الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 4845 ] القول في تأويل قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      [26 - 28] وأنـزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شيء قديرا يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأنـزل الذين ظاهروهم أي: عاونوا الأحزاب، وساعدوهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أهل الكتاب يعني بني قريظة، وهم طائفة من اليهود، كان نزل آباؤهم الحجاز لما فروا من الاضطهاد وتشتتوا كل شتات في أطراف البلاد: من صياصيهم أي: حصونهم وآطامهم التي كانوا فيها: وقذف في قلوبهم الرعب أي: الخوف، جزاء وفاقا.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن كثير : لأنهم كانوا مالئوا المشركين على حرب النبي صلى الله عليه وسلم -وليس من يعلم كمن لا يعلم- وأخافوا المسلمين وراموا قتلهم ليعزوا في الدنيا، فانعكس عليهم الحال وانقلب إليهم القتال، لما انشمر المشركون وراحوا بصفقة المغبون، فكما راموا العز ذلوا، وأرادوا استئصال المسلمين فاستؤصلوا; ولهذا قال تعالى: فريقا تقتلون وتأسرون فريقا يعني قتل الرجال المقاتلة، وسبي الذراري والنساء.

                                                                                                                                                                                                                                      روى الإمام أحمد عن عطية القرظي قال: عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة فشكوا في. فأمر بي النبي صلى الله عليه وسلم أن ينظروا: هل أنبت بعد؟ فنظروني فلم يجدوني أنبت، فخلى عني، وألحقني بالسبي.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 4846 ] وكذا رواه أهل السنن كلهم: وقال الترمذي : حسن صحيح.

                                                                                                                                                                                                                                      وأورثكم أرضهم وديارهم حصونهم: وأموالهم أي: نقودهم وأثاثهم ومواشيهم: وأرضا لم تطئوها أي: أرضا لم تقبضوها بعد، يعني خيبر، وقيل مكة. رواه مالك عن زيد بن أسلم . وقيل: فارس والروم، وقال ابن جرير : يجوز أن يكون الجميع مرادا. قال الزمخشري : ومن بدع التفاسير أنه أراد نساءهم. وبتمام هذه الغزوة أراح الله المسلمين من شر مجاورة اليهود الذين تعودوا الغدر والخيانة، ولم يبق إلا بقية من كبارهم بخيبر مع أهلها، وهم الذين كانوا السبب في إثارة الأحزاب. قال بعضهم: يالله! ما أسوأ عاقبة الطيش! فقد تكون الأمة مرتاحة البال هادئة الخواطر، حتى تقوم جماعة من رؤسائها بعمل غدر يظنون من ورائه النجاح، فيجلب عليهم الشرور ويشتتهم من ديارهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا ما حصل لليهود في الحجاز; فقد كان بينهم وبين المسلمين عهود يأمن بها كل منهم الآخر، ولكن اليهود لم يوفوا بتلك العهود حسدا منهم وبغيا. فتم عليهم ما تم، سنة الله في المفسدين، فإن الله لا يصلح أعمالهم: وكان الله على كل شيء قديرا أي: وقد شاهدتم بعض مقدوراته فاعتبروا بغيرها.

                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا أي: السعة والتنعم فيها: وزينتها أي: زخارفها: فتعالين أمتعكن وأسرحكن أي: أعطكن المتعة وأطلقكن. والمتعة: ما يعطى للمرأة المطلقة على حسب السعة والإقتار، من ثياب أو دراهم أو أثاث، تطوعا لا وجوبا. وقوله تعالى: سراحا جميلا أي: طلاقا من غير ضرار ولا بدعة. وقد روي أنهن سألن النبي صلى الله عليه وسلم ثياب الزينة وزيادة النفقة مما ليس عنده. فنزلت الآية. ولما نزلت، بدأ صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها، وكانت أحبهن إليه، فخيرها وقرأ عليها القرآن، فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة، ثم اختار جميعهن اختيارها، قيل: وكان تحته يومئذ تسع نسوة، خمس من قريش: عائشة ، وحفصة ، وأم حبيبة ، وسودة ، وأم سلمة رضي الله عنهن، ثم صفية بنت حيي النضرية، وميمونة بنت الحارث الهلالية ، وزينب بنت جحش الأسدية ، وجويرية بنت الحارث المصطلقية رضي الله عنهن.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 4847 ] لطيفة:

                                                                                                                                                                                                                                      قال الرازي: وجه التعلق، وهو أن مكارم الأخلاق منحصرة في شيئين: التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله. وإلى هذا أشار عليه السلام بقوله: « الصلاة وما ملكت أيمانكم » . ثم إن الله تعالى لما أرشد نبيه إلى ما يتعلق بجانب التعظيم لله، بقوله: يا أيها النبي اتق الله ذكر ما يتعلق بجانب الشفقة، وبدأ بالزوجات، فإنهن أولى الناس بالشفقة، ولذا قدمهن في النفقة. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية