الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                              [ ص: 548 ] قوله تعالى: كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون (14) كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون (15) ثم إنهم لصالو الجحيم (16) ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون

                                                                                                                                                                                              وأعظم عذاب أهل النار حجابهم عن الله عز وجل، وإبعادهم عنه . وإعراضه عنهم، وسخطه عليهم، كما أن رضوان الله على أهل الجنة أفضل من كل نعيم الجنة، وتجليه لهم ورؤيتهم إياه أعظم من جميع أنواع نعيم الجنة، قال الله تعالى: كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالو الجحيم ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون فذكر الله تعالى ثلاثة أنواع من العذاب: حجابهم عنه، ثم صليهم الجحيم، ثم توبيخهم بتكذيبهم به في الدنيا . ووصفهم بالران على قلوبهم، وهو صدأ الذنوب الذي سود قلوبهم، فلم يصل إليها بعد ذلك في الدنيا شيء من معرفة الله ولا من إجلاله ومهابته وخشيته ومحبته، فكما حجبت قلوبهم في الدنيا عن الله حجبوا في الآخرة عن رؤيته، وهذا بخلاف حال أهل الجنة .

                                                                                                                                                                                              قال الله تعالى: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة والذين أحسنوا هم أهل الإحسان، والإحسان أن يعبد العبد ربه كأنه يراه، كما فسره النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سأله عنه جبريل عليه السلام، فجعل جزاء الإحسان الحسنى: وهو الجنة، والزيادة: وهي النظر إلى وجه الله عز وجل، كما فسره بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث صهيب وغيره . [ ص: 549 ] قال جعفر بن سليمان : سمعت أبا عمران الجوني قال: إن الله لم ينظر إلى إنسان قط إلا رحمه، ولو نظر إلى أهل النار لرحمهم، ولكن قضى أن لا ينظر إليهم .

                                                                                                                                                                                              وقال أحمد بن أبي الحواري: حدثنا أحمد بن موسى عن أبي مريم، قال: يقول أهل النار: إلهنا ارض عنا وعذبنا بأي نوع شئت من عذابك، فإن غضبك أشد علينا من العذاب الذي نحن فيه، قال أحمد : فحدثت سليمان ابن أبي سليمان، فقال: ليس هذا كلام أهل النار، هذا كلام المطيعين لله . قال: فحدثت به أبا سليمان، فقال: صدق سليمان بن أبي سليمان - وسليمان وهو ولد أبي سليمان الداراني، وكان عارفا كبير القدر رحمه الله - وما قاله حق، فإن أهل النار جهال لا يتفطنون لهذا، وإن كان في نفسه حقا، وإنما يعرف هذا من عرف الله وأطاعه، ولعل هذا يصدر من بعض من يدخل النار من عصاة الموحدين، كما أن بعضهم يستغيث بالله لا يستغيث بغيره، فيخرج منها، وبعضهم يخرج منها برجائه لله وحده، وبعض من يؤمر به إلى النار يتشفع إلى الله بمعرفته فينجيه منها .

                                                                                                                                                                                              قال أبو العباس بن مسروق : سمعت سويد بن سعيد يقول: سمعت الفضيل بن عياض ، يقول: يوقف رجل بين يدي الله عز وجل، لا يكون معه حسنة، فيقول الله عز وجل: اذهب هل تعرف أحدا من الصالحين أغفر لك بمعرفته، فيذهب فيدور مقدار ثلاثين سنة فلا يرى أحدا يعرفه، فيرجع إلى الله عز وجل، فيقول: يا رب لا أرى أحدا، فيقول الله عز وجل: اذهبوا به إلى النار، فتتعلق به الزبانية يجرونه، فيقول: يا رب إن كنت تغفر لي بمعرفة المخلوقين فإني بوحدانيتك أنت أحق أن تغفر لي، فيقول الله - عز وجل - [ ص: 550 ] للزبانية: ردوا عارفي لأنه يعرفني واخلعوا عليه خلع كرامتي، ودعوه يتبحبح في رياض الجنة، فإنه عارف بي وأنا له معروف .

                                                                                                                                                                                              * * *

                                                                                                                                                                                              قال الله تعالى في حق الفجار: كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالو الجحيم ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون فوصفهم بأن كسبهم ران على قلوبهم، والران هو ما يعلو على القلب من الذنوب من ظلمة المعاصي وقسوتها، ثم ذكر جزاءهم على ذلك وهو ثلاثة أنواع: الحجاب عن ربهم، ثم صلي الجحيم، ثم التوبيخ .

                                                                                                                                                                                              فأعظم عذاب أهل النار حجابهم عن ربهم عز وجل، ولما كانت قلوبهم في الدنيا مظلمة قاسية لا يصل إليها شيء من نور الإيمان وحقائق العرفان كان جزاؤهم على ذلك في الآخرة حجابهم عن رؤية الرحمن .

                                                                                                                                                                                              قال بعض العارفين: " من عرف الله في الدنيا، عرفه بقدر تعرفه إليه . وتجلى له في الآخرة بقدر معرفته إياه في الدنيا فرأوه في الدنيا رؤية الأسرار . ورأوه في الآخرة رؤية الأبصار، فمن لا يراه في الدنيا بسره لسره، لا يراه في الآخرة بعينه " انتهى .

                                                                                                                                                                                              فخوف العارفين في الدنيا من احتجابه عن بصائرهم، وفي الآخرة من احتجابهم عن أبصارهم ونواظرهم .

                                                                                                                                                                                              وكتب الأوزاعي إلى أخ له: "أما بعد: فإنه قد أحيط بك من كل جانب، [ ص: 551 ] واعلم أنه يسار بك في كل يوم وليلة، فاحذر الله والمقام بين يديه، وأن يكون آخر عهدك به السلام " . وكان عتبة الغلام يبكي بالليل ويقول: "قطع ذكر العرض على الله أوصال المحبين " ثم يحشرج البكاء حشرجة الموت ويقول: "تراك مولاي تعذب محبك وأنت الحي الكريم " وبات ليلة بالساحل قائما يردد هذه الكلمات لا يزيد عليها ويبكي حتى أصبح: "إن تعذبني فإني محب لك، وإن ترحمني فإني محب لك " .

                                                                                                                                                                                              وكان كهمس يقول في الليل: "أتراك تعذبني وأنت قرة عيني يا حبيب قلباه " .

                                                                                                                                                                                              وكان أبو سليمان يبكي ويقول: "لئن طالبني بذنوبي لأطالبنه بعفوه، ولئن طالبني ببخلي لأطالبنه بجوده، ولئن أدخلني النار، لأخبرن أهل النار أني كنت أحبه " .

                                                                                                                                                                                              ومما يخافه العارفون فوات الرضا عنهم، وإن وجدوا العفو أو ترك العقوبة، فإن الرضا أحب إليهم من نعيم الجنة كله مع الإعراض وعدم التقريب والزلفى، وقد قال سبحانه وتعالى: ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر يعني: أكبر من نعيم الجنة .

                                                                                                                                                                                              وفي "الصحيح " عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله يقول لأهل الجنة: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ قالوا: وما أفضل من ذلك؟ قال: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا " .

                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية