الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيبا موقع هذه الآية في المصحف عقب التي قبلها يدل على أنها كذلك نزلت وأن الكلام متصل بعضه ببعض ومنتظم هذا النظم البديع ، على أن حذف ما أضيفت إليه ( بعد ) ينادي على أنه حذف معلوم دل عليه الكلام السابق ، فتأخرها في النزول عن الآيات التي قبلها وكونها متصلة بها وتتمة لها مما لا ينبغي أن يتردد فيه ، فتقدير المضاف إليه المحذوف لا يخلو : إما أن يؤخذ من ذكر الأصناف قبله ، أي من بعد الأصناف المذكورة بقوله إنا أحللنا لك أزواجك الخ . وإما أن يكون مما يقتضيه الكلام من الزمان ، أي من بعد هذا الوقت ، والأول الراجح .

و ( بعد ) يجوز أن يكون بمعنى ( غير ) كقوله تعالى فمن يهديه من بعد الله وهو استعمال كثير في اللغة ، وعليه فلا ناسخ لهذه الآية من القرآن ولا هي ناسخة لغيرها ، ومما يؤيد هذا المعنى التعبير بلفظ الأزواج في قوله ولا أن تبدل [ ص: 78 ] بهن من أزواج أي غيرهن وعلى هذا المحمل حمل الآية ابن عباس فقد روى الترمذي عنه قال : نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات فقال لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك فأحل الله المملوكات المؤمنات وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي . ومثل هذا مروي عن أبي بن كعب ، وعكرمة ، والضحاك . ويجوز أن يكون ( بعد ) مرادا به الشيء المتأخر عن غيره وذلك حقيقة معنى البعدية فيتعين تقدير لفظ يدل على شيء سابق .

وبناء ( بعد ) على الضم يقتضي تقدير مضاف إليه محذوف يدل عليه الكلام السابق على ما درج عليه ابن مالك في الخلاصة وحققه ابن هشام في شرحه على قطر الندى ، فيجوز أن يكون التقدير : من بعد من ذكرن على الوجهين في معنى البعدية فيقدر : من غير من ذكرن ، أو يقدر من بعد من ذكرن ، فتنشأ احتمالات أن يكون المراد أصناف من ذكرن أو أعداد من ذكرن ( وكن تسعا ) ، أو من اخترتهن .

ويجوز أن يقدر المضاف إليه وقتا ، أي بعد اليوم أو الساعة ، أي الوقت الذي نزلت فيه الآية فيكون نسخا لقوله إنا أحللنا لك أزواجك إلى قوله خالصة لك .

وأما ما رواه الترمذي عن عائشة أنها قالت : ما مات رسول الله حتى أحل الله له النساء . وقال حديث حسن . ( وهو مقتض أن هذه الآية منسوخة ) فهو يقتضي أن ناسخها من السنة لا من القرآن لأن قولها : ما مات ، يؤذن بأن ذلك كان آخر حياته فلا تكون هذه الآية التي نزلت مع سورتها قبل وفاته - صلى الله عليه وسلم - بخمس سنين ناسخة للإباحة التي عنتها عائشة فالإباحة إباحة تكريم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وروى الطحاوي مثل حديث عائشة عن أم سلمة .

والنساء : إذا أطلق في مثل هذا المقام غلب في معنى الأزواج ، أي الحرائر دون الإماء كما قال النابغة :


حذارا على أن لا تنال مقادتي ولا نسوتي حتى يمتن حرائرا

أي لا تحل لك الأزواج من بعد من ذكرن .

[ ص: 79 ] وقوله ولا أن تبدل بهن أصله : تتبدل بتاءين حذفت إحداهما تخفيفا ، يقال : بدل وتبدل ، ومادة البدل تقتضي شيئين : يعطى أحدهما عوضا عن أخذ الآخر فالتبديل يتعدى إلى الشيء المأخوذ بنفسه وإلى الشيء المعطى بالباء أو بحرف من ، وتقدم عند قوله تعالى ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل في سورة البقرة .

والمعنى : أن من حصلت في عصمتك من الأصناف المذكورة لا يحل لك أن تطلقها ، فكني بالتبدل عن الطلاق ؛ لأنه لازمه في العرف الغالب لأن المرء لا يطلق إلا وهو يعتاض عن المطلقة امرأة أخرى ، وهذه الكناية متعينة هنا ؛ لأنه لو أريد صريح التبدل لخالف آخر الآية أولها وسابقتها فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحلت له الزيادة على النساء اللاتي عنده إذا كانت المزيدة من الأصناف الثلاثة السابقة وحرم عليه ما عداهن ، فإذا كانت المستبدلة إحدى نساء من الأصناف الثلاثة لم يستقم أن يحرم عليه استبدال واحدة منهن بعينها لأن تحريم ذلك ينافي إباحة الأصناف ولا قائل بالنسخ في الآيتين ، وإذا كانت المستبدلة من غير الأصناف الثلاثة كان تحريمها عاما في سائر الأحوال فلا محصول لتحريمها في خصوص حال إبدالها في غيرها فتمحض أن يكون الاستبدال مكنى به عن الطلاق وملاحظا فيه نية الاستبدال .

فالمعنى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أبيحت له الزيادة على النساء اللاتي حصلن في عصمته أو يحصلن من الأصناف الثلاثة ولم يبح له تعويض قديمة بحادثة .

والمعنى : ولا أن تبدل بامرأة حصلت في عصمتك أو ستحصل امرأة غيرها .

فالباء داخلة على المفارقة .

و ( من ) مزيدة على المفعول الثاني ل - ( تبدل ) لقصد إفادة العموم . والتقدير : ولا أن تبدل بهن أزواجا أخر ، فاختص هذا الحكم بالأزواج من الأصناف الثلاثة وبقيت السراري خارجة بقوله إلا ما ملكت يمينك . وأما التي تهب نفسها [ ص: 80 ] فهي إن أراد النبيء - صلى الله عليه وسلم - أن ينكحها فقد انتظمت في سلك الزواج ، فشملها حكمهن ، وإن لم يرد أن ينكحها فقد بقيت أجنبية لا تدخل في تلك الأصناف .

وقرأ الجمهور لا يحل بياء تحتية على اعتبار التذكير لأن فاعله جمع غير صحيح فيجوز فيه اعتبار الأصل . وقرأه أبو عمرو ، ويعقوب بفوقية على اعتبار التأنيث بتأويل الجماعة وهما وجهان في الجمع غير السالم .

وجملة لو أعجبك حسنهن في موضع الحال والواو واوه ، وهي حال من ضمير تبدل . ( ولو ) للشرط المقطوع بانتفائه وهي للفرض والتقدير . وتسمى وصلية ، فتدل على انتفاء ما هو دون المشروط بالأولى ، وقد تقدم في قوله تعالى ولو افتدى به في آل عمران .

والمعنى : لا يحل لك النساء من بعد بزيادة على نسائك وبتعويض إحداهن بجديدة في كل حالة حتى في حالة إعجاب حسنهن إياك .

وفي هذا إيذان بأن الله لما أباح لرسوله الأصناف الثلاثة أراد اللطف له وأن لا يناكد رغبته إذا أعجبته امرأة لكنه حدد له أصنافا معينة وفيهن غناء .

وقد عبرت عن هذا المعنى عائشة - رضي الله عنها - بعبارة شيقة إذ قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ما أرى ربك إلا يسارع في هواك . وأكدت هذه المبالغة بالتذييل من قوله وكان الله على كل شيء رقيبا أي عالما بجري كل شيء على نحو ما حدده أو على خلافه ، فهو يجازي على حسب ذلك . وهذا وعد للنبي - صلى الله عليه وسلم - بثواب عظيم على ما حدد له من هذا الحكم .

والاستثناء في قوله إلا ما ملكت يمينك منقطع . والمعنى : لكن ما ملكت يمينك حلال في كل حال . والمقصود من هذا الاستدراك دفع توهم أن يكون المراد من لفظ النساء في قوله لا يحل لك النساء ما يرادف لفظ الإناث دون استعماله العرفي بمعنى الأزواج كما تقدم .

التالي السابق


الخدمات العلمية