الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 794 ] لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به .قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما [ ص: 795 ] رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما

                                                                                                                                                                                                                                      لقد كان هذا القرآن ينشئ أمة جديدة. ينشئها من المجموعات المسلمة التي التقطها الإسلام من سفوح الجاهلية التي كانت تهيم فيها; ليأخذ بيدها في المرتقى الصاعد، إلى القمة السامقة; وليسلمها - بعد أن تكمل نشأتها - قيادة البشرية; ويحدد لها دورها الضخم في هذه القيادة..

                                                                                                                                                                                                                                      ومن بين عوامل البناء تطهير ضمائر هذه الجماعة; وتطهير جو المجتمع الذي تعيش فيه; ورفع المستوى الخلقي والنفسي الذي تستوي عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      وحينما بلغت تلك الجماعة هذا المستوى; تفوقت في أخلاقها الفردية والاجتماعية; بقدر تفوقها في تصورها الاعتقادي; على سائر أهل الأرض.. وعندئذ صنع الله بها في الأرض ما قدر أن يصنعه; وأقامها حارسة لدينه ومنهجه; وقائدة للبشرية الضالة إلى النور والهدى; وأمينة على قيادة البشرية وإرشادها..

                                                                                                                                                                                                                                      وحينما تفوقت في هذه الخصائص تفوقت على كل أهل الأرض; فكانت قيادتها للبشرية أمرا طبيعيا وفطريا وقائما على أسسه الصحيحة.. ومن هذا الوضع الممتاز تفوقت كذلك في العلم والحضارة والاقتصاد والسياسة.. وكان هذا التفوق الأخير ثمرة للتفوق الأول في المستوى الاعتقادي والأخلاقي. وهذه هي سنة الله في الأفراد والجماعات.

                                                                                                                                                                                                                                      وطرف من هذا التطهير للنفس والمجتمع يتمثل في هاتين الآيتين:

                                                                                                                                                                                                                                      لا يحب الله الجهر بالسوء من القول - إلا من ظلم - وكان الله سميعا عليما إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء، فإن الله كان عفوا قديرا ..

                                                                                                                                                                                                                                      إن المجتمع شديد الحساسية، وفي حاجة إلى آداب اجتماعية تتفق مع هذه الحساسية. ورب كلمة عابرة لا يحسب قائلها حسابا لما وراءها; ورب شائعة عابرة لم يرد قائلها بها إلا فردا من الناس.. ولكن هذه وتلك تترك في نفسية المجتمع وفي أخلاقه وفي تقاليده وفي جوه آثارا مدمرة; وتتجاوز الفرد المقصود إلى الجماعة الكبيرة.

                                                                                                                                                                                                                                      والجهر بالسوء من القول - في أية صورة من صوره - سهل على اللسان ما لم يكن هناك تحرج في الضمير وتقوى لله. وشيوع هذا السوء كثيرا ما يترك آثارا عميقة في ضمير المجتمع.. كثيرا ما يدمر الثقة المتبادلة [ ص: 796 ] في هذا المجتمع فيخيل إلى الناس أن الشر قد صار غالبا. وكثيرا ما يزين لمن في نفوسهم استعداد كامن للسوء، ولكنهم يتحرجون منه، أن يفعلوه لأن السوء قد أصبح ديدن المجتمع الشائع فيه، فلا تحرج إذن ولا تقية، وهم ليسوا بأول من يفعل! وكثيرا ما يذهب ببشاعة السوء بطول الألفة. فالإنسان يستقبح السوء أول مرة بشدة; حتى إذا تكرر وقوعه أو تكرر ذكره، خفت حدة استقباحه والاشمئزاز منه; وسهل على النفوس أن تسمع - بل أن ترى - ولا تثور للتغيير على المنكر.

                                                                                                                                                                                                                                      ذلك كله فوق ما يقع من الظلم على من يتهمون بالسوء ويشاع عنهم - وقد يكونون منه أبرياء - ولكن قالة السوء حين تنتشر; وحين يصبح الجهر بها هينا مألوفا، فإن البريء قد يتقول عليه مع المسيء; ويختلط البر بالفاجر بلا تحرج من فرية أو اتهام; ويسقط الحياء النفسي والاجتماعي الذي يمنع الألسنة من النطق بالقبيح; والذي يعصم الكثيرين من الإقدام على السوء.

                                                                                                                                                                                                                                      إن الجهر بالسوء يبدأ في أول الأمر اتهامات فردية - سبا وقذفا - وينتهي انحلالا اجتماعيا; وفوضى أخلاقية; تضل فيها تقديرات الناس بعضهم لبعض أفرادا وجماعات; وتنعدم فيها الثقة بين بعض الناس وبعض; وقد شاعت الاتهامات; ولاكتها الألسنة بلا تحرج.

                                                                                                                                                                                                                                      لذلك كله كره الله للجماعة المسلمة أن تشيع فيها قالة السوء. وأن يقتصر حق الجهر بها على من وقع عليه ظلم; يدفعه بكلمة السوء يصف بها الظالم; في حدود ما وقع عليه منه من الظلم! لا يحب الله الجهر بالسوء من القول - إلا من ظلم - ..

                                                                                                                                                                                                                                      ففي هذه الحالة يكون الوصف بالسوء - ويشمل ما تعبر عنه المصطلحات القانونية بالسب والقذف - انتصارا من ظلم، ودفعا لعدوان، وردا لسوء بذاته قد وقع بالفعل على إنسان بذاته; وتشهيرا بالظلم والظالم في المجتمع; لينتصف المجتمع للمظلوم; وليضرب على يد الظالم; وليخشى الظالم عاقبة فعله، فيتردد في تكراره.. والجهر بالسوء عندئذ يكون محدد المصدر - من الشخص الذي وقع عليه الظلم - محدد السبب - فهو الظلم المعين الذي يصفه المظلوم - موجها إلى شخص بذاته هو الذي وقع منه الظلم.. عندئذ يكون الخير الذي يتحقق بهذا الجهر مبررا له; ويكون تحقيق العدل والنصفة هو الهدف لا مطلق التشهير..

                                                                                                                                                                                                                                      إن الإسلام يحمي سمعة الناس - ما لم يظلموا - فإذا ظلموا لم يستحقوا هذه الحماية; وأذن للمظلوم أن يجهر بكلمة السوء في ظالمه; وكان هذا هو الاستثناء الوحيد من كف الألسنة عن كلمة السوء.

                                                                                                                                                                                                                                      وهكذا يوفق الإسلام بين حرصه على العدل الذي لا يطيق معه الظلم، وحرصه على الأخلاق الذي لا يطيق معه خدشا للحياء النفسي والاجتماعي..

                                                                                                                                                                                                                                      ويعقب السياق القرآني على ذلك البيان هذا التعقيب الموحي:

                                                                                                                                                                                                                                      وكان الله سميعا عليما ..

                                                                                                                                                                                                                                      ليربط الأمر في النهاية بالله، بعد ما ربطه في البداية بحب الله وكرهه: لا يحب الله الجهر بالسوء.. .

                                                                                                                                                                                                                                      وليشعر القلب البشري أن مرد تقدير النية والباعث، وتقدير القول والاتهام، لله، السميع لما يقال، العليم بما وراءه مما تنطوي عليه الصدور.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم لا يقف السياق القرآني عند الحد السلبي في النهي عن الجهر بالسوء; إنما يوجه إلى الخير الإيجابي عامة; ويوجه إلى العفو عن السوء; ويلوح بصفة الله سبحانه في العفو وهو قادر على الأخذ، ليتخلق المؤمنون [ ص: 797 ] بأخلاق الله سبحانه فيما يملكون وما يستطيعون:

                                                                                                                                                                                                                                      إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء، فإن الله كان عفوا قديرا ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهكذا يرتفع المنهج التربوي بالنفس المؤمنة والجماعة المسلمة درجة أخرى.. في أول درجة يحدثهم عن كراهة الله - سبحانه - للجهر بالسوء. ويرخص لمن وقع عليه الظلم أن ينتصف أو يطلب النصف، بالجهر بالسوء فيمن ظلمه، ومما وقع عليه من الظلم.. وفي الدرجة الثانية يرتفع بهم جميعا إلى فعل الخير; ويرتفع بالنفس التي ظلمت - وهي تملك أن تنتصف من الظلم بالجهر - أن تعفو وتصفح - عن مقدرة فلا عفو بغير مقدرة - فترتفع على الرغبة في الانتصاف إلى الرغبة في السماحة وهي أرفع وأصفى..

                                                                                                                                                                                                                                      عندئذ يشيع الخير في المجتمع المسلم إذا أبدوه. ويؤدي دوره في تربية النفوس وتزكيتها إذا أخفوه - فالخير طيب في السر طيب في العلن - وعندئذ يشيع العفو بين الناس، فلا يكون للجهر بالسوء مجال. على أن يكون عفو القادر الذي يصدر عن سماحة النفس لا عن مذلة العجز; وعلى أن يكون تخلقا بأخلاق الله، الذي يقدر ويعفو:

                                                                                                                                                                                                                                      فإن الله كان عفوا قديرا .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية