الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                              قوله تعالى: إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا

                                                                                                                                                                                              قال الله تعالى: إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا

                                                                                                                                                                                              وقال الله تعالى: وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا وقال الله تعالى: إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون وقال: خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه وقال تعالى: إن لدينا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصة وعذابا أليما

                                                                                                                                                                                              وقرأ ابن عباس : "والسلاسل يسحبون " بنصب السلاسل وفتح ياء يسحبون، قال: هو أشد عليهم هم يسحبون السلاسل . خرجه ابن أبي حاتم . [ ص: 525 ] فهذه ثلاثة أنواع:

                                                                                                                                                                                              أحدها: الأغلال: وهي في الأعناق، كما ذكر سبحانه . قال الحسن بن صالح : الغل تغل اليد الواحدة إلى العنق، والصفد: اليدان جميعا إلى العنق . خرجه ابن أبي الدنيا .

                                                                                                                                                                                              وقال أسباط عن السدي : الأصفاد تجمع اليدين إلى العنق . وقال معمر عن قتادة في قوله: مقرنين في الأصفاد قال: مقرنين في القيود والأغلال .

                                                                                                                                                                                              قال عيينة بن الغصن عن الحسن: إن الأغلال لم تجعل في أعناق أهل النار لأنهم أعجزوا الرب عز وجل، ولكنها إذا طفئ بهم اللهب أرستهم . قال: ثم خر الحسن مغشيا عليه .

                                                                                                                                                                                              وقال سيار بن حاتم: حدثنا مسكين عن حوشب عن الحسن أنه ذكر النار فقال: لو أن غلا منها وضع على الجبال لقصمها إلى الماء الأسود ، ولو أن ذراعا من السلسلة وضع على جبل لرضه .

                                                                                                                                                                                              وروى ابن أبي حاتم بإسناد عن موسى بن أبي عائشة أنه قرأ قوله تعالى: أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة قال: تشد أيديهم بالأغلال في النار، فيستقبلون العذاب بوجوههم قد شدت أيديهم، فلا يقدرون على أن يتقوا بها، كلما جاء نوع من العذاب يستقبلون بوجوههم . وبإسناده عن فيض بن إسحاق عن فضيل بن عياض : إذا قال الرب تبارك وتعالى: خذوه فغلوه تبدره سبعون ألف ملك كلهم يتبدر أيهم يجعل الغل في عنقه . [ ص: 526 ] النوع الثاني: الأنكال: وهي القيود، قال مجاهد والحسن وعكرمة وغيرهم . قال: الحسن: قيود من نار، قال أبو عمران الجوني : قيود لا تحل والله أبدا، وواحد الأنكال: نكل، وسميت القيود أنكالا لأنه ينكل بها، أي يمنع . وروى أبو سنان عن الحسن: أما وعزته ما قيدهم مخافة أن يعجزوه . ولكن قيدهم لترسى في النار . وقال الأعمش : الصفد: القيود، وقوله تعالى: مقرنين في الأصفاد القيود، وقد سبق عن أبي صالح قوله: في عمد ممددة قال: القيود الطوال .

                                                                                                                                                                                              النوع الثالث: السلاسل: خرج الإمام أحمد وغيره من طريق أبي السمح عن عيسى بن هلال الصدفي عن عبد الله بن عمرو ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو أن رصاصة مثل هذه - وأشار إلى مثل الجمجمة - أرسلت من السماء إلى الأرض وهي مسيرة خمسمائة عام لبلغت الأرض قبل الليل، ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفا الليل والنهار قبل أن تبلغ أصولها" غريب، وفي رفعه نظر، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                              وفي حديث عدي الكندي عن عمر أن جبريل قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو أن حلقة من سلسلة أهل النار التي نعت الله في كتابه وضعت على جبال الدنيا لانقضت ولم يردها شيء حتى تنتهي إلى الأرض السابعة السفلى" خرجه الطبراني ، وسبق الكلام على إسناده . وروى سفيان عن بشير عن نوف الشامي في قوله تعالى: ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه قال: إن الذراع سبعون باعا، والباع [ ص: 527 ] من هاهنا إلى مكة! - وهو يومئذ بالكوفة .

                                                                                                                                                                                              وقال ابن المبارك : أنبأنا بكار عن عبد الله سمع ابن أبي مليكة يحدث أن كعبا قال: إن حلقة من السلسلة التي قال الله: ذرعها سبعون ذراعا إن حلقة منها أكثر من حديد الدنيا . وقال ابن جريج في قوله: ذرعها سبعون ذراعا قال: بذراع الملك .

                                                                                                                                                                                              وقال ابن المنكدر : لو جمع حديد الدنيا كله ما خلا منها وما بقي ما عدل حلقة من الحلق التي ذكر الله في كتابه تعالى فقال: في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا خرجه أبو نعيم .

                                                                                                                                                                                              قال ابن المبارك عن سفيان في قوله: فاسلكوه قال: بلغنا أنها تدخل في دبره حتى تخرج منه .

                                                                                                                                                                                              وقال ابن جريج : قال ابن عباس : السلسلة تدخل في استه ثم تخرج من فيه، ثم ينظمون فيها كما ينظم الجراد في العود حتى يشوى . خرجه ابن أبي حاتم . وخرجه أيضا من رواية العوفي عن ابن عباس . قال: تسلك في دبره حتى تخرج من منخريه حتى لا يقوم على رجليه .

                                                                                                                                                                                              وخرج ابن أبي الدنيا من طريق خلف بن خليفة عن أبي هاشم قال: يجعل لهم أوتاد في جهنم فيها سلاسل فتلقى في أعناقهم، فتزفر جهنم زفرة فتذهب بهم مسيرة خمسمائة سنة، ثم تجيء بهم في يوم، فذلك قوله: وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون

                                                                                                                                                                                              ومن طريق أشعث عن جعفر عن سعيد بن جبير ، قال: لو انفلت رجل من أهل النار بسلسلة لزالت الجبال . [ ص: 528 ] وقال جويبر عن الضحاك في قوله: فيؤخذ بالنواصي والأقدام قال: يجمع بين ناصيته وقدميه في سلسلة من وراء ظهره .

                                                                                                                                                                                              وقال السدي في هذه الآية: يجمع بين ناصية الكافر وقدميه، فتربط ناصيته بقدمه وظهره ويفتل .

                                                                                                                                                                                              وذكر الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس ، قال: يؤخذ بناصيته وقدميه ويكسر ظهره، كما يكسر الحطب في التنور .

                                                                                                                                                                                              وقال سيار بن حاتم: حدثنا مسكين عن حوشب عن الحسن، قال: إن جهنم ليغلي عليها من الدهر إلى يوم القيامة يحمى طعامها وشرابها وأغلالها، ولو أن غلا منها وضع على الجبال لقصمها إلى الماء الأسود ، ولو أن ذراعا من السلسلة وضع على جبل لرضه، ولو أن جبلا كان بينه وبين عذاب الله عز وجل مسيرة خمسمائة عام لذاب ذلك الجبل، وإنهم ليجمعون في السلسلة من آخرهم فتأكلهم النار وتبقى الأرواح .

                                                                                                                                                                                              ورواه ابن أبي الدنيا عن عبد الله بن عمر الجشمي، عن المنهال بن عيسى العبدي، عن حوشب، عن الحسن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكره بمعناه، وزاد في آخره: "تبقى الأرواح في الحناجر تصرخ " والموقوف أشبه .

                                                                                                                                                                                              وقال عبد الله بن الإمام أحمد : أخبرت عن سيار عن ابن المعزي - وكان من خيار الناس . قال: بلغني أن الأبدان تذهب وتبقى الأرواح في السلاسل .

                                                                                                                                                                                              وخرج الطبراني وابن أبي حاتم من طريق منصور بن عمار ، حدثنا بشير ابن طلحة ، عن خالد بن الدريك، عن يعلى بن منية رفع الحديث إلى النبي [ ص: 529 ] - صلى الله عليه وسلم - قال: "ينشئ الله سبحانه لأهل النار سحابة سوداء مظلمة، فيقال: يا أهل النار، أي شيء تطلبون؟ فيذكرون بها سحابة الدنيا، فيقولون: يا ربنا الشراب، فتمطرهم أغلالا تزيد في أغلالهم، وسلاسل تزيد في سلاسلهم، وجمرا يلتهب عليهم" . وخرجه ابن أبي الدنيا موقوفا لم يرفعه .

                                                                                                                                                                                              وروى أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية وغيره عن أبي هريرة ، فذكر قصة الإسراء بطولها وفيها قال: "ثم أتى على واد - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - فسمع صوتا منكرا ووجد ريحا منتنة، فقال: ما هذا يا جبريل؟ " فقال: هذا صوت جهنم تقول: رب آتني ما وعدتني، فقد كثرت سلاسلي وأغلالي وسعيري وحميمي وغساقي وعذابي، وقد برد قعري واشتد حري فآتني ما وعدتني، قال: لك كل مشرك ومشركة، وكافر وكافرة، وكل خبيث وخبيثة وكل جبار لا يؤمن بيوم الحساب " .

                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية