الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ثم يمضي في بيان حال القوم ، وما انتهوا إليه من فساد في الخلق والسلوك ، قبل أن يبين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف يتعامل معهم إذا جاءوا إليه متحاكمين :

                                                                                                                                                                                                                                      سماعون للكذب، أكالون للسحت. فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم. وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا. وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط، إن الله يحب المقسطين . .

                                                                                                                                                                                                                                      كرر أنهم سماعون للكذب . مما يشي بأن هذه أصبحت خصلة لهم . . تهش نفوسهم لسماع الكذب والباطل ، وتنقبض لسماع الحق والصدق . . وهذه طبيعة القلوب حين تفسد ، وعادة الأرواح حين تنطمس . . ما أحب كلمة الباطل والزور في المجتمعات المنحرفة ، وما أثقل كلمة الحق والصدق في هذه المجتمعات . . وما أروج الباطل في هذه الآونة وما أشد بوار الحق في هذه الفترات الملعونة !

                                                                                                                                                                                                                                      وهؤلاء : سماعون للكذب . أكالون للسحت . . والسحت كل مال حرام . . والربا والرشوة وثمن الكلمة والفتوى ! في مقدمة ما كانوا يأكلون ، وفي مقدمة ما تأكله المجتمعات التي تنحرف عن منهج الله في كل زمان ! وسمي الحرام سحتا لأنه يقطع البركة ويمحقها . وما أشد انقطاع البركة وزوالها من المجتمعات المنحرفة . كما نرى ذلك بأعيننا في كل مجتمع شارد عن منهج الله وشريعة الله .

                                                                                                                                                                                                                                      ويجعل الله الأمر للرسول بالخيار في أمرهم إذا جاءوه يطلبون حكمه فإن شاء أعرض عنهم - ولن يضروه شيئا - وإن شاء حكم بينهم . فإذا اختار أن يحكم حكم بينهم بالقسط ، غير متأثر بأهوائهم ، وغير متأثر كذلك بمسارعتهم في الكفر ومؤامراتهم ومناوراتهم . .

                                                                                                                                                                                                                                      إن الله يحب المقسطين . .

                                                                                                                                                                                                                                      والرسول - صلى الله عليه وسلم - والحاكم المسلم ، والقاضي المسلم ، إنما يتعامل مع الله في هذا الشأن ; وإنما يقوم بالقسط لله . لأن الله يحب المقسطين . فإذا ظلم الناس وإذا خانوا ، وإذا انحرفوا ، فالعدل فوق التأثر بكل ما يصدر منهم . لأنه ليس عدلا لهم ; وإنما هو لله . . وهذا هو الضمان الأكيد في شرع الإسلام وقضاء الإسلام ، في كل مكان وفي كل زمان .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا التخيير في أمر هؤلاء اليهود يدل على نزول هذا الحكم في وقت مبكر . إذ أنه بعد ذلك أصبح الحكم والتقاضي لشريعة الإسلام حتميا . فدار الإسلام لا تطبق فيها إلا شريعة الله . وأهلها جميعا ملزمون بالتحاكم إلى هذه الشريعة . مع اعتبار المبدأ الإسلامي الخاص بأهل الكتاب في المجتمع المسلم في دار الإسلام ; وهو [ ص: 894 ] ألا يجبروا إلا على ما هو وارد في شريعتهم من الأحكام ; وعلى ما يختص بالنظام العام . فيباح لهم ما هو مباح في شرائعهم ، كامتلاك الخنزير وأكله ، وتملك الخمر وشربه دون بيعه للمسلم . ويحرم عليهم التعامل الربوي لأنه محرم عندهم . وتوقع عليهم حدود الزنا والسرقة لأنها واردة في كتابهم وهكذا . كما توقع عليهم عقوبات الخروج على النظام العام والإفساد في الأرض كالمسلمين سواء ، لأن هذا ضروري لأمن دار الإسلام وأهلها جميعا : مسلمين وغير مسلمين . فلا يتسامح فيها مع أحد من أهل دار الإسلام . .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي تلك الفترة التي كان الحكم فيها على التخيير ، كانوا يأتون ببعض قضاياهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; مثال ذلك ما رواه مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - : إن اليهود جاءوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا . فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ؟ فقالوا : نفضحهم ويجلدون . قال عبد الله بن سلام : كذبتم . إن فيها الرجم . فأتوا بالتوراة فنشروها . فوضع أحدهم يده على آية الرجم ، فقرأ ما قبلها وما بعدها . فقال عبد الله بن سلام : ارفع يدك . فرفع يده فإذا آية الرجم . فقالوا : صدق يا محمد فيها آية الرجم ! فأمر بهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجما . فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة .. (أخرجه الشيخان واللفظ للبخاري )

                                                                                                                                                                                                                                      ومثال ذلك ما رواه الإمام أحمد - بإسناده - عن ابن عباس قال :

                                                                                                                                                                                                                                      "أنزلها الله في الطائفتين من اليهود ، وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية ، حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا ، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق . فكانوا على ذلك حتى قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا ، فأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا لنا بمائة وسق فقالت الذليلة : وهل كان في حيين دينهما واحد ، ونسبهما واحد ، وبلدهما واحد ، دية بعضهم نصف دية بعض ؟ إنما أعطيناكم هذا ضيما منكم لنا ، وفرقا منكم . فأما إذ قدم محمد فلا نعطيكم ! فكادت الحرب تهيج بينهما . ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكما بينهم . ثم ذكرت العزيزة ، فقالت : والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم ، ولقد صدقوا ، ما أعطونا هذا إلا ضيما منا وقهرا لهم ! فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه . . إن أعطاكم ما تريدون حكمتموه ، وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه ! فدسوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناسا من المنافقين ليخبروا لهم رأي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما جاءوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأمرهم كله وما أرادوا . فأنزل الله تعالى : يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ، إلى قوله: الفاسقون . . ففيهم والله أنزل ، وإياهم عنى الله عز وجل
                                                                                                                                                                                                                                      . . (أخرجه أبو داود من حديث أبي الزناد عن أبيه ) . . وفي رواية لابن جرير عين فيها "العزيزة " وهي بنو النضير "والذليلة " وهي بنو قريظة . . مما يدل - كما قلنا - على أن هذه الآيات نزلت مبكرة قبل إجلائهم والتنكيل بهم . .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية