الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : إنما قال : ( يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ) لأن فيه إضمارا ، والتقدير : يستحبون الحياة الدنيا ويؤثرونها على الآخرة ، فجمع تعالى بين هذين الوصفين ليتبين بذلك أن الاستحباب للدنيا وحده لا يكون مذموما إلا بعد أن يضاف إليه إيثارها على الآخرة ، فأما من أحبها ليصل بها إلى منافع النفس وإلى خيرات الآخرة ، فإن ذلك لا يكون مذموما حتى إذا آثرها على آخرته بأن اختار منها ما يضره في آخرته ، فهذه المحبة هي المحبة المذمومة.

                                                                                                                                                                                                                                            النوع الثاني : من الصفات التي وصف الله الكفار بها قوله تعالى : ( ويصدون عن سبيل الله ) .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن من كان موصوفا باستحباب الدنيا فهو ضال ، ومن منع الغير من الوصول إلى سبيل الله ودينه فهو مضل ، فالمرتبة الأولى إشارة إلى كونهم ضالين ، وهذه المرتبة الثانية وهي كونهم صادين عن سبيل الله إشارة إلى كونهم مضلين.

                                                                                                                                                                                                                                            والنوع الثالث من تلك الصفات قوله : ( ويبغونها عوجا ) واعلم أن الإضلال على مرتبتين :

                                                                                                                                                                                                                                            المرتبة الأولى : أنه يسعى في صد الغير ومنعه من الوصول إلى المنهج القويم والصراط المستقيم.

                                                                                                                                                                                                                                            والمرتبة الثانية : أن يسعى في إلقاء الشكوك والشبهات في المذهب الحق ، ويحاول تقبيح صفته بكل ما يقدر عليه من الحيل ، وهذا هو النهاية في الضلال والإضلال ، وإليه الإشارة بقوله : ( ويبغونها عوجا ) قال صاحب "الكشاف" : الأصل في الكلام أن يقال : ويبغون لها عوجا ، فحذف الجار وأوصل الفعل ، ولما ذكر الله تعالى هذه المراتب الثلاثة لأحوال هؤلاء الكفار قال في صفتهم : ( أولئك في ضلال بعيد ] وإنما وصف هذا الضلال بالبعد لوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الأول : أنا بينا أن أقصى مراتب الضلال هو الذي وصفه الله تعالى في هذه المرتبة ، فهذه المرتبة في غاية البعد عن طريق الحق ، فإن شرط الضدين أن يكونا في غاية التباعد ، مثل السواد والبياض ، فكذا هاهنا الضلال الذي يكون واقعا على هذا الوجه يكون في غاية البعد عن الحق ، فإنه لا يعقل ضلال أقوى وأكمل من هذا الضلال.

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن يكون المراد أن يبعد ردهم عن طريقة الضلال إلى الهدى ؛ لأنه قد تمكن ذلك في نفوسهم.

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الثالث : أن يكون المراد من الضلال الهلاك ، والتقدير : أولئك في هلاك يطول عليهم فلا ينقطع ، وأراد بالبعد امتداده وزوال انقطاعه.

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية