الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1333 مالك ، عن ابن شهاب ، عن مالك بن أوس بن الحدثان النصري أنه أخبره أنه التمس صرفا بمائة دينار ، قال : فدعاني طلحة بن عبيد له فتراوضنا حتى اصطرف مني ، وأخذ الذهب يقلبها في يده ، ثم قال : حتى يأتيني خازني من الغابة ، وعمر بن الخطاب يسمع فقال عمر : لا [ ص: 282 ] والله لا تفارقه حتى تأخذ منه ، ثم قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء ، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء ، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء ، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء .

التالي السابق


لم يختلف عن مالك في هذا الحديث .

حدثنا خلف بن قاسم ، حدثنا محمد بن عبد الله ، حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز ، حدثنا هارون بن عبد الله ، حدثنا معن بن عيسى وروح بن عبادة ، وعبد الله بن نافع ، قالوا : حدثنا مالك ، عن ابن شهاب ، عن مالك بن أوس ، عن عمر بن الخطاب ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء الحديث . هكذا قال مالك ، ومعمر ( والليث ) وابن عيينة في هذا الحديث ، عن الزهري ، الذهب بالورق [ ص: 283 ] ولم يقولوا الذهب بالذهب ، والورق بالورق ، وهؤلاء هم الحجة الثابتة في ابن شهاب على ( كل ) من خالفهم .

وأخبرنا عبد الوارث بن سفيان ، وسعيد بن نصر ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : قال لنا أبو بكر بن أبي شيبة : أشهد على ابن عيينة أنه قال لنا : الذهب بالورق ، ولم يقل : الذهب بالذهب يعني في حديث ابن شهاب هذا ، عن مالك بن أوس ، عن عمر .

ورواه محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن مالك بن أوس بن الحدثان ، عن عمر مثله إلا أنه قال فيه : الذهب بالذهب مثلا بمثل هاء وهاء ، والفضة بالفضة مثلا بمثل هاء وهاء ، والبر بالبر مثلا بمثل هاء وهاء ، والشعير بالشعير مثلا بمثل هاء وهاء ، والتمر بالتمر مثلا بمثل هاء وهاء لا فضل بينهما . هكذا رواه يزيد بن هارون ، وغيره عن ابن إسحاق ورواية أبي نعيم لهذا الحديث عن ابن عيينة في الذهب بالذهب مثل رواية ابن إسحاق ، ولم يقله أحد عن ابن أبي نعيم ، والله أعلم .

[ ص: 284 ] وقد روى هذا الحديث بنحو ذلك همام بن يحيى ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن الأوزاعي ( عن مالك بن أنس ، عن الزهري ) عن مالك بن أوس ، قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء ، والفضة بالفضة ربا إلا هاء وهاء ، من زاد أو ازداد فقد أربى .

( وعلى ذا كان الناس يروي النظير عن النظير ، والكبير عن الصغير رغبة في الازدياد من العلم ) .

وحدثنا عبد الوارث ، وسعيد ( بن نصر ) قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : ( حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر ، قال : حدثنا عفان ، قال : حدثنا شعبة ، قال ) : أخبرني حبيب بن ( أبي ) ثابت قال : سمعت أبا المنهال ، قال : سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم عن الصرف [ ص: 285 ] فكلاهما يقول : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الذهب بالورق دينا .

وفي هذا الحديث أن الرجل الكبير الشريف العالم قد يلي البيع والشراء بنفسه ، وإن كان له وكلاء وأعوان يكفونه . وفيه المماكسة في البيع والمرواضة ، وفيه تقليب السلعة ، وأن يتناولها المشتري بيده ليقلبها وينظر فيها ، وهذا كله دليل على الاجتهاد في أن لا يغبن الإنسان ، وفيه أن المهاجرين كانوا قد اكتسبوا الأرض بالمدينة وبواديها ، وفيه أن علم البيوع من علم الخواص لا من علم العوام لجهل طلحة به ، وموضعه من الجلالة موضعه ، وفيه أن الخليفة والسلطان - من كان ، واجب عليه إذا سمع أو رأى ما لا يجوز في الدين أن ينهى عنه ويرشد إلى الحق فيه ، وفيه ما كان عليه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه من تفقد أحوال رعيته في دينهم ، والاهتمام بهم [ ص: 286 ] وفيه أنه كان من خلقهم وسيرهم أنهم كانوا إذا عزموا على أمر حلفوا عليه وأكدوه باليمين بالله - عز وجل - وفيه أن الحجة على من خالفك في حكم من الأحكام ، أو أمر من الأمور حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما لا نص فيه من كتاب الله - عز وجل - وفيه أن الحجة بخبر الواحد لازمة ، وفيه أن النساء لا يجوز في بيع الذهب بالورق ، وإذا كان الذهب والورق ، وهما جنسان مختلفان يجوز فيهما التفاضل بإجماع ، ولا يجوز فيهما النساء ، فأحرى أن لا يجوز ذلك في الذهب بالذهب الذي هو جنس واحد ( ولا في الورق بالورق ، لأنه جنس واحد ) وهذا أمر مجتمع عليه لا خلاف فيه ، والحمد لله .

وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الدينار بالدينار ، والدرهم بالدرهم ، والفضة بالفضة ، تبرها وعينها مثلا بمثل ، والذهب بالذهب تبرها وعينها مثلا بمثل ، وزنا بوزن ، يدا بيد ، من زاد أو ازداد فقد أربى .

وقد جاء في هذا الباب شيء مردود بالسنة عن ابن عباس ومعاوية ، وقد مضى رده وبيان فساده في باب [ ص: 287 ] حميد بن قيس وباب زيد بن أسلم من هذا الكتاب ، والحمد لله .

فاستقر الأمر عند العلماء على أن الربا في الازدياد في الذهب بالذهب ، وفي الورق بالورق كما هو في النسيئة سواء في بيع أحدهما بالآخر ، وفي بيع بعض كل واحد منهما ببعض ، وهذا أمر مجتمع عليه لا خلاف بين العلماء فيه مع تواتر الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك .

حدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ( قال : حدثنا محمد بن وضاح ) قال : حدثنا موسى بن معاوية ، قال : حدثنا وكيع ، قال : حدثنا سفيان ، عن خالد الحذاء ، عن أبي قلابة ، عن أبي الأشعث الصنعاني ، عن عبادة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، مثلا بمثل ، يدا بيد ، فإذا اختلفت هذه الأصناف ، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد . [ ص: 288 ] وكذلك رواه عبد الرزاق ، وعبد الملك ، عن الثوري ، عن خالد ، عن أبي قلابة ، عن أبي الأشعث ، عن عبادة ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : الذهب بالذهب ، وزنا بوزن ( والفضة بالفضة ) وزنا بوزن ، والبر بالبر مثلا بمثل ، والشعير بالشعير ، مثلا بمثل ، والتمر بالتمر ، مثلا بمثل ، والملح بالملح ، مثلا بمثل ، وبيعوا الذهب بالفضة ، يدا بيد كيف شئتم ، والبر بالشعير ، يدا بيد كيف شئتم ، والتمر بالملح ، يدا بيد كيف شئتم .

وحدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل ( الترمذي ) قال : حدثنا الحميدي ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا ابن جدعان ، عن محمد بن سيرين ، عن مسلم بن يسار ، عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الذهب بالذهب مثلا بمثل ، والورق بالورق مثلا بمثل ، والتمر بالتمر مثلا بمثل ، والشعير بالشعير مثلا بمثل [ ص: 289 ] حتى خص الملح بالملح مثلا بمثل ، فمن زاد أو ازداد فقد أربى .

وحدثنا عبد الوارث ، حدثنا قاسم ، حدثنا محمد بن أبي العوام ، حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، عن رجلين أحدهما مسلم بن يسار ، عن عبادة بن الصامت فذكر مثله .

قال أبو عمر :

فقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هاء وهاء ، وقوله يدا بيد سواء .

واختلف العلماء في حد قبض الصرف وحقيقته فقال ابن القاسم عن مالك لا يصح الصرف إلا يدا بيد ، فإن لم ينتقده ومكث معه من غدوة إلى ضحوة قاعدا ، وقد تصارفا غدوة فتقابضا ضحوة لم يصح هذا ، ولا يكون الصرف إلا عند الإيجاب بالكلام ، ولو انتقلا من ذلك المكان إلى موضع غيره لم يصح تقابضهما . هذا كله قول مالك ، وجملة مذهبه في ذلك أنه لا يجوز عنده تراخي القبض في الصرف سواء كانا في المجلس أو تفرقا ، ومحل قولعمر عنده ( - والله أعلم - ) : والله لا تفارقه حتى تأخذ منه ، أن ذلك [ ص: 290 ] على الفور لا على التراخي ، وهو المعقول من لفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هاء وهاء - عنده ، والله أعلم .

وقال أبو حنيفة والشافعي : يجوز التقابض في الصرف ما لم يفترقا ، وإن طالت المدة ، وانتقلا إلى موضع آخر ، واحتجوا بقول عمر ، " والله لا تفارقه حتى تأخذ " ، وجعلوه تفسيرا لما رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله : الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء ، واحتجوا بقوله أيضا : وإن استنظرك إلى أن يلج بيته ، فلا تنظره ، قالوا : فعلم من قوله هذا أن المراعى الافتراق .

واختلف الفقهاء أيضا من معنى هذا الحديث في الدينين يصارف عليهما فقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما : إذا كان له عليه دراهم وله على الآخر دنانير جاز أن يشتري أحدهما ما عليه بما على الآخر ، لأن الذمة تقوم مقام العين الحاضرة ، وليس يحتاج هاهنا إلى قبض ، فجاز التطارح .

وقال الشافعي ، والليث بن سعد : لا يجوز ، لأنه دين بدين واستدلوا بقول عمر : لا تبيعوا منها غائبا بناجز ، قالوا : فالغائب بالغائب أحرى أن لا يجوز . [ ص: 291 ] ومن حجة مالك عليهما أن الدين في الذمة كالمقبوض .

واختلفوا من معنى هذا الحديث أيضا في أخذ الدراهم عن الدنانير فقال مالك وأصحابه فيمن له على رجل دراهم حالة ، فإنه يأخذ دنانير ( بها ) وإن كانت مؤجلة لم يجز أن يبيعها بدنانير ، وليأخذ في ذلك عرضا إن شاء .

وإنما جاز هذا في الحال ، ومنعها في المؤجل فرارا من الدين بالدين ، وقال الشافعي : إذا حل دينه أخذ به ما شاء منه من جنسه ومن غير جنسه من بيع كان أو قرض ، وإن لم يحل دينه لم يجز ، لأنه دين بدين ، وقال أبو حنيفة : فيمن أقرض رجلا دراهم له أن يأخذ بها دنانير إن تراضيا وقبض الدنانير في المجلس .

وقال البتي : يأخذها بسعر يومه .

وقال الأوزاعي : بقيمته يوم يأخذه ، وهو قول الحسن البصري ، وقال ابن شبرمة : لا يجوز أن يأخذ عن دنانير دراهم ، ولا عن دراهم دنانير ، وإنما يأخذ ما أقرض .

وروي عن ابن مسعود ، وابن عباس مثله . وروي عن ابن عمر [ ص: 292 ] أنه لا بأس به ، وأجاز ابن شبرمة لمن باع طعاما بدين فجاء الأجل أن يأخذ بدراهمه ( طعاما ) .

واختلف قول الثوري في ذلك ، والأصل في هذا الباب حديث ابن عمر ، وهو ثابت صحيح : حدثناه خلف بن القاسم الحافظ - رحمه الله - قال : حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا عبيد بن آدم بن أبي إياس ، قال : حدثنا أبو معن ثابت بن نعيم ، قال : حدثنا آدم بن أبي إياس ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن سماك بن حرب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عمر ، قال : كنت أبيع الإبل بالبقيع ، فآخذ مكان الدنانير دراهم ومكان الدراهم دنانير فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال : لا بأس به إذا افترقتما ، وليس بينكما شيء .

واختلف الفقهاء في اعتبار المذكورات في هذا الحديث ، وفي المعنى المقصود إليه بذكرها ، فقال العراقيون : [ ص: 293 ] الذهب والورق المذكوران في هذا الحديث موزونان ، وهما أصل لكل موزون فكل موزون من جنس واحد لا يجوز فيه التفاضل ، ولا النساء بوجه من الوجوه قياسا على ما أجمعت ( الأمة ) عليه من أن الذهب والورق لا يجوز التفاضل في الجنس الواحد منهما ولا النساء بعضه ببعض ، فإذا كان الموزون جنسين مختلفين فجائز التفاضل بينهما ، ولا يجوز النساء بوجه من الوجوه قياسا على الذهب بالورق المجتمع على إجازة التفاضل فيهما وتحريم النساء ، لأنهما جنسان مختلفان ، قالوا : والعلة في البر والشعير والتمر الكيل ، فكل مكيل من جنس جائز فيه التفاضل ، ولا النسا قياسا على ما أجمعت الأمة عليه في أن البر ( بالبر ) بعضه ببعض ، والشعير والتمر لا يجوز في واحد منهما بعضه ببعض التفاضل ، ولا النسا بحال ، فإذا اختلف الجنسان جاز فيهما التفاضل ، ولم يجز النسا على حال ، وسواء كان المكيل أو الموزون مأكولا ، أو غير مأكول كما لا يجوز ذلك في الذهب والورق .

وقال الشافعي : أما الذهب والورق فلا يقاس عليهما غيرهما ، لأن العلة ( التي ) فيهما ليست موجودة في شيء من الموزونات غيرهما فكيف ترد قياسا عليهما ، وذلك أن [ ص: 294 ] العلة في الذهب والورق أنهما أثمان المبيعات وقيم المتلفات وليس كذلك شيء من الموزونات لأنه جائز أن تسلم ما شئت من الذهب والورق فيما عداهما من سائر الموزونات ولا يسلم بعضها في بعض ، فبطل قياسها عليهما وردها إليهما .

قال : وأما البر ، والتمر ، والشعير ، فالعلة عندي فيهما الأكل لا الكيل ، فكل مأكول أخضر كان أو يابسا مما يدخر كان أو مما لا يدخر جائز بيع الجنس منه بعضه ببعض متفاضلا ولا نساء ، وحرام فيه التفاضل ، والنساء جميعا قياسا على البر بعضه ببعض ، وعلى الشعير بعضه ببعض ( وعلى التمر بعضه ببعض ) لا يجوز ذلك في واحد منهما بالإجماع والسنة الثابتة .

قال : وأما إذا اختلف الجنسان من المأكول فجائز حينئذ فيهما التفاضل وحرام فيهما النساء وحجته في ذلك نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الطعام بالطعام إلا يدا بيد ، وأما أصحابنا من عصر إسماعيل بن إسحاق ( إلى ) هلم جرا ، ومن قبلهم من أصحاب مالك ، وأصحاب أصحابه ، فالذي حصل عندي من تعليلهم لهذه المذكورات [ ص: 295 ] بعد اختلافهم في شيء من العبارات عن ذلك أن الذهب والورق القول فيهما ( عندهم ) كالقول عند الشافعي لا يرد إليهما شيء من الموزونات لأنهما قيم المتلفات وأثمان المبيعات ولاشيء غيرهما كذلك ، فارتفع القياس عنهما لارتفاع العلة إذ القياس لا يكون عند جماعة القياسيين إلا على العلل لا على الأسماء ، وعللوا البر ، والتمر ، والشعير بأنها مأكولات مدخرات أقوات ، فكل ما كان قوتا مدخرا حرم التفاضل والنساء في الجنس الواحد منه وحرم النساء في الجنسين المختلفين دون التفاضل ، وما لم يكن مدخرا قوتا من المأكولات لم يحرم فيه التفاضل وحرم فيه النساء ، سواء كان جنسا أو جنسين .

قال أبو عمر :

وهذا مجتمع عليه عند العلماء أن الطعام بالطعام لا يجوز إلا يدا بيد مدخرا كان أو غير مدخر إلا إسماعيل بن علية ، فإنه شذ ، فأجاز التفاضل والنساء في الجنسين إذا اختلفا من المكيل ، ومن الموزون قياسا [ ص: 296 ] على إجماعهم في إجازة بيع الذهب أو الفضة بالرصاص ، والنحاس ، والحديد ، والزعفران ، والمسك ، وسائر الموزونات نساء ، وأجاز على هذا القياس في كتبه بيع البر بالشعير ، والشعير بالتمر ، والتمر بالأرز ، وسائر ما اختلف اسمه ونوعه بما يخالفه من المكيل والموزون متفاضلا نقدا ونسيئة سواء كان مأكولا أو غير مأكول ، ولم يجعل الكيل ، والوزن علة ، ولا الأكل ، والاقتيات ، وقاس ما اختلفوا فيه على ما أجمعوا عليه مما ذكرنا .

وذكر عن ابن جريج ، عن إسماعيل بن علية وأيوب بن موسى ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه باع صاعي تمر بالغابة بصاع حنطة بالمدينة ، وإسماعيل بن علية هذا له شذوذ كثير ومذاهب عند أهل السنة مهجورة ، وليس قوله عندهم مما يعد خلافا ، ولا يعرج عليه لثبوت السنة بخلافه من حديث عبادة وغيره على ما قدمنا في هذا الباب ذكره من قوله - صلى الله عليه وسلم - : فإذا اختلفت الأصناف ، فبيعوا كيف شئتم يدا بيد ، وبيعوا البر بالشعير [ ص: 297 ] كيف شئتم يدا بيد ، وبيعوا التمر بالملح كيف شئتم يدا بيد .

وحدثنا عبد الله بن محمد بن يحيى ، قال : حدثنا محمد بن بكر بن داسة ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا الحسن بن علي ، قال : حدثنا بشر بن عمر ، قال : حدثنا همام ، عن قتادة ، عن أبي الخليل ، عن مسلم المكي ، عن أبي الأشعث الصنعاني ، عن عبادة بن الصامت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الذهب بالذهب تبرها وعينها ، والفضة بالفضة تبرها وعينها مثلا بمثل وزنا بوزن ، والبر بالبر مدي بمدي ، والشعير بالشعير مدي بمدي ( والتمر بالتمر مدي بمدي ) والملح بالملح مدي بمدي ، فمن زاد أو ازداد فقد أربى ، ولا بأس ببيع الذهب بالفضة ، والفضة أكثرهما يدا بيد ، وأما نسيئة فلا ، ولا بأس ببيع البر بالشعير ، والشعير أكثرهما يدا بيد . [ ص: 298 ] وأما نسيئة فلا ، فهذه الأحاديث كلها ترد قول ابن علية في إجازته بيع الطعام بعضه ببعض نسيئة .

وكان مالك - رحمه الله - يجعل البر ، والشعير ، والسلت صنفا واحدا فلا يجوز شيء من هذه الثلاثة بعضها ببعض عنده إلا مثلا بمثل ، يدا بيد كالجنس الواحد ، وحجته في ذلك حديث زيد أبي عياش ، عن سعد في البيضاء بالسلت أيهما أكثر فنهاه ، وحديثه عن ( سعد ) أنه فني علف حماره ، فأمر غلامه أن يأخذ من حنطة أهله فيبتاع بها شعيرا ، ولا يأخذ إلا مثلا بمثل ، ذكر ذلك كله في موطئه .

وذكر عن معيقيب الدوسي ، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث ، وسليمان بن يسار مثل ذلك ، وخالفه جمهور فقهاء الأمصار فجعلوا البر صنفا ، والشعير صنفا ، وأجازوا فيهما التفاضل ، يدا بيد للأحاديث المذكورة في هذا الباب عن عبادة وممن قال بذلك أبو حنيفة ، والثوري [ ص: 299 ] والشافعي ، وأحمد ، وأبو ثور ، وكان داود بن علي لا يجعل للمسميات علة ، ولا يتعدى المذكورات إلى غيرها فقوله : إن ( الربا والتحريم غير جائز ) في شيء من المبيعات لقول الله - عز وجل - : وأحل الله البيع وحرم الربا إلا في الستة الأشياء المنصوصات وهي الذهب ، والورق ، والبر ، والشعير ، والتمر المذكورات في حديث عمر هذا ، والملح المذكور معها في حديث عبادة بن الصامت وهي زيادة يجب قبولها ( قال ) : فهذه الستة الأشياء لا يجوز بيع الجنس الواحد منها بعضه ببعض متفاضلا ، ولا نساء ؛ الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ، وهو حديث عمر هذا ، وحديث عبادة ، ولإجماع الأمة أيضا على ذلك إلا من شذ ممن لا يعد خلافا . ولا يجوز النسا في الجنسين المختلفين منها لحديث عمر في الذهب ، ولحديث عبادة ، لأن الأمة لا خلاف بينها في ذلك ويجوز فيهما التفاضل ، وما عدا هذه الأصناف [ ص: 300 ] الستة فجائز فيها الزيادة ( عنده ) والنسيئة وكيف شاء المتبايعان في الجنس وفي الجنسين ، فهذا اختلاف العلماء في أصل الربا الجاري في المأكول ، والمشروب ، والمكيل ، والموزون مختصرا وبالله التوفيق .



الخدمات العلمية