الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              1588 [ ص: 574 ] 95 - باب: الجمع بين الصلاتين بالمزدلفة 1672 - حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن موسى بن عقبة، عن كريب، عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، أنه سمعه يقول: دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عرفة، فنزل الشعب، فبال، ثم توضأ ولم يسبغ الوضوء. فقلت له: الصلاة. فقال: "الصلاة أمامك". فجاء المزدلفة، فتوضأ، فأسبغ، ثم أقيمت الصلاة، فصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت الصلاة فصلى، ولم يصل بينهما. [انظر: 139- مسلم: 1280 - فتح: 3 \ 523]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه حديث أسامة: أنه سمعه يقول: دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عرفة، فنزل الشعب .. الحديث، وسلف قريبا، وهنا أتم.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (دفع من عرفة) يريد: بعد الغروب، كما جاء مبينا في حديث آخر.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن حبيب: إذا دفع الإمام من عرفة، فارفع يديك بالدعاء، وادفع بالسكينة، فإن كنت راجلا فامش الهوينا ، وإن كنت راكبا فافعل السنة كما سلف، ويستحب أن يأخذ في طريق المأزمين، فإن خالف فلا شيء عليه; لأنه ليس فيه إخلال بنسك يجبر.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب) يريد أنه بدأ بها ولم يؤخرها; لأنه وصل موضعه، وقد سئل مالك فيمن أتاها: أيبدأ بالصلاة أو بحط رحله؟ فقال: إن كان خفيفا فلا بأس به، دون المحامل والزوامل، فلا أراه قبلها، وليبدأ بالصلاتين ثم يحط. وقال أشهب: له حط رحله قبلها، وحطه بعد المغرب أحب، ما لم يضطر [ ص: 575 ] إلى دابته، لما بدابته من الثقل أو لغيره من العدو .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (فصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت الصلاة). يريد تعجيل المغرب أولا، فلما صلاها اتسع الوقت للعشاء فأناخ، وقد صلى ابن مسعود بعدها ركعتين ثم تعشى ثم أذن، كما سيأتي قريبا.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (ولم يصل بينهما) يريد: لم يتنفل، وهو خلاف ما فعله ابن مسعود. وقال أشهب: لا يتعشى قبل أن يصلي المغرب، وإن خفف، وليصل المغرب ثم يتعشى قبل أن يصلي، فإن كان عشاؤه خفيفا، وإن كان فيه طول أخره حتى يصلي العشاء فيما أحب ، ويحتمل هذا أن يكون الجمع هنا ليس مقصودا في نفسه، وإنما المقصود تأخير المغرب إلى مغيب الشفق، ويحتمل أن يكون هذا العمل اليسير ليس بفاصل، ولا مانع من حكم الجمع وتقدم التنفل.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن الجلاب: وعندنا: لا يضر الفصل في جمع التأخير وإن طال.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: أن السنة من أيام الحاج الجمع بمزدلفة وهو إجماع، وقد أسلفنا في باب: النزول بين عرفة وجمع، اختلاف العلماء فيما إذا صلى قبل أن يأتي المزدلفة، وفيها قول ثالث: أنه يجزئ إماما كان أو غيره، روي ذلك عن عمر وابن عباس وابن الزبير وعطاء وعروة والقاسم، وبه قال الأوزاعي وأبو يوسف والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 576 ] وحجة من أجاز ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - جعل وقت هاتين الصلاتين من حين تغيب الشمس إلى آخر وقت العشاء، وجعل له أن يجمع تقديما وتأخيرا، وأوقات الصلاة إنما هي محدودة بالساعات والزمان، فمن صلاها بعد الغروب بعرفة أو دون المزدلفة فقد أصاب الوقت، وإن ترك الاختيار لنفسه في الموضع، والصلاة لا تبطل بالخطإ في الموضع إذا لم يكن نجسا، ألا ترى أن من صلاها بعد خروج وقتها بالمزدلفة، فمن لم يصل إلى المزدلفة إلا بعد طلوع الفجر أنه قد فاته وقتها؟ فلا اعتبار بالمكان.

                                                                                                                                                                                                                              ويشبه هذا المعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة" . فأدرك وقت الصلاة القوم في بعض الطريق، فمنهم من صلى، ومنهم من أخر إلى بني قريظة، فلم يعنف أحدا منهم.

                                                                                                                                                                                                                              واحتج الطحاوي لأبي يوسف فقال: لا يختلفون في الصلاتين اللتين تصليان بعرفة أنهما لو صليتا دونهما كل واحدة منهما في وقتها في سائر الأيام كانتا مجزئتين. فالصلاة بمزدلفة أحرى أن تكونا كذلك; لأن أمر عرفة لما كان آكد من أمر مزدلفة كان ما يفعل في عرفة آكد مما يفعل في مزدلفة، فثبت ما قال أبو يوسف وانتفى ما قاله الآخرون .

                                                                                                                                                                                                                              فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              سميت المزدلفة لاقترابهم إلى منى، والازدلاف: التقرب، ومنه وأزلفت الجنة للمتقين [الشعراء: 90] أو لاجتماع الناس بها، [ ص: 577 ] والاجتماع: الازدلاف، ومنه وأزلفنا ثم الآخرين [الشعراء: 64] أي: جمعناهم أو قربناهم من الهلاك ، قولان.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ثعلب: لأنها منزلة وقربة من الله تعالى، ومنه: فلما رأوه زلفة [الملك: 27] أي: رأوا العذاب قربة.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الطبري: لازدلاف آدم إلى حواء ، وكان كل واحد منهما لما أهبط إلى الأرض أهبط إلى مكان غير مكان صاحبه، فازدلف كل منهما إلى الآخر، فتلاقيا بالمزدلفة.

                                                                                                                                                                                                                              وقيل: للنزول بها في زلفة من الليل. وقال الكلبي: لدفع الناس منها زلفة جميعا يزدلفون منها إلى موضع آخر.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الخطابي: اللام بعد الدال مكسورة، قال: وآخرها محسر، وأول منى بطن محسر الذي يستحب الإسراع فيه; لأنه كان موقف النصارى.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية