الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
139 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الميت يصير إلى القبر ، فيجلس الرجل في قبره غير فزع ولا مشغوب ، ثم يقال : فيم كنت ؟ فيقول : كنت في الإسلام . فيقال : ما هذا الرجل ؟ فيقول : محمد رسول الله جاءنا بالبينات من عند الله ، فصدقناه . فيقال له : هل رأيت الله ؟ فيقول : ما ينبغي لأحد أن يرى الله ، فيفرج له فرجة قبل النار ، فينظر إليها يحطم بعضها بعضا ، فيقال له : انظر إلى ما وقاك الله ، ثم يفرج له فرجة قبل الجنة ، فينظر إلى زهرتها وما فيها ، فيقال له : هذا مقعدك ، على اليقين كنت ، وعليه مت ، وعليه تبعث إن شاء الله تعالى . ويجلس الرجل السوء في قبره فزعا مشغوبا ، فيقال : فيم كنت ؟ فيقول : لا أدري ! فيقال له : ما هذا الرجل ؟ فيقول : سمعت الناس يقولون قولا فقلته ، فيفرج له فرجة قبل الجنة ، فينظر إلى زهرتها وما فيها ، فيقال له : انظر إلى ما صرف الله عنك ، ثم يفرج له فرجة إلى النار ، فينظر إليها يحطم بعضها بعضا ، فيقال له : هذا مقعدك ، على الشك كنت ، وعليه مت ، وعليه تبعث إن شاء الله تعالى " رواه ابن ماجه .

التالي السابق


139 - ( وعن أبي هريرة ) : - رضي الله عنه - ( عن النبي ) : وفي نسخة : عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إن الميت ) : اللام للجنس ( يصير إلى القبر ) : وكل ما استقر فيه بعد الموت فهو قبره ( فيجلس ) : قيل مجهول ( الرجل ) ، أي : الصالح كما في نسخة ( في قبره غير فزع ) : بكسر الزاي ونصب ( غير ) على الحالية وقوله : ( ولا مشغوب ) : تأكيد من الشغب وهو تهييج الشر والفتنة . قال ابن حجر : فزع صفة مشبهة يدل على المبالغة كذا قيل ، وفيه نظر لإيهامه هنا إذ سلب ما هو كذلك لا يدل على سلب أصل الفعل كما قالوه في ( وما ربك بظلام للعبيد ) فتعين أن المراد غير ذي فزع كما أن تقدير الآية بذي ظلم أقول : تقدير الآية مسلم ، وأما الحديث فلا يحتاج إلى تأويل فإن بقاء أصل الفزع غير منفي كما يدل عليه الأحاديث بل النفي منصب على شدة الفزع ، ولا دلالة في قوله : ولا مشغوب على ما ذكره في مدعاه ( ثم يقال ) ، أي : له كما في نسخة ( " فيم كنت " ) أي في أي دين عشت ( فيقول : كنت في الإسلام ) . هذا يدل على غاية تمكنه من الإسلام خلاف المنافق لأن الجواب الظاهر أن يقول في الإسلام ( فيقال ) : أي له ( ما هذا الرجل ) : ما : استفهام مبتدأ وهذا الرجل خبره ، أي ما وصفه ونعته ؟ أو ما اعتقادك فيه ( فيقول : محمد ) ، أي : صاحب هذا الاسم المفخم المشتهر الذي لا يخفى على أحد ، ثم وصفه بقوله ( رسول الله ) : وهو يحتمل أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف أو خبرا بعد خبر ، والأظهر أنه خبر لمحمد ، والجملة مقول ، وهو متضمن للجواب عن وصفه . وقوله : ( جاءنا بالبينات ) ، أي : الآيات الظاهرات أو المعجزات الباهرات جملة استئنافية مبينة للجملة الأولى ، ويحتمل أن يكون رسول الله صفة وجاءنا خبرا والأول أوجه ( من عند الله ) : متعلق بجاء أو صفة أو حال ( فصدقناه ) ، أي : بجميع ما جاء من عند الله ( فيقال له : هل رأيت الله ؟ ) : قيل : نشأ هذا السؤال من قوله : من عند الله ، أي : كيف تقول من عند الله ؟ فهل رأيت الله في الدنيا ؟ ( فيقول : ما ينبغي ) ، أي : لا يصح ( لأحد ) : جواب بالأعم فإنه للمقصود أتم ( أن يرى الله ) ، أي : يبصره ببصره في الدنيا أو يحيط بكنهه مطلقا ( فيفرج له ) : بالتشديد ، وقيل بالتخفيف ، وكلاهما على بناء المفعول ، أي : يكشف ويفتح له ( فرجة ) : بضم الفاء وقيل بفتحها ، وهو مرفوع على نيابة الفاعل ، وفي بعض النسخ بالنصب على تقدير أعني ( قبل النار ) : بكسر القاف وفتح الباء ، أي : جهتها ؛ منصوب على الظرف أي يرفع الحجب بينه وبينها حتى يراها ( فينظر ) ، أي : المؤمن ( إليه ) : ذكر ضمير النار بتأويل العذاب ، وأنث في قوله ( يحطم بعضها بعضا ) : نظرا إلى اللفظ والحطم : الحبس في الموضع المتضايق الذي يتحطم فيه الخيل ، أي : يدوس بعضها بعضا والمعنى : يكسر ويغلب ويأكل بعضها بعضا لشدة تلهبها وكثرة وقودها ( فيقال له : انظر إلى ما وقاك الله ) ، أي : حفظك بحفظه تعالى إياك من الكفر والمعاصي التي تجر إلى النار ( ثم يفرج له فرجة قبل الجنة ) : وفي تقديم فرجة النار ؛ لأن المسرة بعد المضرة أنفع وفي النفس أوقع ، وإشارة إلى فضله بعد ظهور عدله ( فينظر إلى زهرتها ) ؟ بفتح الزاي أي حسنها وبهجتها ( وما فيها ) : من الحور والقصور وغيرها من الخير الكثير والملك الكبير ( فيقال له : هذا مقعدك ) ، أي : في العقبى ( على اليقين ) : حال ، والعامل ما في حرف التنبيه من معنى الفعل المتضمن لصاحب الحال ، والتعريف في اليقين للجنس وقوله : ( كنت ) : [ ص: 221 ] صفة له ، وعلى هذا ينزل قوله على الشك ، والتقدير أنبهك حال كونك ثابتا أو مثبتا على يقينك ، ويمكن أن يقال على للوجوب في الموضعين ، أي : هذا مقعدك حال كونه واجبا على الله تعالى وعدا أو وعيدا على اليقين أو الشك .

كذا حققه الطيبي فيه تكلف بل تعسف ، والظاهر أن قوله : ( على اليقين كنت ) جملة مستأنفة متضمنة للتعليل ، أي : هذا مقعدك لأنك كنت في الدنيا على اليقين في أمر الدين وتقديم الخبر للاهتمام والاختصاص التام ، ثم رأيت ابن حجر قدم قولي على قول الطيبي ويدل أيضا على انفصال قوله على اليقين عما قبله قوله : ( وعليه مت ) : بضم الميم وكسرها ( وعليه تبعث ) : يعني كما تعيش تموت وكما تموت تحشر ( إن شاء الله تعالى ) : للتبرك أو للتحقيق كقوله تعالى : إن شاء الله آمنين ( ويجلس الرجل ) : بالوجهين كما تقدم ( السوء ) : بفتح السين وتضم ضد الصالح ( في قبره فزعا ) ، أي : خائفا غاية الفزع ( مشغوبا ) ، أي : مرعوبا ( فيقال له ) ، أي : للرجل السوء ( فيم كنت ؟ ) : أي من أمر الدين ( فيقول : لا أدري ) ! ما الدين أو للهيبة نسي دينه .

وقال ابن حجر ، أي : ما الذي كنت فيه وهو كذب منه وتمويه عن أن يجيب بالجواب المطابق ، وهو أنه كان في الكفر أو النفاق اهـ .

وقد تقدم أن هذا كلام الرجل المدهوش المتحير الذي لا يدري الجواب المطلق مطابقا أو غير مطابق صوابا أو غير صواب ( فيقال له : ما هذا الرجل ؟ ) ، أي : الذي رأيته أو سمعته ( فيقول : سمعت الناس ) ، أي : المؤمنين أو الكفار أو أعم منهما ( يقولون ) ، أي : في حقه ( قولا ) : بالحق أو بالباطل على زعمه ( فقلته ) ، أي : تقليدا لا تحقيقا واعتقادا ( فيفرج له ) ، أي : فرجة كما في نسخة ( قبل الجنة ) : قبل النار لأن المحنة بعد النعمة أقوى وأشد ( فينظر إلى زهرتها وما فيها ) : كما كان ينظر في الدنيا إلى الآيات الإلهية من الأنفسية والآفاقية من غير أن ينتفع بها ( فيقال له : انظر إلى ما صرف الله عنك ) : حيث خذلك ولم يهدك ولم يوفقك إلى ما يجرك إلى الجنة اخترت من الأعمال والأوزار ما يفضي إلى النار ، ولهذا ( ثم يفرج ) : أي له كما في نسخة صحيحة ( فرجة إلى النار ، فينظر إليها ) : هنا بتأنيث الضمير ( يحطم ) : بكسر الطاء ( بعضها بعضا ) : إشارة إلى عظمة النار ( فيقال له : هذا مقعدك ) ، أي : مكانك اللازم ومحلك الدائم ( على الشك كنت ، وعليه مت ، وعليه تبعث إن شاء الله تعالى ) : والكل بقضائه وبقدره ، وبهذا تحصل المناسبة بين هذا الباب وما قبله . ( رواه ابن ماجه ) .




الخدمات العلمية