الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      القول في تأويل قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      [55] لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ولا نسائهن ولا ما ملكت أيمانهن واتقين الله إن الله كان على كل شيء شهيدا .

                                                                                                                                                                                                                                      لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ولا نسائهن أي: لا حرج ولا إثم عليهن، في أن لا يحتجبن من هؤلاء المسمين. قال الطبري : وعني بـ: (إخوانهن وأبناء إخوانهن); وإخوتهن، وأبناء إخوتهن، وخرج معهم جمع ذلك، مخرج جمع فتى إذا جمع: (فتيان)، فكذلك جمع أخ إذا جمع: (إخوان)، وأما إذا جمع إخوة فذلك نظير جمع فتى إذا جمع (فتية).

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 4898 ] تنبيهات:

                                                                                                                                                                                                                                      الأول- قيل: إنما لم يذكر العم والخال، لأنهما بمنزلة الوالدين، ولذلك سمي العم أيضا أبا في قوله تعالى: وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق أو لأنه اكتفى عن ذكرهما بذكر أبناء الإخوة، وأبناء الأخوات، فإن مناط عدم لزوم الاحتجاب بينهن وبين الفريقين، عين ما بينهن وبين العم والخال من العمومة والخؤولة; لما أنهن عمات لأبناء الإخوة، وخالات لأبناء الأخوات. وقيل: لأنه كره ترك الاحتجاب منهما; مخافة أن يصفاهن لأبنائهما.

                                                                                                                                                                                                                                      وهو رأي عكرمة والشعبي ، كما أخرجه الطبري من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة والشعبي أنه قال لهما: ما شأن العم والخال لم يذكرا؟ قالا: لأنهما ينعتانها لأبنائهما. وكرها أن تضع خمارها عند خالها وعمها.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشهاب: لكنه قيل عليه، إن هذه العلة، وهو احتمال أن يصفا لأبنائهما وهما يجوز لهما التزوج بها، جار في النساء كلهن، ممن لم يكن أمهات محارم. فينبغي التعويل على الأول. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      والتحقيق في رده ما رواه البخاري في التفسير من طريق عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: استأذن علي أفلح أخو أبي القعيس، بعد ما أنزل الحجاب، فقلت: لا آذن له حتى أستأذن فيه النبي صلى الله عليه وسلم. فإن أخاه أبا القعيس ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس. فدخل علي النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت له: يا رسول الله! إن أفلح أخا أبي القعيس [ ص: 4899 ] استأذن. فأبيت أن آذن حتى أستأذنك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « وما منعك أن تأذني؟ عمك » . قلت: يا رسول الله! إن الرجل ليس هو أرضعني، لكن أرضعتني امرأة أبي القعيس، فقال: « ائذني له فإنه عمك، تربت يمينك » .

                                                                                                                                                                                                                                      قال عروة : فلذلك كانت عائشة تقول: حرموا من الرضاعة ما تحرمون من النسب. انتهى. فبقوله صلى الله عليه وسلم: « ائذني له فإنه عمك » مع قوله في الحديث الآخر « العم صنو الأب » يرد على عكرمة والشعبي .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني- قيل: أريد بقوله تعالى: ولا نسائهن المسلمات، حتى لا يجوز للكتابيات الدخول على أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل هو عام في المسلمات والكتابيات. وإنما قال: ولا نسائهن لأنهن من أجناسهن.

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث- استدل بعموم قوله تعالى: ولا ما ملكت أيمانهن من ذهب إلى أن عبد المرأة محرم لها. وذهب قوم إلى أنه كالأجانب. والآية مخصوصة بالإماء دون العبيد، وتقدم تفصيل ذلك في سورة النور.

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع- قال السيوطي في (الإكليل): استدل الحسن والحسين بعدم ذكر أبناء العمومة فيها، على تحريم نظرهما إليهن، فكانا لا يدخلان عليهن: واتقين الله أي: أن تتعدين ما حد لكن، فتبدين من زينتكن ما ليس لكن، أو تتركن الحجاب فيراكن أحد غير هؤلاء. وقال الرازي: أي: واتقينه عند المماليك. قال: ففيه دليل على أن التكشف لهم مشروط بشرط السلامة والعلم بعدم المحذور. وقوله تعالى: "إن الله كان على كل شيء شهيدا" أي: فهو [ ص: 4900 ] شاهد على ما تفعلنه من احتجابكن وترككن الحجاب لمن أبيح لكن تركه، وغير ذلك من أموركن، فاحذرن أن تلقينه، وهو شاهد عليكن بمعصيته، وخلاف أمره، ونهيه، فتهلكن. قال الرازي: هذا التذليل في غاية الحسن في هذا الموضع، لأن ما سبق إشارة إلى جواز الخلوة بهم والتكشف لهم، فقال: إن الله شاهد عند اختلاء بعضكم ببعض، فخلوتكم مثل ملتكم بشهادة الله تعالى فاتقوا. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية