الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                  [ ص: 289 ] كتاب الخوف والرجاء

                                                                  الرجاء والخوف جناحان بهما يطير المقربون إلى كل مقام محمود ، ومطيتان بهما يقطع من طرق الآخرة كل عقبة كؤود ، فلا يقود إلى قرب الرحمن إلا أزمة الرجاء ، ولا يصد عن نار الجحيم إلا سياط التخويف . فلا بد إذا من بيان حقائقهما .

                                                                  بيان حقيقة الرجاء

                                                                  قد علم أرباب القلوب أن الدنيا مزرعة الآخرة ، والقلب كالأرض ، والإيمان كالبذر فيه ، والطاعات جارية مجرى تقليب الأرض وتطهيرها ، ومجرى حفر الأنهار وسياقة الماء إليها ، والقلب المستهتر بالدنيا المستغرق بها كالأرض السبخة التي لا ينمو فيها البذر ، ويوم القيامة يوم الحصاد ، ولا يحصد إلا ما زرع ، ولا ينمو زرع إلا من بذر الإيمان ، وقلما ينفع إيمان مع خبث القلب وسوء أخلاقه كما لا ينمو بذر في أرض سبخة ، فينبغي أن يقاس رجاء العبد المغفرة برجاء صاحب الزرع ، فكل من طلب أرضا طيبة وألقى فيها بذرا جيدا غير عفن ولا مسوس ثم أمده بما يحتاج إليه وهو سوق الماء إليه في أوقاته ، ثم نقى الشوك عن الأرض والحشيش وكل ما يمنع نبات البذر أو يفسده ، ثم جلس منتظرا من فضل الله - تعالى - دفع الصواعق والآفات المفسدة إلى أن يتم الزرع ويبلغ غايته ، سمي انتظاره رجاء ، وإن بث البذر في أرض صلبة سبخة مرتفعة لا ينصب إليها الماء ولم يشتغل بتعهد البذر أصلا ثم انتظر الحصاد منه ، سمي انتظاره حمقا وغرورا ، لا رجاء ، وإن بث البذر في أرض طيبة لكن لا ماء لها وأخذ ينتظر مياه الأمطار حيث لا تغلب الأمطار ولا تمتنع أيضا ، سمي انتظاره تمنيا لا رجاء .

                                                                  فإذن اسم الرجاء إنما يصدق على انتظار محبوب تمهدت جميع أسبابه الداخلة تحت اختيار العبد ولم يبق إلا ما ليس يدخل تحت اختياره ، وهو فضل الله - تعالى - بصرف القواطع والمفسدات . فالعبد إذا بث بذر الإيمان وسقاه بماء الطاعات وطهر القلب عن شوك الأخلاق الرديئة وانتظر من فضل الله - تعالى - تثبيته على ذلك إلى الموت ، وحسن الخاتمة المفضية إلى المغفرة ، كان انتظاره رجاء حقيقيا محمودا في نفسه باعثا له على المواظبة والقيام بمقتضى أسباب الإيمان في إتمام [ ص: 290 ] أسباب المغفرة إلى الموت ، وإن قطع عن بذر الإيمان تعهده بماء الطاعات ، أو ترك القلب مشحونا برذائل الأخلاق وانهمك في طلب لذات الدنيا ثم انتظر المغفرة فانتظاره حمق وغرور ، قال - صلى الله عليه وسلم - : " الأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله " وقال - تعالى - : ( فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا ) [ مريم : 59 ] وقال - تعالى - : ( فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا ) [ الأعراف : 169 ] وذم الله - تعالى - صاحب البستان إذ دخل جنته وقال : ( ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا ) [ الكهف : 35 و 36 ] فإذن العبد المجتهد في الطاعات المجتنب للمعاصي حقيق بأن ينتظر من فضل الله تمام النعمة ، وما تمام النعمة إلا بدخول الجنة ، وأما العاصي فإذا تاب وتدارك جميع ما فرط منه من تقصير فحقيق بأن يرجو قبول التوبة ، وإنما الرجاء بعد تأكد الأسباب ، ولذلك قال - تعالى - : ( إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله ) [ البقرة : 218 ] معناه : أولئك يستحقون أن يرجوا رحمة الله ، وقال - تعالى - : ( إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور ) [ فاطر : 29 ] فأما من ينهمك فيما يكرهه الله - تعالى - ولا يذم نفسه عليه ولا يعزم على التوبة والرجوع فرجاؤه المغفرة حمق كرجاء من بث البذر في أرض سبخة وعزم على أن لا يتعهده بسقي ولا تنقية ، قال " يحيى بن معاذ " : "من أعظم الاغترار عندي التمادي في الذنوب على رجاء العفو من غير ندامة ، وتوقع القرب من الله - تعالى - بغير طاعة ، وانتظار زرع الجنة ببذر النار ، وطلب دار المطيعين بالمعاصي ، وانتظار الجزاء بغير عمل والتمني على الله عز وجل مع الإفراط " .


                                                                  ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس

                                                                  فإذن حال الرجاء يورث طول المجاهدة بالأعمال والمواظبة على الطاعات كيفما تقلبت الأحوال .

                                                                  ومن آثاره التلذذ بدوام الإقبال على الله - تعالى - والتنعم بمنجاته والتلطف في التملق له ، فإن هذه الأحوال لا بد وأن تظهر على كل من يرجو ملكا من الملوك أو شخصا من الأشخاص ، فكيف لا يظهر ذلك في حق الله - تعالى - فإن كان لا يظهر فليستدل به على الحرمان عن مقام الرجاء والنزول في حضيض الغرور والتمني .

                                                                  التالي السابق


                                                                  الخدمات العلمية