الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( أما بعد ) : أتى به اقتداء به - عليه الصلاة والسلام - ، وبأصحابه ; فإنهم كانوا يأتون به في خطبهم للانتقال من أسلوب إلى آخر ، ويسمى فصل الخطاب قيل : أول من قال به داود - عليه الصلاة والسلام - ، وأما لتفصيل المجمل ، وهو كلمة شرط محذوف فعله ، وجوبا ، ( وبعد ) من الظروف الزمانية متعلق بالشرط المحذوف ، وهو مبني على الضم ، لقطعه عن الإضافة ، والمضاف إليه منوي . والتقدير : مهما يذكر شيء من الأشياء بعدما ذكر من البسملة ، والحمدلة ، والصلاة ، والثناء ( فإن التمسك بهديه ) أي : التشبث ، والتعلق طريقه - عليه الصلاة والسلام - ( لا يستتب ) : بتشديد الموحدة ، أي : لا يستقيم ، ولا يستمر ، أو لا يتهيأ ، ولا يتأتى . ( إلا بالاقتفاء ) أي : بالاتباع التام ( لما صدر ) أي : ظهر ( من مشكاته ) أي : صدره ، أو قلبه ، أو فمه ، والأول أظهر ; فإن المشكاة لغة : هي الكوة في الجدار الغير النافذ يوضع فيها المصباح ، استعيرت لصدره - عليه الصلاة والسلام - ; لأنه كالكوة ذو جهتين فمن جهة يقتبس النور من القلب المستنير ، ومن أخرى يفيض ذلك النور المقتبس على الخلق ، وشبهت اللطيفة القدسية التي هي القلب بالمصباح المضيء ، ثم الكل مأخوذ من قوله تعالى : ( الله نور السماوات والأرض مثل نوره ) قيل : نور محمد - صلى الله عليه وسلم - كمشكاة فيها مصباح ، هذا [ ص: 11 ] ويحتمل أن يرجع الضمير في ( هديه ) إلى الله تعالى ، والمراد بهديه توحيده ، ويؤيده عطف قوله الآتي : ( والاعتصام بحبل الله ) عليه ، غايته أنه ، وضع الظاهر موضع الضمير دفعا للتوهم ، وتبعا للوارد في قوله تعالى : ( واعتصموا بحبل الله ) وعكس في الأول ; لظهوره ، ودلالة المقام عليه ، فلو بين الضمير بالتصريح لكان أولى سيما مع وجود الفصل بفصل الخطاب ، والله أعلم بالصواب ( والاعتصام ) بالنصب ، ويجوز رفعه أي : التمسك ( بحبل الله ) : وهو القرآن : لما ورد : ( القرآن حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض ) شبه به ؛ لأنه يتوسل به إلى المقصود ، ويحصل به الصعود إلى مراتب السعود ، وفيه إشارة إلى أنه قابل للتعلي ، والتدلي ، لذا ورد في الحديث " القرآن حجة لك ، أو عليك " ، فهو كالنيل ماء للمحبوبين ، ودماء للمحجوبين ، قال تعالى : ( يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا ) ، ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ) ( لا يتم ) أي : لا يكمل الاعتصام بالكتاب ( إلا ببيان كشفه ) أي : من السنة النبوية ، والإضافة بيانية ، قال تعالى : ( لتبين للناس ما نزل إليهم ) ولا خفاء في الإجمالات القرآنية ، والتبيينات الحديثية ، فإن الصلاة مجملة لم يبين أوقاتها ، وأعدادها ، وأركانها ، وشرائطها ، وواجباتها ، وسننها ، ومكروهاتها ، ومفسداتها إلا السنة ، وكذا الزكاة لم يعلم مقدارها ، وتفاصيل نصابها ، ومصارفها إلا بالحديث ، وكذا الصوم ، والحج ، وسائر الأمور الشرعية ، والقضايا ، والأحكام الدينية ، وتمييز الحلال ، والحرام ، وتفاصيل الأحوال الأخروية ، فعليك بالكتاب ، والسنة ، وإجماع الأمة ، وبالاجتناب عن طريق أرباب الهوى ، وأصحاب البدعة ; لتكون من الفرقة الناجية السالكة طريق المتابعة على وجه الاستقامة . ولله در القائل :


كل العلوم سوى القرآن مشغلة إلا الحديث ، وإلا الفقه في الدين

    العلم متبع ما فيه حدثنا
وما سوى ذاك وسواس الشياطين



وما قاله بعض الصوفية من أن ( حدثنا ) باب من أبواب الدنيا مراده أنه إذا لم يرد به مرضاة المولى ، ولذا قال بعض العلماء المحدثين : طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله . وقيل لأحمد بن حنبل : إلى متى العلم فأين العمل ؟ ! قال : علمنا هذا هو العمل . وقد روى ابن عباس عن علي - كرم الله وجهه - أنه - عليه الصلاة والسلام - خرج يوما من الحجرة الشريفة ، وقال : " اللهم ارحم خلفائي " . قلنا : من خلفاؤك يا رسول الله ؟ قال : خلفائي الذين يروون أحاديثي ، وسنني ، ويعلمونها للناس " . وفى صحيح البخاري : أن جابر بن عبد الله الأنصاري ارتحل من المدينة مسافة شهر لتحصيل حديث واحد . ( وكان كتاب المصابيح ) : قيل : أحاديثه أربعة آلاف وأربعمائة وأربعة وثلاثون حديثا ، وزاد صاحب المشكاة ألفا وخمسمائة وأحد عشر حديثا فالمجموع خمسة آلاف وتسعمائة وخمسة [ ص: 12 ] وأربعون ، وينضبط بستة آلاف إلا كسر خمس وخمسين ( الذي صنفه ) أي : ألفه ، وجمعه ( الإمام ) أي : المقتدى به في جميع الأحكام فإنه كان مفسرا محدثا فقيها من أصحاب الوجوه . قال بعض مشايخنا : ليس له قول ساقط ، وكان ماهرا في علم القراءة عابدا زاهدا جامعا بين العلم والعمل على طريقة السلف الصالحين ، كان يأكل الخبز وحده بلا إدام فعل عن ذلك لكبره ، وعجزه فصار يأكله بالزيت . وقيل بالزبيب . وقد روى عنه الحديث جماعة من الأكابر كالحافظ أبي موسى المديني ، والشيخ أبي النجيب السهروردي عم صاحب العوارف ، وله غير المصابيح تصانيف مشهورة كشرح السنة في الحديث ، وكتاب التهذيب في الفقه ، ومعالم التنزيل في التفسير .

( محيي السنة ) أي : الأدلة الحديثية من أقواله ، وأفعاله ، وتقريره ، وأحواله - صلى الله عليه وسلم - . روي أنه لما جمع كتابه المسمى بشرح السنة رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام ، فقال له ( أحياك الله كما أحييت سنتي ) فصار هذا اللقب علما له بطريق الغلبة ، توفي سنة ست عشرة وخمسمائة بمرو ، ودفن عند شيخه ، وأستاذه القاضي حسين المروزي فقيه خراسان ( قامع البدعة ) أي : قاطعها ، ودافع أهلها ، أو مبطلها ، ومميتها . ( أبو محمد ) كنيته ، ( الحسين ) اسمه ، وهو مرفوع على أنه بدل ، أو عطف بيان ( ابن مسعود ) : نعته ( الفراء ) : بالجر نعت لأبيه ، وهو الذي يشتغل الفرو ، أو يبيعه ، وهو غير الفراء النحوي المشهور على ما توهم بعضهم ; فإنه ينقل عنه في تفسيره ( البغوي ) : بالرفع ، ويجوز جره منسوب إلى بغ ، وقيل : إلى بغشور : قرية بين مرو وهراة في حدود خراسان ، والاسم المركب تركيبا مزجيا ينسب إلى جزئه الأول كمعدي في معدي كرب ، وبعلي في بعلبك ، وإنما جاءت الواو في النسبة إجراء للفظة بغ مجرى محذوف العجز كالدموي ، ولئلا يلتبس بالبغي بمعنى الزاني ، وقيل : إنه منسوب على خلاف القياس ( رفع الله درجته ) : وأسبغ عليه رحمته ، والجملة دعائية إيماء إلى قوله تعالى : ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) - ( أجمع كتاب ) خبر كان ( صنف ) أي : ذلك الكتاب ( في بابه ) أي : في باب الحديث ; فإنه جمع الأحاديث المهمة التي لا يستغني عنها سالك طريق الآخرة ، ولو كان من الأئمة على ترتيب أبواب الكتب الفقهية ; ليسهل الكشف ، ويفسر بعض الأحاديث بعضها الإجمالية ، وتتبين المسائل الخلافية بمقتضى الدلالات الحديثية . ( وأضبط ) : عطف على أجمع ؛ لأنه لما جرد عن الأسانيد ، وعن اختلاف الألفاظ ، وتكرارها في المسانيد صار أقرب إلى الحفظ ، والضبط ، وأبعد من الغلط ، والخبط ( لشوارد الأحاديث ) : جمع شاردة ، وهي النافرة ، والذاهبة عن الدرك من باب إضافة الصفة إلى الموصوف ( وأوابدها ) : عطف تفسير أي : وحشياتها ; شبهت الأحاديث بالوحوش لسرعة تنفرها ، وتبعدها عن الضبط ، والحفظ ; ولذا قيل : العلم صيد ، والكتابة قيد ( ولما سلك ) أي : البغوي ( رضي الله عنه ) : جملة معترضة دعائية أي : ذهب في مسلك تصنيفه هذا ( طريق الاختصار ) أي : بالاكتفاء على متون الأحاديث على وجه الاقتصار ( وحذف الأسانيد ) : عطف على سلك ، وقيل : مصدر مضاف عطف على طريق ، وهو على الوجهين عطف تفسير ، والمراد بالإسناد : إما حذف الصحابي ، وترك المخرج في كل حديث ، وهو مجاز من باب إطلاق الكل على البعض ، أي : طرفي الإسناد ، وهو مراد المصنف ظاهرا من قوله : ( لكن ليس ما فيه أعلام كالأغفال ) ، وأما معناه الحقيقي عند مصطلح أهل الحديث : وهو حكاية طريق متن الحديث بحيث يعلم رواته ، ثم إنه إنما حذفها لعدم الفائدة في ذكرها ; لأن المقصود منها أن يعلم عند التعارض راجح الحديث من مرجوحه ، وناسخه من منسوخه ، بسبب زيادة عدالة الرواة ، وتقدم بعضهم على بعض ، ونحو ذلك من الأمور التي لا بد للمجتهد منها ، ولما عدم المجتهدون في هذه الأعصار ، وندر وجودهم في الأمصار ، ووضع هذا الكتاب للصلحاء [ ص: 13 ] الأبرار لم يكن في ذكرها نفع كثير ; فاقتصر على بيان الصحة ، والحسن إجمالا بقوله من الصحاح ، والحسان إكمالا ( تكلم فيه ) : جواب لما ، أي : طعن في بعض أحاديث كتابه ( بعض النقاد ) : بضم النون ، وتشديد القاف ، أي : العلماء الناقدين المميزين بين الصحيح ، والضعيف ، كذا ذكره بعض الشراح ، وهو غير صحيح ; لأن الطعن في رجال الحديث لا يكون إلا بإسناده ، وهو لا يختلف بذكره ، وعدم ذكره ، اللهم إلا أن يقال : هذا يتصور في بعض أفراد الحديث ، وهو أن يكون له إسنادان ، فلو ذكر له إسناده الثابت لما وجد الطاعن فيه مطعنا ، ويؤيده قوله : وإن كان نقله . . . ) إلخ ، وحينئذ يكون معنى الكلام : وإن كان اعتراض ذلك البعض مدفوعا عنه لكونه ثقة ، وإذا نسب الحديث إلى الأئمة المخرجين الموردين للحديث مع الإسناد بقوله : الصحاح : ما فيه حديث الشيخين ، أو أحدهما ، والحسن : ما فيه أحاديث سائر السنن ، فهو في حكم الإسناد . وقال السيد جمال الدين أي : تكلم في حقه ، واعترض عليه بعض المبصرين بأن صحة الحديث ، وسقمه متوقفة على معرفة الإسناد ، فإذا لم يذكر لم يعرف الصحيح من الضعيف ; فيكون نقصا ( وإن كان نقله ) أي : نقل البغوي بلا إسناد ، والواو وصلية ( وإنه من الثقات ) أي : المعتمدين في نقل الحديث ، وبيان صحته ، وحسنه ، وضعفه ( كالإسناد ) أي : كذكره ، روي بكسر الهمزة في ( إنه ) على أنه حال من المضاف إليه في نقله ، وروي : بفتحها للعطف على اسم كان يعني نقله بتأويل المصدر ، أي : وإن كان نقله وكونه من الثقات كالإسناد ; لأن هذا شأن من اشتهرت أمانته ، وعلمت عدالته ، وصيانته فيعول على نقله ، وإن تجرد عن إسناد الشيء لمحله ( لكن ليس ما فيه أعلام ) : أعلام الشيء بفتح الهمزة آثاره التي يستدل بها ( كالأغفال ) : بالفتح ، وهي الأراضي المجهولة ليس فيها أثر تعرف به ، وفي بعض النسخ : بكسر الهمزة فيهما فهما مصدران لفظا ، وضدان معنى ، وأراد بالأول كتابه المشكاة ، وبالثاني المصابيح ، وكان حقه أن يقول : لكن ليس ما فيه أغفال كالأعلام ، ولعله قلب الكلام تواضعا مع الإمام ، وهضما لنفسه عن بلوغ ذلك المرام ، والحاصل أنه ادعى أن في صنيعالبغوي قصورا في الجملة ، وهو عدم ذكر الصحابة أولا ، وعدم ذكر المخرج في كل حديث آخرا ، فإن ذكرهما مشتمل على فوائد : أما ذكر الصحابي ففائدته : أن الحديث قد يتعدد رواته ، وطرقه ، وبعضها صحيح ، وبعضها ضعيف ، فيذكر الصحابي ليعلم ضعيف المروي من صحيحه ، ومنها : رجحان الخبر بحال الراوي من زيادة فقهه ، وورعه ، ومعرفة ناسخه ، ومنسوخه بتقدم إسلام الراوي ، وتأخره ، وأما ذكر المخرج ففائدته : تعيين لفظ الحديث ، وتبيين رجال إسناده في الجملة ، ومعرفة كثرة المخرجين ، وقلتهم في ذلك الحديث ، لإفادة الترجيح ، وزيادة التصحيح ، ومنها : المراجعة إلى الأصول عند الاختلاف في الفصول ، وغيرها من المنافع عند أرباب الوصول . هذا ، وقال شيخنا العلامة ابن حجر المكي في شرحه للمشكاة عند قوله : ( تكلم فيه بعض النقاد ) أي : تكلم فيه باعتبار ذلك الحذف الذي استلزم عنده أن يعبر عنه بما اصطلح عليه من عند نفسه بعض النقاد كالنووي ، وابن الصلاح ، وغيرهما ، فقالوا : ما جنح إليه في مصابيحه من تقسيم أحاديثه إلى صحاح ، وحسان مع صيرورته إلى أن الصحاح : ما رواه الشيخان في صحيحيهما ، أو أحدهما ، والحسان ما رواه أبو داود ، والترمذي ، وغيرهما من الأئمة كالنسائي ، والدارمي ، وابن ماجه ، اصطلاح لا يعرف ، بل هو خلاف الصواب ; إذ الحسن عند أهل الحديث ليس عبارة عن ذلك ; لأنه وقع في كتب السنن المشار إليها غير الحسن من الصحيح ، والضعيف ، لكن انتصر له المؤلف فقال : لا مشاحة في الاصطلاح بل تخطئة المرء في اصطلاحه بعيدة عن الصواب . والبغوي قد صرح في كتابه بقوله : أعني بالصحاح كذا ، وبالحسان كذا ، وما قال أراد المحدثون بهما كذا فلا يرد عليه لشيء مما ذكر خصوصا ، وقد قال : وما كان فيها من ضعيف ، أو غريب أشير إليه ، وأعرضت عما كان منكرا ، أو موضوعا اهـ .

ولا يخفى أن حمل التكمل على هذا المعنى لا يناسبه قوله : ( وإن كان نقله . . . ) إلخ ، ولا يلائمه قوله : ( لكن ليس ما فيه أعلام ) إذ لا يصلح الأول منهما جوابا ، ولا الثاني استدراكا صوابا ( فاستخرت الله تعالى ) أي : لقوله تعالى : ( وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة ) ولما ورد من حديث أنس رواه الطبراني مرفوعا :

[ ص: 14 ] " ما خاب من استخار ، ولا ندم من استشار ، ولا عال من اقتصد " ، ولأن العبد لا يعلم خيره من شره " قال تعالى : ( وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) والخير أجمع فيما اختار خالقنا . ( واستوفقت منه ) : بتقديم الفاء على القاف في أكثر النسخ المصححة ، أي : طلبت من الله التوفيق ، وعلى الاستقامة طريق التوثيق ، وفي نسخة بالعكس ، والمعنى : طلبت الوقوف على إنكار المنكر ، ومعرفة المعروف ، وفي نسخة بالمثلثة ، والقاف أي : طلبت الوثوق ، والثبوت على التمييز بين المردود ، والمثبوت . وقال ابن حجر أي : أخذت من المصابيح ما هو الوثيقة المقصودة بالذات ، وهو الأحاديث عرية عن وسمها بصحاح ، وحسان ، ( فأودعت كل حديث منه ) أي : من المصباح ( في مقره ) : كذا في بعض النسخ هذه الفقرة موجودة ، والمعنى : وضعت كل حديث من الكتاب في محله الموضوع في أصله من كل كتاب ، وباب من غير تقديم ، وتأخير ، وزيادة ، ونقصان ، وتغيير ( فأعلمت ) أي : فبينت ما ( أغفله ) أي : تركه بلا إسناد عمدا من ذكر الصحابي أولا ، وبيان المخرج آخرا بخصوص كل حديث التزاما . ( كما رواه الأئمة ) : جمع إمام ، وأصله أئمة على وزن أفعلة فأعل بالنقل ، والإدغام ، ويجوز تحقيق الهمزة الثانية ، وتسهيلها ، وإبدالها ، والمراد منهم هاهنا أئمة الحديث الذين يقتدى بهم في كل زمان من القديم ، والحديث ( المتقنون ) أي : الضابطون الحافظون الحاذقون لمروياتهم من : أتقن الأمر إذا أحكمه ، ومنه قوله تعالى : ( صنع الله الذي أتقن كل شيء ) ( والثقات ) : بكسر المثلثة جمع ثقة ، وهو العدول ، والثبات . ( الراسخون ) أي : الثابتون بمحافظة هذا العلم الشريف ، والقائمون بمراعاة طرق هذا الفن المنيف . ( مثل أبي عبد الله محمد بن إسماعيل ) قال ابن حجر : أبوه كان من العلماء العاملين ، روى عن حماد بن زيد ، ومالك ، وصحب ابن المبارك ، وروى عنه العراقيون . قال : لا أعلم في جميع مالي درهما من شبهة . ( البخاري ) : نسبة إلى بخارى : بلدة عظيمة من بلاد ما وراء النهر ; لتولده فيها ، وصار بمنزلة العلم له ، ولكتابه . قال السيد جمال الدين المحدث : يقال له : أمير المؤمنين في الحديث ، وناصر الأحاديث النبوية ، وناشر المواريث المحمدية ، قيل : لم ير في زمانه مثله من جهة حفظ الحديث ، وإتقانه ، وفهم معاني كتاب الله ، وسنة رسوله ، ومن حيثية حدة ذهنه ، ورقة نظره ، ووفور فقهه ، وكمال زهده ، وغاية ورعه ، وكثرة اطلاعه على طرق الحديث ، وعلله ، وقوة اجتهاده ، واستنباطه ، وكانت أمه مستجابة الدعوة توفي أبوه وهو صغير فنشأ في حجر والدته ، ثم عمي ، وقد عجز الأطباء عن معالجته فرأت إبراهيم الخليل على نبينا وعليه الصلاة والسلام قائلا لها : قد رد الله على ابنك بصره بكثرة دعائك له فأصبح وقد رد الله عليه بصره فنشأ متربيا في حجر العلم مرتضعا من ثدي الفضل ، ثم ألهم طلب الحديث ، وله عشر سنين بعد خروجه من المكتب ، ولما بلغ إحدى عشرة سنة رد على بعض مشايخه ببخارى غلطا وقع له في سند حتى أصلح كتابه من حفظ البخاري ، وبيانه : أن شيخا من مشايخه في مجلس من مجالس حديثه قال في إسناد حديث : حدثنا سفيان عن أبي الزهير ، عن إبراهيم ، فقال له البخاري : أبو الزهير ليس له رواية عن إبراهيم ، فهيب عليه الشيخ فقال له البخاري : ارجع إلى الأصل إن كان عندك ، فقام الشيخ من المجلس ، ودخل بيته ، وطالع في أصله ، وتأمل فيه حق تأمله ، ثم رجع إلى مجلسه فقال للبخاري : فكيف الرواية ؟ فقال : ليس أبو الزهير بالهاء ، إنما هو الزبير بالباء ، وهو الزبير بن عدي فقال : صدقت ، وأخذ القلم ، وأصلح كتابه . ولما بلغ ست عشرة سنة حفظ كتب ابن المبارك ، ووكيع ، وعرف كلام أصحاب أبي حنيفة ، ثم خرج مع أمه ، وأخيه أحمد بن إسماعيل إلى مكة فرجع أخوه ، وأقام هو لطلب الحديث ، فلما طعن في ثماني عشرة سنة صنف قضايا الصحابة ، والتابعين ، وأقاويلهم ، وصنف في المدينة المنورة عند التربة المطهرة [ ص: 15 ] تاريخه الكبير في الليالي المقمرة ، وكتبوا عنه ، وسنه ثماني عشرة سنة ، وروي عنه أنه قال : قل اسم من أسماء رجال التاريخ الكبير أن لا يكون عندي منه حكاية ، وقصة إلا أني تركتها خوفا من الإطناب ، ولما رجع من مكة ارتحل إلى سائر مشايخ الحديث في أكثر المدن ، والأقاليم ، وروي عنه أنه قال : ارتحلت في استفادة الحديث إلى مصر ، والشام مرتين ، وإلى البصرة أربع مرات ، ولا أحصي ما دخلت مع المحدثين في بغداد ، والكوفة ، وأقمت في الحجاز ست سنين طالبا لعلم الحديث . قال البخاري : والحامل لي على تأليفه أنني رأيتني واقفا بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وبيدي مروحة أذب عنه ، فعبر لي بأني أذب عنه الكذب ، وما وضعت فيه حديثا إلا بعد الغسل ، وصلاة ركعتين ، وأخرجته من زهاء ستمائة ألف حديث ، وصنفته في ست عشرة سنة ، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله ، وما أدخلت فيه إلا صحيحا ، وما تركت من الصحيح أكثر ; لئلا يطول . وصنفته بالمسجد الحرام ، وما أدخلت فيه حديثا حتى استخرت الله ، وصليت ركعتين ، وتيقنت صحته . اهـ .

وهذا باعتبار الابتداء ، وترتيب الأبواب ، ثم كان يخرج الأحاديث بعد في بلده ، وغيرها ، وهو محمل رواية أنه كان يصنفه في البلاد ; إذ مدة تصنيفه ست عشرة سنة ، وهو لم يجاور هذه المدة بمكة ، وقد روي عنه أنه صنف الصحيح في البصرة ، وروي أنه صنفه في بخارى . وروي عن الوراق البخاري أنه قال : قلت للبخاري : جميع الأحاديث التي أوردتها في مصنفاتك هل تحفظها ؟ فقال : لا يخفى علي شيء منها ; فإني قد صنفت كتبي ثلاث مرات ، وكأنه أراد بالتكرار التبييض ، والتنقيح ، ولعل كثرة نسخ البخاري من هذه الجهة ، ورواية أنه جعل تراجمه في الروضة الشريفة محمولة على نقلها من المسودة إلى المبيضة ، كذا قيل ، ويمكن حمله على حقيقته ، ونقل عن أبي جزرة عمن لقيه من العارفين أنه ما قرئ في شدة إلا وفرجت ، وما ركب به في مركب فغرق ، وأنه كان مجاب الدعوة ، ولقد دعا لقارئه . قال الحافظ ابن كثير : وكان يستسقي بقراءته الغيث ، قيل : ويسمى الترياق المجرب . ونقل السيد جمال الدين عن عمه السيد أصيل الدين أنه قال : قرأت البخاري مائة وعشرين مرة للوقائع ، والمهمات لي ، ولغيري ، فحصل المرادات ، وقضى الحاجات ، وهذا كله ببركة سيد السادات ، ومنبع السادات عليه أفضل الصلوات ، وأكمل التحيات . قيل : وكان ورده في رمضان ختمة في كل يوم ، وثلثها في سحر كل ليلة ، ولسعه زنبور وهو في الصلاة ستة عشر ، أو سبعة عشر موضعا فقيل له : لم لم تخرج من الصلاة أول ما لسعك ؟ ! قال : كنت في سورة فأحببت أن أتمها ، وكان يقول : أرجو الله أن لا يحاسبني أني ما اغتبت أحدا فقيل له : إن بعض الناس ينقم عليك التاريخ ; فإنه غيبة فقال : إنما روينا ذلك رواية ، ولم ننقله من عند أنفسنا ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : " بئس أخو العشيرة " قال : وأحفظ مائة ألف حديث صحيح ومائتي ألف غير صحيح ، أي : باعتبار كثرة طرقها مع عد المكرر ، والموقوف ، وآثار الصحابة ، والتابعين ، وغيرهم ، وفتاويهم مما كان السلف يطلقون على كله حديثا . وقيل : كان يحفظ وهو صبي سبعين ألف حديث سردا ، وينظر في الكتاب نظرة واحدة فيحفظ ما فيه ، وكان يقول : دخلت بلخ فسألني أهلها أن أملي عليهم من كل من كتبت عنه ، فأمليت ألف حديث عن ألف شيخ ، ولبلوغ نهايته في معرفة علل الحديث كان مسلم بن الحجاج يقول له : دعني أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين ، وسيد المحدثين ، ويا طبيب الحديث في علله .

وقال الترمذي : لم أر أحدا بالعراق ، ولا بخراسان في ذلك أعلم منه ، وكان بسمرقند أربعمائة محدث اجتمعوا تسعة أيام لمغالطته ، فخلطوا الأسانيد بعضها في بعض : إسناد الشاميين في العراقيين ، وإسناد العراقيين في الشاميين ، وإسناد أهل الحرم في اليمانيين ، وعكسه ، وعرضوها عليه ، فما استطاعوا مع ذلك أن يتغلبوا عليه سقطة لا في إسناد ، ولا في متن ، ولما قدم بغداد فعلوا معه نظير ذلك فعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها ، وأسانيدها ، ودفعوا لكل [ ص: 16 ] واحد عشرة ليلقيها عليه في مجلسه الغاص بالناس امتحانا ، فقام أحدهم ، وسأله عن حديث من تلك العشرة ، فقال : لا أعرفه ، ثم سأله عن الثاني فقال مثل ذلك ، وهكذا إلى العاشر ، ثم قام الثاني فكان كالأول ، ثم الثالث ، وهكذا إلى أن فرغوا ; فالعلماء الذين كانوا مطلعين على أصل القضية ، وحفظه قالوا : فهم الرجل ، والذين ما كان لهم وقوف على القضية توهموا عجزه ، وحملوا على قصور ضبطه ، وسوء حفظه ; فالتفت إلى الأول فقال : أما حديثك الأول بذلك الإسناد فخطأ ، وصوابه كذا ، وكذا ، ولا زال على ذلك إلى أن أكمل المائة فبهر الناس ، وأذعنوا له ، فإن عند الامتحان يكرم الرجل ، أو يهان ، وعند المبصرين هذا الفن ليس من العجيب رد خطئهم إلى الصواب ; لأنه كان حافظ الأحاديث مع الأسانيد ، بل كان الغريب عندهم حفظه أسانيدهم الباطلة بمجرد سماعه مرة ، وإعادتها مرتبة ، وهذا كاد أن يكون خرق العادة ، ومحض الكرامة ; فإنه لا يتصور بدون الإلهامات الإلهية ، والعنايات الرحمانية . ولما قدم البصرة نادى مناد يعلمهم بقدومه فأحدقوا به ، وسألوه أن يعقد لهم مجلس الإملاء ; فأجابهم فنادى المنادي يعلمهم أنه أجاب ; فلما كان من الغد اجتمع كذا ، وكذا ألفا من المحدثين ، والفقهاء فأول ما جلس قال : يا أهلالبصرة أنا شاب ، وقد سألتموني أن أحدثكم ، وسأحدثكم أحاديث عن أهل بلدكم تستفيدونها ، يعني ليست عندكم ، وأملى عليهم من أحاديث أهل بلدهم مما ليس عندهم حتى بهرهم ، ومن ثم كثر ثناء الأئمة عليه حتى صح عن أحمد بن حنبل أنه قال : ما أخرجت خراسان مثله . وقال غير واحد : هو فقيه هذه الأمة ، وقال إسحاق بن راهويه : يا معشر أصحاب الحديث ، انظروا إلى هذا الشاب ، واكتبوا عنه ; فإنه لو كان في زمن الحسن البصري لاحتاج إليه لمعرفته بالحديث ، وفقهه . وقد فضله بعضهم في الفقه والحديث على أحمد ، وإسحاق . وقال ابن خزيمة : ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث منه ، وورث من أبيه مالا كثيرا فكان يتصدق به ، وكان قليل الأكل جدا . قيل : كان يقنع كل يوم بلوزتين ، أو ثلاث لوزات . وقيل : لم يأكل الإدام أربعين سنة . قيل : كان يدخل عليه كل شهر من مستغلاته خمسمائة درهم فكان يصرفها في الفقراء ، وطلبة العلم ، وكان يرغبهم في تحصيل الحديث ، كثير الإحسان إلى الطلبة مفرطا في الكرم ، وأعطي خمسة آلاف درهم ربح بضاعة له فأخر فأعطاه آخرون عشرة آلاف فقال : إني نويت بيعها للأولين ، ولا أحب أن أغير نيتي ، وعثرت جاريته بمحبرة بين يديه ، فقال لها : كيف تمشين ؟ ! فقالت : إذا لم يكن طريق كيف أمشي ؟ ! فقال : اذهبي فأنت حرة لله فقيل له : يا أبا عبد الله ، أغضبتك فأعتقتها فقال : أرضيت نفسي بما فعلت . ولما بنى رباطا مما يلي بخارى اجتمع إليه خلق كثير يبنونه فكان ينقل معهم اللبن فيقال : قد كفيت فقال : هذا هو الذي ينفعني ، ولما رجع إلى بخارى نصبت له القباب على فرسخ منها ، واستقبله عامة أهلها ، ونثر عليه الدراهم ، والدنانير ، وبقي مدة يحدثهم ، وأرسل إليه أمير البلد خالد بن محمد الذهلي نائب الخلافة العباسية يتلطف معه ، ويسأله أن يأتيه بالصحيح ، ويحدثهم به في قصره ; فامتنع ، وقال لرسوله : قل له : إني لا أذل العلم ، ولا أحمله إلى أبواب السلاطين ، فمن احتاج إلى شيء منه فليحضر في مسجدي ، أو داري ، فإن لم يعجبك هذا فأنت سلطان فامنعني من المجلس ليكون لي عذر عند الله يوم القيامة ، فإني لا أكتم العلم . وروي أنه قال : العلم يؤتى ، ولا يأتي ، فراسله أن يعقد مجلسا لأولاده ، ولا يحضر غيرهم ; فامتنع عن ذلك أيضا ، وقال : لا يسعني أن أخص بالسماع قوما دون قوم ، وروي أنه قال : العلم لا يحل منعه ، فحصلت بينهما وحشة ; فاستعان الأمير بعلماء بخارى عليه حتى تكلموا في مذهبه فأمره بالخروج من البلد فدعا عليهم بقوله : اللهم أرهم ما قصدوني به في أنفسهم ، وأولادهم ، وأهاليهم . فكان مجاب الدعوة فلم يأت شهر حتى ورد أمر الخلافة بأن ينادى على الأمير فأركب حمارا فنودي عليه فيها ، وحبس إلى أن مات ، ولم يبق أحد ممن ساعده إلا وابتلي ببلية شديدة . ولما خرج من بخارى كتب إليه أهل سمرقند يخطبونه لبلدهم ; فسار إليهم فلما كان بخرتنك بمعجمة مفتوحة في الأشهر ، أو مكسورة فراء ساكنة ففوقية مفتوحة فنون ساكنة فكاف ، موضع قريب بسمرقند على فرسخين [ ص: 17 ] وقيل : نحو ثلاثة أيام بلغه أنه وقع بينهم بسببه فتنة ، فقوم يريدون دخوله ، وآخرون يكرهونه . وكان له أقرباء بها فنزل بها حتى ينجلي الأمر فأقام أياما فمرض حتى وجه إليه رسول من أهل سمرقند يلتمسون خروجه إليهم ; فأجاب ، وتهيأ للركوب ، ولبس خفيه ، وتعمم ، فلما مشى قدر عشرين خطوة إلى الدابة ليركبها قال : أرسلوني فقد ضعفت فأرسلوه فدعا بدعوات ، ثم اضطجع فقضى فسال منه عرق كثير لا يوصف ، وما سكن العرق حتى أدرج في أكفانه . وقيل : ضجر ليلة فدعا بعد أن فرغ من صلاة الليل اللهم قد ضاقت علي الأرض بما رحبت فاقبضني إليك فمات عن غير ولد ذكر ليلة عيد الفطر سنة ست وخمسين ومائتين عن اثنتين وستين سنة ، وكانت ولادته يوم الجمعة بعد صلاة العصر في شهر شوال سنة أربع وتسعين ومائة ، ولما صلي عليه ، ووضع في حفرته فاح من تراب قبره رائحة طيبة كالمسك جعل الناس يختلفون إلى قبره مدة يأخذون من تراب قبره ، ويتعجبون من ذلك ، قال بعضهم : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومعه جماعة من أصحابه ، وهو واقف فسلمت عليه فرد علي السلام ، فقلت : ما وقوفك هنا يا رسول الله ؟ قال : أنتظر محمد بن إسماعيل . قال : فلما كان بعد أيام بلغني موته ، فنظرت فإذا هو قد مات في الساعة التي رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها ، وبعد نحو سنتين من موته استسقى أهل سمرقند مرارا فلم يسقوا فقال بعض الصالحين لقاضيها : أرى أن تخرج بالناس إلى قبر البخاري ، ونستسقي عنده فعسى الله أن يسقينا ففعل ، وبكى الناس عند القبر ، وتشفعوا بصاحبه فأرسل الله تعالى عليهم السماء بماء غزير أقام الناس من أجله نحو سبعة أيام لا يستطيع أحد الوصول إلى سمرقند من كثرة المطر .

ثم اعلم أن في زمن الصحابة ، وكبار التابعين لم تكن الأحاديث مدونة ; لنهيه - عليه الصلاة والسلام - أصحابه من كتابة الحديث مخافة خلطه بالكلام القديم ، وأيضا دائرة حفظهم كانت واسعة ببركة صحبته ، وقرب مدته ، وأيضا أكثرهم لم يكونوا عارفين بصنعة الكتابة ، فظهر في آخر عصر التابعين تدوين الأحاديث ، والأخبار ، وتصنيف السنن ، والآثار ، وتصدوا لهذا الأمر الشريف كالزهري ، وربيع بن صبيح ، وسعيد بن أبي عروبة ، وغيرهم ، وكان دأبهم تصنيف كل باب على حدة إلى عهد كبار أهل الطبقة الثالثة ، فألفوا الحديث على ترتيب أبواب الفقه ، فصنف الإمام مالك مقدم أهل المدينة موطأه ، وجمع فيه أحاديث أهل الحجاز مما ثبت وصح عنده ، وأدرج فيه أقوال الصحابة ، وفتاوى التابعين ، ومن بعدهم . وصنف من أهل مكة : أبو حامد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج . ومن أهل الشام : أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي . ومن أهل الكوفة سفيان الثوري . ومن البصريين أبو سلمة حماد بن سلمة ، وبعدهم كل واحد من أعيان العلماء المجتهدين ألف كتابا . وكتب أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، وعثمان بن أبي شيبة ، وغيرهم من كبراء المحدثين مسانيدهم ، وبعضهم على ترتيب أبواب الفقه ، لكن في الكتب المذكورة لم يميز الصحيح ، والضعيف ، ولما اطلع البخاري على تصانيفهم حصل له العزم بطريق الجزم لتحصيل الحزم على تأليف كتاب يكون جميع أحاديثه صحيحة ، وقد روي عنه أنه قال : كنت عند شيخي إسحاق بن راهويه يوما فقال : لو جمعتم كتابا مختصرا بصحيح سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - فوقع في قلبي تصنيف كتاب في هذا الباب ، وتقدم رؤياه أيضا ، فشرع فيه ، فلما كمله عرضه على مشايخه مثل إسحاق بن راهويه ، وعلي بن المديني ، وأحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين ، وغيرهم استحسنوه ، وشهدوا بصحة كتابه ، وأنه لا نظير له في بابه ، واستثنوا أربعة أحاديث [ ص: 18 ] وتوقفوا في صحتها . قال العقيلي : والحق مع البخاري فيها أيضا فإنها صحيحة . ثم اختلف علماء الحديث ، وشراح البخاري في عدد أحاديثه بالمكرر ، وإسقاط المكرر ، والذي حققه الحافظ ابن حجر في شرح البخاري في أن جملة أحاديثه مع التعاليق ، والمتابعات ، والشواهد ، ومع المكررات تسعة آلاف واثنان وثمانون حديثا ، وبإسقاط المكرر أحاديثه المرفوعة : ألفان وستمائة وثلاث وعشرون حديثا ، وأعلى أسانيد أحاديثه ، وأقربه إليه - عليه الصلاة والسلام - ما يكون الواسطة ثلاثة ، ووجد فيه من هذا القبيل في صحيحه مع المكرر اثنان وعشرون حديثا ، وبإسقاط المكرر ستة عشر حديثا ، وقد أفرده بعض العلماء ، ثم اتفقت العلماء على تلقي الصحيحين بالقبول ، وأنهما أصح الكتب المؤلفة ، ثم الجمهور على أن صحيح البخاري أرجحهما ، وأصحهما قيل : ولم يوجد عن أحد التصريح بنقيضه لأن قول أبي علي النيسابوري ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم ليس فيه تصريح بأصحيته على كتاب البخاري ; لأن نفي الأصحية لا ينفي المساواة . وتفضيل بعض المغاربة لصحيح مسلم محمول على ما يرجع لحسن السياق ، وجودة الوضع ، والترتيب ; إذ لم يفصح أحد منهم بأن ذلك راجع إلى الأصحية ، ولو صرحوا به لرد عليهم شاهد الوجود ؛ لأن ما يدور عليه الصحة من الصفات الموجودة في صحيح مسلم موجودة في صحيح البخاري على وجه أكمل ، وأسد ; فإن شرطه فيها أقوى ، وأشد ، وأما رجحانه من حيث الاتصال فلاشتراطه أن يكون الراوي قد ثبت له الاجتماع بمن يروي عنه ، ولو مرة ، واكتفى مسلم بمجرد المعاصرة نظرا لإمكان اللقي ، وأما رجحانه من حيث العدالة ، والضبط فلأن الرجال الذين تكلم فيهم من رجال مسلم أكثر عددا ممن تكلم فيهم من رجال البخاري ، مع أنه لم يكثر من إخراج حديثهم بل غالبهم من شيوخه الذين أخذ عنهم ، ومارس حديثهم ، وميز جيدها من غيره ، بخلاف مسلم فإن أكثر من تفرد بتخريج أحاديثه ممن تكلم فيه ، هو ممن تقدم عصره من التابعين ، وتابعيهم ، ولا شك أن المحدث أعرف بحديث شيوخه ممن تقدم عنهم . وأما رجحانه من حيث عدم الشذوذ ، والإعلال ; فلأن ما انتقد على البخاري من الأحاديث أقل عددا مما انتقد على مسلم ، ولا يقدح فيهما إخراجهما لمن طعن فيه ; لأن تخريج صاحب الصحيح لأي راو كان مقتض لعدالته عنده ، وصحة ضبطه ، وعدم غفلته إن خرج له في الأصول ، فإن خرج في المتابعات ، والشواهد ، والتعاليق كانت درجاته متقاربة في الضبط ، وغيره ، لكن مع حصول وصف الصدق له فالطعن فيمن خرج له أحدهما مقابل لتعديله ; فلا يقبل الجرح إلا مفسرا بما يقدح في عدالته ، أو في ضبطه مطلقا ، أو في ضبطه لخبر بعينه لتفاوت الأسباب الحاملة للأئمة على الجرح ، إذ منها ما لا يقدح ، ومنها ما يقدح ، وقد كان أبو الحسن المقدسي يقول فيمن خرج له أحدهما في الصحيح هذا جاز القنطرة يعني لا يلتفت لما قيل فيه ؛ لأنهما مقدمان على أئمة عصرهما ، ومن بعدهما في معرفة الصحيح ، والعلل ، فهو أصح الكتب بعد كتاب الله العزيز . ويؤيده ما نقل عن الحاكم أبي أحمد شيخ الحاكم أبي عبد الله النيسابوري أن البخاري إمام المحدثين ، وكل من أتى بعده ، وصنف كتابا في الحديث ، وأفرده ففي الحقيقة إنما أخذه عنه فالفضل للمتقدم حتى إن مسلما أتى بأحاديثه مفرقا في كتابه ، وتجلد غاية التجلد حيث لم يسندها إلى جنابه . وقال الدارقطني : لولا البخاري لما راح مسلم ، ولا جاء ، أخذ كتابه ، وزاد عليه أبوابه . وللبخاري مصنفات غير الصحيح : كالأدب المفرد ، ورفع اليدين في الصلاة ، والقراءة خلف الإمام ، وبر الوالدين ، والتاريخ الكبير ، والأوسط ، والصغير ، وخلق أفعال العباد ، وكتاب الضعفاء ، والجامع الكبير ، والمسند الكبير ، والتفسير الكبير ، وكتاب الأشربة ، وكتاب الهبة ، وأسامي الصحابة ، وكتاب الوجدان ، وكتاب العلل ، وكتاب الكنى ، وكتاب المبسوط ، وكتاب الفوائد . روي عنه أنه قال : رويت الحديث عن ألف وثمانمائة محدث . روى عنه خلق كثير كمسلم في غير صحيحه ، والترمذي ، وابن خزيمة ، وأبي زرعة ، وأبي حاتم ، وكذا النسائي في قول غيرهم . وبالجملة ، قيل : روى عنه مائة ألف محدث . روي عن يحيى بن جعفر بن أعين المروزي أنه قال : لو قدرت على أن أزيد من عمري في عمر البخاري لفعلت لأن موتي موت واحد من الناس ، وموت البخاري ذهاب العلم ، وموت العالم ، ونعم ما قيل :


إذا ما مات ذو علم ، وفتوى     فقد وقعت من الإسلام ثلمة

[ ص: 19 ] قال محمد بن أحمد المروزي : كنت نائما بين الركن والمقام فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام فقال لي : ( يا أبا زيد إلى متى تدرس كتاب الشافعي ، ولا تدرس كتابي ؟ ! ) فقلت : يا رسول الله ، وما كتابك ؟ ! قال : ( جامع محمد بن إسماعيل البخاري ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية