكر - قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من رجل يذنب ذنبا ، ثم يقوم فيتطهر ، ثم يصلي ، ثم يستغفر الله ، إلا غفر الله له ، ثم قرأ : ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ) . رواه الترمذي ، وابن ماجه ; إلا أن ابن ماجه لم يذكر الآية .

التالي السابق


الفصل الثاني

1324 - ( عن علي رضي الله عنه قال : حدثني أبو بكر - وصدق أبو بكر - رضي الله عنه ) : وهذا من باب رواية الأقران ، كرواية مالك عن أبي حنيفة ذلك وعكسه ، ورواية الشافعي عن محمد بن الحسن ، وسيأتي وجه قوله : وصدق أبو بكر ، قال ابن حجر : جملة معترضة بين بها علي رضي الله عنه جلالة أبي بكر رضي الله عنه ، ومبالغته في الصدق ، حتى سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم صديقا . ( قال ) ، أي : أبو بكر ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من رجل ) ، أي : أو امرأة ، ومن زائدة لزيادة إفادة الاستغراق ( يذنب ذنبا ) ، أي : أي ذنب كان ( ثم يقوم ) : قال الطيبي : ثم للتراخي في الرتبة ، والأظهر أنه للتراخي الزماني ، يعني ولو تأخر القيام بالتوبة عن مباشرة المعصية ; لأن التعقيب ليس بشرط ، فالإتيان بثم للرجاء ، والمعنى ثم يستيقظ من نوم الغفلة ، كقوله تعالى : ( أن تقوموا لله ) ( فيتطهر ) ، أي : فيتوضأ كما في رواية . والغسل أفضل ، وبالماء البارد أكمل ، كذا قيل ، ولعل مأخذه قوله - عليه الصلاة والسلام : " اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد " ، وفيه إيماء إلى تبريد القلب عن حرارة هوى النفس الأمارة ، والله أعلم .

( ثم يصلي ) : وفي رواية ابن السني : ركعتين ، أي : بـ ( قل يا أيها الكافرون ) والإخلاص ، أو بالآية الآتية ، وبآية : ( ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ) ( ثم يستغفر الله ) ، أي : لذلك الذنب كما في رواية ابن السني ، والمراد بالاستغفار التوبة بالمداومة والإقلاع والعزم على أن لا يعود إليه أبدا ، وأن يتدارك الحقوق إن كانت هناك ، وثم في الموضعين لمجرد العطف التعقيبي ( إلا غفر الله له ) : وفي الحصن : إلا غفر له ، أي ذنوبه كلها ، بل وبدلت سيئاته حسنات على ما يشهد له آية الفرقان ونهاية الغفران ( ثم قرأ ) ، أي : النبي صلى الله عليه وسلم استشهادا واعتضادا ، أو قرأ أبو بكر تصديقا وتوفيقا ( والذين ) : عطف على المتقين لبيان أن الجنة كما أعدت للمتقين أعدت للتائبين ، أو هو مبتدأ خبره سيأتي وهو ظاهر الحديث ; لأن القاعدة أن لا يفصل بين المتعاطفين ، ويمكن أن يكون العطف تفسيريا فيكون التقدير : وهم الذين ( إذا فعلوا فاحشة ) ، أي : فعلة متزايدة في القبح ( أو ظلموا أنفسهم ) : بالصغائر كالقبلة واللمس والنظر الحرام والكذب ، والغيبة ، وقال الطيبي : أي : أي ذنب كان مما يؤاخذون به اهـ . فيكون تعميما بعد تخصيص . ( ذكروا الله ) ، أي : ذكروا عقابه ، قاله الطيبي ، أو وعيده ، وظاهر الحديث أن معناه : صلوا ، لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فالمعنى ذكروا الله بنوع من أنواع الذكر من ذكر العقاب ، أو تذكر الحجاب ، أو تعظيم رب الأرباب ، أو بالتسبيح والتهليل ، أو قراءة القرآن ، أو بالصلاة التي تجمعها ( فاستغفروا ) ، أي : طلبوا المغفرة مع وجود التوبة والندامة ، فإن الجمع بينهما يدل على كمال الاستقامة ( لذنوبهم ) : اللام معدية أو تعليلية قال ابن الملك : الآية اهـ . وتمامها : ( ومن يغفر الذنوب ) أي : لا يغفرها ( إلا الله ) ، أي : الموصوف بصفة الغفور والغفار ، فالأولى مبالغة لكثرة الذنوب ، والثانية لكثرة المذنبين ، فالاستفهام بمعنى النفي اعتراض بين المتعاطفين ، ( ولم يصروا ) ، أي : لم يديموا ولم [ ص: 989 ] يستمروا على ما فعلوا من الذنوب ، فإن الإصرار على الصغائر يعد من الكبائر ، فمعناه أن كل ما وقع منهم زلة صدر عنهم توبة لقوله - عليه الصلاة والسلام : " ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة " . رواه الترمذي ، وأبو داود ، عن أبي بكر . وهم يعلمون حال من يصروا ، أي : ولم يصروا على قبيح فعلهم عالمين به .

قال البيضاوي : أو يعلمون جزاء الإصرار أو ثواب الاستغفار ، أو صفة ربهم العزيز الغفار ، كما ورد في الأخبار عن أبي هريرة مرفوعا : " إن عبدا أصاب ذنبا ، فقال : رب أذنبت ذنبا فاغفره لي ، فقال ربه : أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به ، غفرت لعبدي ، ثم مكث ما شاء الله ، ثم أصاب ذنبا ، فقال : رب أذنبت ذنبا آخر فاغفره لي ، فقال : أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ، ويأخذ به ، غفرت لعبدي ، ثم مكث ما شاء الله ثم أصاب ذنبا ، فقال : رب أذنبت ذنبا آخر فاغفره لي ، فقال : أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به ، غفرت لعبدي " ثلاثا . " فليعمل ما شاء " . رواه الشيخان والنسائي ، قيل : في معنى الحديث قد يطلق الأمر للتلطف ; وإظهار العناية والرحمة ، كما تقول لمن تراقبه وتتقرب إليه وهو يباعد ويقصر في حقك : افعل ما شئت فلست أعرض عنك ، ولا أترك ودادك ، وهو في الحديث بهذا المعنى ، أي : إن فعلت أضعاف ما كنت تفعل ، ثم استغفرت عنه غفرت لك فإني أغفر الذنوب جميعا ما دمت عنها مستغفرا إياها ، وليس معناه : فليعمل ما شاء إذا كان بالوصف السابق ، كما يتبادر فإنه يتضمن الأمر بالمعصية والتوبة ، وهو لا يصح فتأمل ، وخبر الآية المتقدمة هو الآية الثانية ، وهي : ( أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين ) . ( رواه الترمذي ) .

قال ميرك : من طريق قتيبة ، حدثنا أبو عوانة ، عن عثمان بن المغيرة ، عن علي بن ربيعة ، عن أسماء بن الحكم الفزاري قال : سمعت عليا رضي الله عنه يقول : إني كنت رجلا إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا ينفعني الله منه بما شاء ، وإذا حدثني رجل من الصحابة استحلفته ، فإذا حلف لي صدقته ، وإذا حدثني أبو بكر - وصدق أبو بكر .

قلت : وفيه وجه آخر ، وهو أن الصديق رضي الله عنه كان ملتزما أن لا يروي إلا إذا كان محفوظه بالمبنى دون المروي بالمعنى ، بخلاف أكثر الصحابة ، ولذا قلت روايته كأبي حنيفة تبعا له في هذه الخصوصية ، فهذا وجه لقوله : وصدق أبو بكر إلخ .

قال ميرك : وفي الباب عن ابن مسعود ، وأنس ، وأبي أمامة ، ومعاذ ، وواثلة ، وأبي اليسر ، واسمه كعب بن عمرو ، انتهى .

أقول : ورواه أبو داود أيضا من طريق مسدد ، عن أبي عوانة ، عن عثمان بن المغيرة بمثل ما رواه الترمذي ، وكأن صاحب المشكاة لم يقف على موضع إيراده في سننه ، فترك ذكره ، ورواه النسائي في اليوم والليلة ، وابن حبان في صحيحه كما قاله المقدسي في السلاح والله أعلم . ( وابن ماجه إلا أن ابن ماجه ) : وضع الظاهر موضع الضمير ، وإلا فالظاهر أن يقول إلا أنه ( لم يذكر الآية ) .

[ ص: 990 ] وذكر الجزري في الحصن عن أبي الدرداء مرفوعا : " وإذا أخطأ أو أذنب ، فأحب أن يتوب إلى الله فليمد يديه إلى الله عز وجل ، ثم يقول : اللهم إني أتوب إليك منها لا أرجع إليها أبدا ، فإنه يغفر له ما لم يرجع في عمله ذلك " . رواه الحاكم .

وقال الغزالي في المنهاج : إذا أردت التوبة تغسل واغسل ثيابك ، وصل ما كتب الله لك ، ثم ضع وجهك على الأرض في مكان خال لا يراك إلا الله سبحانه وتعالى ، ثم اجعل التراب على رأسك ، ومرغ وجهك الذي هو أعز أعضائك في التراب بدمع جار ، وقلب حزين ، وصوت عال ، واذكر ذنوبك واحدا واحدا ما أمكنك ، ولم نفسك العاصية عليها ووبخها ، وقل : أما تستحين يا نفس ؟ أما آن لك أن تتوبي وترجعي ؟ ألك طاقة بعذاب الله ؟ ألك حاجز عن سخط الله ؟ واذكر من هذا كثيرا مع البكاء ، وارفع يديك إلى الرب الرحيم ، وقل : يا إلهي عبدك الآبق رجع إلى بابك ، عبدك العاصي رجع إلى الصلح ، عبدك المذنب أتاك بالعذر ، فاعف عني بجودك وتقبلني بفضلك ، وانظر إلي برحمتك ، اللهم اغفر لي ما سلف من الذنوب ، واعصمني فيما بقي من الأجل ، فإن الخير كله بيدك وأنت بنا رءوف رحيم .




الخدمات العلمية