الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      وقد ذكر الحلاج أبو سعيد النقاش في " طبقات الصوفية " له ، فقال : منهم من نسبه إلى الزندقة ، ومنهم من نسبه إلى السحر والشعوذة .

                                                                                      [ ص: 349 ] وقفت على تأليف أبي عبد الله بن باكويه الشيرازي في حال الحلاج فقال : حدثني حمد بن الحلاج : أن نصرا القشوري لما اعتقل أبي استأذن المقتدر أن يبني له بيتا في الحبس ، فبنى له دارا صغيرة بجنب الحبس ، وسدوا باب الدار ، وعملوا حواليه سورا ، وفتحوا بابه إلى الحبس ، وكان الناس يدخلون عليه سنة ، ثم منعوا ، فبقي خمسة أشهر لا يدخل عليه أحد إلا مرة رأيت أبا العباس بن عطاء دخل عليه بالحيلة ، ورأيت مرة أبا عبد الله بن خفيف وأنا بر عند والدي ، ثم حبسوني معه شهرين ولي يومئذ ثمانية عشر عاما .

                                                                                      فلما كانت الليلة التي أخرج من صبيحتها ، قام فصلى ركعات ، ثم لم يزل يقول : مكر مكر ، إلى أن مضى أكثر الليل ، ثم سكت طويلا ، ثم قال : حق حق ، ثم قام قائما وتغطى بإزار ، واتزر بمئزر ، ومد يديه نحو القبلة ، وأخذ في المناجاة يقول : نحن شواهدك نلوذ بسنا عزتك لتبدي ما شئت من مشيئتك ، أنت الذي في السماء إله وفي الأرض إله ، يا مدهر الدهور ، ومصور الصور ، يا من ذلت له الجواهر ، وسجدت له الأعراض ، وانعقدت بأمره الأجسام ، وتصورت عنده الأحكام ، يا من تجلى لما شاء كما شاء كيف شاء ، مثل التجلي في المشيئة لأحسن الصورة .

                                                                                      وفي نسخة : مثل تجليك في مشيئتك كأحسن الصورة ، والصورة هي الروح الناطقة التي أفردته بالعلم والبيان والقدرة . ثم أوعزت إلي شاهدك- لأني في ذاتك الهوي - لما أردت بدايتي ، وأبديت حقائق علومي ومعجزاتي ، صاعدا في معارجي إلى عروش أوليائي عند القول من برياتي . إني أحتضر وأقتل وأصلب وأحرق ، وأحمل على السافيات الذاريات ، وإن الذرة من ينجوج مظان هيكل متجلياتي لأعظم من الراسيات .

                                                                                      ثم أنشأ يقول : [ ص: 350 ] أنعى إليك نفوسا طاح شاهدها فيما وراء الغيب أو في شاهد القدم     أنعى إليك علوما طالما هطلت
                                                                                      سحائب الوحي فيها أبحر الحكم     أنعى إليك لسان الحق مذ زمن
                                                                                      أودى وتذكاره كالوهم في العدم     أنعى إليك بيانا تستسر له
                                                                                      أقوال كل فصيح مقول فهم     أنعى إليك إشارات العقول معا
                                                                                      لم يبق منهن إلا دارس العلم     أنعى -وحقك- أحلاما لطائفة
                                                                                      كانت مطاياهم من مكمد الكظم     مضى الجميع فلا عين ولا أثر
                                                                                      مضي عاد وفقدان الأولى إرم     وخلفوا معشرا يجدون لبستهم
                                                                                      أعمى من البهم بل أعمى من النعم ثم سكت ، فقال له خادمه أحمد بن فاتك : أوصني . قال : هي نفسك ، إن لم تشغلها شغلتك . ثم أخرج ، وقطعت يداه ورجلاه بعد أن ضرب خمسمائة سوط ، ثم صلب ، فسمعته وهو على الجذع يناجي ، ويقول : أصبحت في دار الرغائب أنظر إلى العجائب .

                                                                                      فهكذا هذا السياق أنه صلب قبل قطع رأسه . فلعل ذلك فعل بعض نهار .

                                                                                      قال : ثم رأيت الشبلي وقد تقدم تحت الجذع وصاح بأعلى صوته يقول : أولم ننهك عن العالمين ؟ ثم قال له : ما التصوف ؟ قال : أهون مرقاة فيه ما ترى . قال : ما أعلاه ؟ قال : ليس لك إليه سبيل ، ولكن سترى غدا ما يجري ; فإن في الغيب ما شهدته وغاب عنك .

                                                                                      فلما كان العشي جاء الإذن من الخليفة أن تضرب رقبته ، فقالوا : قد أمسينا ويؤخر إلى الغداة . فلما أصبحنا أنزل ، وقدم لتضرب عنقه ، فسمعته يصيح بأعلى صوته : حسب الواحد إفراد الواحد له . ثم تلا : يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها .

                                                                                      [ ص: 351 ] فهذا آخر كلامه ، ثم ضربت رقبته ، ولف في بارية ، وصب عليه النفط ، وأحرق ، وحمل رماده إلى رأس المنارة لتسفيه الرياح . فسمعت أحمد بن فاتك تلميذ والدي يقول بعد ثلاث : قال : رأيت كأني واقف بين يدي رب العزة ، فقلت : يا رب ، ما فعل الحسين بن منصور ؟ فقال : كاشفته بمعنى ، فدعا الخلق إلى نفسه ، فأنزلت به ما رأيت .

                                                                                      قال ابن باكويه : سمعت ابن خفيف يسأل : ما تعتقد في الحلاج ؟ قال : أعتقد أنه رجل من المسلمين فقط . فقيل له : قد كفره المشايخ وأكثر المسلمين . فقال : إن كان الذي رأيته منه في الحبس لم يكن توحيدا ، فليس في الدنيا توحيد .

                                                                                      قلت : هذا غلط من ابن خفيف ; فإن الحلاج عند قتله ما زال يوحد الله ويصيح : الله الله في دمي ، فأنا على الإسلام . وتبرأ مما سوى الإسلام . والزنديق يوحد الله علانية ، ولكن الزندقة في سره ، والمنافقون ؛ فقد كانوا يوحدون ويصومون ويصلون علانية ، والنفاق في قلوبهم ، والحلاج ؛ فما كان حمارا حتى يظهر الزندقة بإزاء ابن خفيف وأمثاله ; بل كان يبوح بذلك لمن استوثق من رباطه ، ويمكن أن يكون تزندق في وقت ، ومرق ، وادعى الإلهية ، وعمل السحر والمخاريق الباطلة مدة ، ثم لما نزل به البلاء ورأى الموت الأحمر - أسلم ، ورجع إلى الحق ، والله أعلم بسره ، ولكن مقالته نبرأ إلى الله منها ; فإنها محض الكفر ، نسأل الله العفو والعافية ، فإنه يعتقد حلول البارئ -عز وجل- في بعض الأشراف ، تعالى الله عن ذلك .

                                                                                      كان مقتل الحلاج في سنة تسع وثلاثمائة لست بقين من ذي القعدة .

                                                                                      قرأت بخط العلامة تاج الدين الفزاري قال : رأيت في سنة سبع وستين وستمائة كتابا فيه قصة الحلاج ، منه : عن إبراهيم الحلواني قال : دخلت [ ص: 352 ] على الحسين بن منصور بين المغرب والعتمة ، فوجدته يصلي ، فجلست كأنه لم يحس بي ، فسمعته يقرأ سورة البقرة ، فلما ختمها ، ركع ، وقام في الركوع طويلا ، ثم قام إلى الثانية ، قرأ الفاتحة وآل عمران ، فلما سلم تكلم بأشياء لم أسمعها ، ثم أخذ في الدعاء ، ورفع صوته كأنه مأخوذ من نفسه ، وقال : يا إله الآلهة ، ورب الأرباب ، ويا من لا تأخذه سنة ، رد إلي نفسي ؛ لئلا يفتتن بي عبادك ، يا من هو أنا وأنا هو ! ولا فرق بين إنيتي وهويتك إلا الحدث والقدم ، ثم رفع رأسه ، ونظر إلي ، وضحك في وجهي ضحكات ، ثم قال لي : يا أبا إسحاق ، أما ترى إلى ربي ضرب قدمه في حدثي حتى استهلك حدثي في قدمه ، فلم تبق لي صفة إلا صفة القدم ، ونطقي من تلك الصفة ، فالخلق كلهم أحداث ينطقون عن حدث ، ثم إذا نطقت عن القدم ينكرون علي ، ويشهدون بكفري ، سيسعون إلى قتلي ، وهم في ذلك معذورون ، وبكل ما يفعلون مأجورون .

                                                                                      وعن عثمان بن معاوية -قيم جامع الدينور - قال : بات الحسين بن منصور في هذا الجامع ومعه جماعة ، فسأله واحد منهم ، فقال : يا شيخ ، ما تقول فيما قال فرعون ؟ قال : كلمة حق . قال : فما تقول فيما قال موسى عليه السلام ؟ قال : كلمة حق ; لأنهما كلمتان جرتا في الأبد كما أجريتا في الأزل .

                                                                                      وعن الحسين قال : الكفر والإيمان يفترقان من حيث الاسم ، فأما من حيث الحقيقة فلا فرق بينهما .

                                                                                      عن جندب بن زاذان تلميذ الحسين قال : كتب الحسين إلي : بسم الله المتجلي عن كل شيء لمن يشاء ، والسلام عليك يا ولدي ، ستر الله عنك ظاهر الشريعة ، وكشف لك حقيقة الكفر ; فإن ظاهر الشريعة كفر ، وحقيقة [ ص: 353 ] الكفر معرفة جلية ، إني أوصيك أن لا تغتر بالله ، ولا تأيس منه ، ولا ترغب في محبته ، ولا ترض أن تكون غير محب ، ولا تقل بإثباته ، ولا تمل إلى نفيه ، وإياك والتوحيد ، والسلام .

                                                                                      وعنه قال : من فرق بين الإيمان والكفر فقد كفر ، ومن لم يفرق بين المؤمن والكافر فقد كفر .

                                                                                      وعنه قال : ما وحد الله غير الله . آخر ما نقلته من خط الشيخ تاج الدين .

                                                                                      ذكر محمد بن إسحاق النديم الحسين الحلاج ، وحط عليه ، ثم سرد أسماء كتبه : كتاب " طاسين الأول " ، كتاب " الأحرف المحدثة والأزلية " ، كتاب " ظل ممدود " ، كتاب " حمل النور والحياة والأرواح " ، كتاب " الصهور " ، كتاب " تفسير : قل هو الله أحد " ، كتاب " الأبد والمأبود " ، كتاب " خلق الإنسان والبيان " ، كتاب " كيد الشيطان " ، كتاب " سر العالم والمبعوث " ، كتاب " العدل والتوحيد " ، كتاب " السياسة " ، كتاب " علم الفناء والبقاء " ، كتاب " شخص الظلمات " ، كتاب " نور النور " ، كتاب " الهياكل والعالم " ، كتاب " المثل الأعلى " ، كتاب " النقطة وبدو الخلق " كتاب " القيامات " .

                                                                                      كتاب " الكبر والعظمة " ، كتاب " خزائن الخيرات " ، كتاب " موائد العارفين " ، كتاب " خلق خلائق القرآن " ، كتاب " الصدق والإخلاص " ، كتاب " التوحيد " ، كتاب " النجم إذا هوى " ، كتاب " الذاريات ذروا " ، كتاب " هو هو " كتاب " كيف كان وكيف يكون " ، كتاب " الوجود الأول " ، كتاب " لا كيف " ، كتاب " الكبريت الأحمر " ، كتاب [ ص: 354 ] " الوجود الثاني " ، كتاب " الكيفية والحقيقة " ، وأشياء غير ذلك .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية