الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 314 ] وسئل رحمه الله ما تقول السادة الفقهاء وأئمة الدين - وفقهم الله تعالى لمرضاته - في القراءة للميت هل تصل إليه ؟ أم لا ؟ والأجرة على ذلك وطعام أهل الميت لمن هو مستحق وغير ذلك والقراءة على القبر والصدقة عن الميت أيهما المشروع الذي أمرنا به ؟ والمسجد الذي في وسط القبور والصلاة فيه وما يعلم هل بني قبل القبور ؟ أو القبور قبله ؟ وله ثلاث : رزق وأربعمائة اصددمون قديمة من زمان الروم ما هو له بل للمسجد وفيه الخطبة كل جمعة والصلاة أيضا في بعض الأوقات وله كل سنة موسم يأتي إليه رجال كثير ونساء ويأتون بالنذور معهم فهل يجوز للإمام أن يتناول من ذلك شيئا لمصالح المسجد الذي في البلد ؟ أفتونا يرحمكم الله مأجورين .

                التالي السابق


                فأجاب : الحمد لله رب العالمين . أما الصدقة عن الميت فإنه ينتفع بها باتفاق المسلمين وقد وردت بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث صحيحة . مثل قول سعد : { يا رسول الله إن أمي افتلتت نفسها وأراها لو تكلمت تصدقت فهل ينفعها أن أتصدق عنها ؟ [ ص: 315 ] فقال : نعم } وكذلك ينفعه الحج عنه والأضحية عنه والعتق عنه والدعاء والاستغفار له بلا نزاع بين الأئمة .

                وأما الصيام عنه وصلاة التطوع عنه وقراءة القرآن عنه فهذا فيه قولان للعلماء : أحدهما : ينتفع به وهو مذهب أحمد وأبي حنيفة وغيرهما ، وبعض أصحاب الشافعي وغيرهم .

                والثاني : لا تصل إليه وهو المشهور في مذهب مالك والشافعي .

                وأما الاستئجار لنفس القراءة والإهداء فلا يصح ذلك ، فإن العلماء إنما تنازعوا في جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن والأذان والإمامة والحج عن الغير ; لأن المستأجر يستوفي المنفعة ، فقيل : يصح لذلك كما هو المشهور من مذهب مالك والشافعي . وقيل : لا يجوز لأن هذه الأعمال يختص فاعلها أن يكون من أهل القربة فإنها إنما تصح من المسلم دون الكافر فلا يجوز إيقاعها إلا على وجه التقرب إلى الله تعالى . وإذا فعلت بعروض لم يكن فيها أجر بالاتفاق لأن الله إنما يقبل من العمل ما أريد به وجهه لا ما فعل لأجل عروض الدنيا .

                [ ص: 316 ] وقيل يجوز أخذ الأجرة عليها للفقير دون الغني ، وهو القول الثالث في مذهب أحمد كما أذن الله لولي اليتيم أن يأكل مع الفقر ويستغني مع الغنى ، وهذا القول أقوى من غيره على هذا فإذا فعلها الفقير لله وإنما أخذ الأجرة لحاجته إلى ذلك وليستعين بذلك على طاعة الله فالله يأجره على نيته فيكون قد أكل طيبا وعمل صالحا .

                وأما إذا كان لا يقرأ القرآن إلا لأجل العروض فلا ثواب لهم على ذلك ، وإذا لم يكن في ذلك ثواب ، فلا يصل إلى الميت شيء ; لأنه إنما يصل إلى الميت ثواب العمل لا نفس العمل ; فإذا تصدق بهذا المال على من يستحقه وصل ذلك إلى الميت وإن قصد بذلك من يستعين على قراءة القرآن وتعليمه كان أفضل وأحسن فإن إعانة المسلمين بأنفسهم وأموالهم على تعلم القرآن وقراءته وتعليمه من أفضل الأعمال .



                وأما صنعة أهل الميت طعاما يدعون الناس إليه فهذا غير مشروع وإنما هو بدعة بل قد قال جرير بن عبد الله : كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعتهم الطعام للناس من النياحة .

                وإنما المستحب إذا مات الميت أن يصنع لأهله طعام ، كما قال [ ص: 317 ] النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء نعي جعفر بن أبي طالب : { اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد أتاهم ما يشغلهم .

                } . وأما القراءة الدائمة على القبور فلم تكن معروفة عند السلف .



                وقد تنازع الناس في القراءة على القبر فكرهها أبو حنيفة ومالك وأحمد في أكثر الروايات عنه ورخص فيها في الرواية المتأخرة لما بلغه أن عبد الله بن عمر أوصى أن يقرأ عند دفنه بفواتح البقرة وخواتمها .

                وقد نقل عن بعض الأنصار أنه أوصى عند قبره بالبقرة وهذا إنما كان عند الدفن فأما بعد ذلك فلم ينقل عنهم شيء من ذلك ولهذا فرق في القول الثالث بين القراءة حين الدفن والقراءة الراتبة بعد الدفن فإن هذا بدعة لا يعرف لها أصل .

                ومن قال : إن الميت ينتفع بسماع القرآن ويؤجر على ذلك فقد غلط ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له } . فالميت بعد الموت لا يثاب على سماع ولا غيره ، وإن كان الميت يسمع قرع نعالهم ويسمع سلام الذي يسلم عليه ويسمع غير ذلك لكن لم يبق له عمل غير ما استثنى .

                [ ص: 318 ] وأما بناء المساجد على القبور وتسمى " مشاهد " فهذا غير سائغ ; بل جميع الأمة ينهون عن ذلك لما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا } . قالت عائشة : ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا وفي الصحيح أيضا عنه أنه قال : { إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك } وفي السنن عنه قال : { لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج } .

                وقد اتفق أئمة المسلمين على أن الصلاة في المشاهد ليس مأمورا بها لا أمر إيجاب ولا أمر استحباب . ولا في الصلاة في المشاهد التي على القبور ونحوها فضيلة على سائر البقاع فضلا عن المساجد باتفاق أئمة المسلمين فمن اعتقد أن الصلاة عندها فيها فضل على الصلاة على غيرها أو أنها أفضل من الصلاة في بعض المساجد فقد فارق جماعة المسلمين ومرق من الدين بل الذي عليه الأمة أن الصلاة فيها منهي عنها نهي تحريم وإن كانوا متنازعين في الصلاة في المقبرة : هل هي محرمة ؟ أو مكروهة ؟ أو مباحة ؟ أو يفرق بين المنبوشة والقديمة فذلك لأجل تعليل النهي بالنجاسة لاختلاط التراب بصديد الموتى .

                [ ص: 319 ] وأما هذا فإنه نهى عن ذلك لما فيه من التشبه بالمشركين وأن ذلك أصل عبادة الأصنام . قال تعالى : { وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا } قال غير واحد من الصحابة والتابعين : هذه أسماء قوم كانوا قوما صالحين في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكره مالك في الموطإ : { اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } ولهذا لا يشرع باتفاق المسلمين أن ينذر للمشاهد التي على القبور لا زيت ولا شمع ولا دراهم ولا غير ذلك وللمجاورين عندها وخدام القبور ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد لعن من يتخذ عليها المساجد والسرج ، ومن نذر ذلك فقد نذر معصية ، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه } .

                وأما الكفارة فهي على قولين : فمذهب أحمد وغيره عليه كفارة يمين لقول النبي صلى الله عليه وسلم { كفارة النذر كفارة اليمين } . رواه مسلم . وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال { من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه } ومذهب مالك والشافعي وغيرهما لا شيء عليه . لكن إن تصدق بالنذر [ ص: 320 ] في المشاهد على من يستحق ذلك من فقراء المسلمين الذين يستعينون بذلك على طاعة الله ورسوله فقد أحسن في ذلك وأجره على الله .

                ولا يجوز لأحد باتفاق المسلمين أن ينقل صلاة المسلمين وخطبهم من مسجد يجتمعون فيه إلى مشهد من مشاهد القبور ونحوها . بل ذلك من أعظم الضلالات والمنكرات حيث تركوا ما أمر الله به ورسوله وفعلوا ما نهى الله عنه ورسوله وتركوا السنة وفعلوا البدعة تركوا طاعة الله ورسوله وارتكبوا معصية الله ورسوله بل يجب إعادة الجمعة والجماعة إلى المسجد الذي هو بيت من بيوت الله { أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال } { رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة } وقد قال تعالى : { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين } .

                وأما القبور التي في المشاهد وغيرها فالسنة لمن زارها أن يسلم على الميت ويدعو له بمنزلة الصلاة على الجنائز كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه أن يقولوا إذا زاروا القبور : { السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم عن قريب لاحقون ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين [ ص: 321 ] نسأل الله لنا ولكم العافية اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم } .

                وأما التمسح بالقبر أو الصلاة عنده أو قصده لأجل الدعاء عنده معتقدا أن الدعاء هناك أفضل من الدعاء في غيره أو النذر له ونحو ذلك فليس هذا من دين المسلمين بل هو مما أحدث من البدع القبيحة التي هي من شعب الشرك والله أعلم وأحكم .




                الخدمات العلمية