الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب .

                          لما كان المتشابه مزلة الأقدام ومدرجة الزائغين إلى الفتنة وصل الراسخون الإقرار بالإيمان به بالدعاء بالحفظ من الزيغ بعد الهداية ، فإنهم لرسوخهم في العلم يعرفون ضعف البشر وكونهم عرضة للتقلب والنسيان والذهول ، ويعرفون أن قدرة الله فوق كل شيء ، وعلمه لا يحاط به ، وهو المحيط بكل شيء ، فيخافون أن يستزلوا فيقعوا في الخطأ والخطأ في هذا المقام قرين الخطر ، وليس للإنسان بعد بذل جهده في إحكام العلم في مسائل الاعتقاد وإحكام العمل بحسن الاهتداء إلا اللجأ إلى الله - تعالى - بأن يحفظه من الزيغ العارض ، ويهبه الثبات على معرفة الحقيقة ، والاستقامة على الطريقة ، فالرحمة في هذا المقام هي الثبات والاستقامة واختاره الأستاذ الإمام . أقول : ولا تلتفت في معنى الآية إلى مجادلة الأشعرية للمعتزلة في إسناد الإزاغة إلى الله - تعالى - ، فإنه - تعالى - يسند إليه كل شيء في مقام تقرير الإيمان به ، وذلك لا ينافي اختيار العبد في زيغه . فقد قال - تعالى - في سورة الصف : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم [ 61 : 5 ] ولكل مقام مقال .

                          ومن مباحث الألفاظ في الآية أن قوله - تعالى - : من لدنك معناه : من عندك فإن ( لدن ) تستعمل بمعنى ( عند ) وإن لم تكن مرادفة لها - بل هي أخص وأقرب مكانا - ولا لـ ( لدى ) .

                          فقد فرقوا بينهما بخمسة أمور ، ولا تستعمل " لدن " إلا في الشيء الحاضر ، فهي أدل على الاختصاص . فهذه الرحمة المطلوبة منه في هذا المقام هي العناية الإلهية والتوفيق الذي لا يناله العبد بكسبه . ولا يصل إليه بسعيه ، ويؤيد ذلك التعبير بالهبة ووصفه - تعالى - بالوهاب ، فإن الهبة عطاء بلا مقابل .

                          ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد جمع الناس وحشرهم واحد ، وجمعهم لذلك اليوم للجزاء فيه وهو يوم القيامة ، وكونه [ ص: 190 ] ( لا ريب فيه ) معناه : أننا موقنون به لا شك فيه ; لأنك أخبرت به ووعدت وأوعدت بالجزاء فيه ، وليس معناه كمعنى ذلك الكتاب لا ريب فيه [ 2 : 2 ] أي أنه ليس من شأنه أن يرتاب فيه ; فإن الكلام هناك عن الكتاب في نفسه ، والكلام هنا حكاية عن المؤمنين الراسخين في العلم ; ولذلك علل نفي الريب بنفي إخلاف الميعاد ، وجيء به على طريق الالتفات عن الخطاب إلى الغيبة للإشعار بهذا التعليل ، هذا على قول الجمهور : أن الجملة كالدعاء من كلام الراسخين في العلم ، وجوزوا أن تكون من كلامه - تعالى - لتقرير قولهم ودعائهم وهو خلاف المتبادر .

                          قال الأستاذ الإمام : إن مناسبة هذا الدعاء للإيمان بالمتشابه ظاهرة على القول بأن المتشابه هو الإخبار عن الآخرة ، أي أنهم كما يؤمنون بمضمونه والمراد منه وما يئول إليه ، وأما على القول بأنه لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم فوجهه أنهم يذكرون يوم الجمع ; ليستشعروا أنفسهم الخوف من تسرب الزيغ الذي يبسلهم في ذلك اليوم .

                          فهذا الخوف هو مبعث الحذر والتوقي من الزيغ . أعاذنا الله منه بمنه وكرمه .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية