الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم

عطف على جملة آتينا لقمان الحكمة لأن الواو نائبة مناب الفعل فمضمون هذه الجملة يفسر بعض الحكمة التي أوتيها لقمان . والتقدير : وآتيناه الحكمة إذ قال لابنه فهو في وقت قوله ذلك لابنه قد أوتي حكمة فكان ذلك القول من الحكمة لا محالة ، وكل حالة تصدر عنه فيها حكمة هو فيها قد أوتي حكمة .

و ( إذ ) ظرف متعلق بالفعل المقدر الذي دلت عليه واو العطف ، أي والتقدير : وآتيناه الحكمة إذ قال لابنه . وهذا انتقال من وصفه بحكمة الاهتداء [ ص: 154 ] إلى وصفه بحكمة الهدى والإرشاد . ويجوز أن يكون ( إذ قال ) ظرفا متعلقا بفعل ( اذكر ) محذوفا .

وفائدة ذكر الحال بقوله وهو يعظه الإشارة إلى أن قوله هذا كان لتلبس ابنه بالإشراك ، وقد قال جمهور المفسرين : إن ابن لقمان كان مشركا فلم يزل لقمان يعظه حتى آمن بالله وحده ، فإن الوعظ زجر مقترن بتخويف قال تعالى فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا ويعرف المزجور عنه بمتعلق فعل الموعظة فتعين أن الزجر هنا عن الإشراك بالله . ولعل ابن لقمان كان يدين بدين قومه من السودان فلما فتح الله على لقمان بالحكمة والتوحيد أبى ابنه متابعته فأخذ يعظه حتى دان بالتوحيد ، وليس استيطان لقمان بمدينة داود مقتضيا أن تكون عائلته تدين بدين اليهودية .

وأصل النهي عن الشيء أن يكون حين التلبس بالشيء المنهي عنه أو عند مقاربة التلبس به ، والأصل أن لا ينهى عن شيء منتف عن المنهي ، وقد ذكر المفسرون اختلافا في اسم ابن لقمان فلا داعي إليه .

وقد جمع لقمان في هذه الموعظة أصول الشريعة وهي : الاعتقادات ، والأعمال ، وأدب المعاملة ، وأدب النفس .

وافتتاح الموعظة بنداء المخاطب الموعوظ مع أن توجيه الخطاب مغن عن ندائه لحضوره بالخطاب ، فالنداء مستعمل مجازا في طلب حضور الذهن لوعي الكلام وذلك من الاهتمام بالغرض المسوق له الكلام كما تقدم عند قوله تعالى يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا وقوله يا بني لا تقصص رؤياك في سورة يوسف وقوله إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء في سورة العقود ، وقوله تعالى إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر في سورة مريم .

و " بني " تصغير ( ابن ) مضافا إلى ياء المتكلم فلذلك كسرت الياء ، وقرأه الجمهور بكسر ياء ( بني ) مشددة . وأصله : يا بنييي بثلات ياءات إذ أصله الأصيل يا بنيوي لأن كلمة ابن واوية اللام الملتزمة حذفها فلما صغر رد إلى [ ص: 155 ] أصله ، ثم لما التقت ياء التصغير ساكنة قبل واو الكلمة المتحركة بحركة الإعراب قلبت الواو ياء لتقاربهما وأدغمتا ، ولما نودي وهو مضاف إلى ياء المتكلم حذفت ياء المتكلم لجواز حذفها في النداء وكراهية تكرر الأمثال ، وأشير إلى الياء المحذوفة بإلزامه الكسر في أحوال الإعراب الثلاثة لأن الكسرة دليل على ياء المتكلم . وتقدم في سورة يوسف .

والتصغير فيه لتنزيل المخاطب الكبير منزلة الصغير كناية عن الشفقة به والتحبب له ، وهو في مقام الموعظة والنصيحة إيماء وكناية عن إمحاض النصح وحب الخير ، ففيه حث على الامتثال للموعظة .

ابتدأ لقمان موعظة ابنه بطلب إقلاعه عن الشرك بالله لأن النفس المعرضة للتزكية والكمال يجب أن يقدم لها قبل ذلك تخليتها عن مبادئ الفساد والضلال ، فإن إصلاح الاعتقاد أصل لإصلاح العمل . وكان أصل فساد الاعتقاد أحد أمرين هما الدهرية والإشراك ، فكان قوله لا تشرك بالله يفيد إثبات وجود إله وإبطال أن يكون له شريك في إلهيته .

وقرأ حفص عن عاصم في المواضع الثلاثة في هذه السورة يا بني بفتح الياء مشددة على تقدير : يا بنيا بالألف وهي اللغة الخامسة في المنادى المضاف إلى ياء المتكلم ثم حذفت الألف واكتفي بالفتحة عنها ، وهذا سماع .

وجملة إن الشرك لظلم عظيم تعليل للنهي عنه وتهويل لأمره ، فإنه ظلم لحقوق الخالق ، وظلم المرء لنفسه إذ يضع نفسه في حضيض العبودية لأخس الجمادات ، وظلم لأهل الإيمان الحق إذ يبعث على اضطهادهم وأذاهم ، وظلم لحقائق الأشياء بقلبها وإفساد تعلقها .

وهذا من جملة كلام لقمان كما هو ظاهر السياق ، ودل عليه الحديث في صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود قال : لما نزلت الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : أينا لا يظلم نفسه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم .

[ ص: 156 ] وجوز ابن عطية أن يكون جملة إن الشرك لظلم عظيم من كلام الله تعالى أي معترضة بين كلم لقمان . فقد روي عن ابن مسعود أنهم لما قالوا ذلك أنزل الله تعالى إن الشرك لظلم عظيم وانظر من روى هذا ومقدار صحته .

التالي السابق


الخدمات العلمية