الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب قول الله تعالى فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك وهو مخير فأما الصوم فثلاثة أيام

                                                                                                                                                                                                        1719 حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن حميد بن قيس عن مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلك آذاك هوامك قال نعم يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو انسك بشاة

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باب قول الله تعالى : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك وهو مخير ، فأما الصوم فثلاثة أيام ) أي : باب تفسير قوله تعالى : كذا ، وقوله : " مخير " من كلام المصنف استفاده من " أو " المكررة . وقد أشار إلى ذلك في أول " باب كفارات الأيمان " فقال : وقد خير النبي - صلى الله عليه وسلم - كعبا في الفدية ، ويذكر عن ابن عباس وعطاء وعكرمة : ما كان في القرآن " أو " فصاحبه بالخيار . وسيأتي ذكر من وصل هذه الآثار هناك ، وأقرب ما وقفت عليه من طرق حديث الباب إلى التصريح ما أخرجه أبو داود من طريق الشعبي عن ابن أبي ليلى ، عن كعب بن عجرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له : إن شئت فانسك نسيكة ، وإن شئت فصم ثلاثة أيام ، وإن شئت فأطعم الحديث .

                                                                                                                                                                                                        وفي رواية مالك في " الموطأ " عن عبد الكريم بإسناده في آخر الحديث : " أي ذلك فعلت أجزأ " وسيأتي البحث في ذلك إن شاء الله تعالى . وقوله : " فأما الصوم " في رواية الكشميهني " الصيام " ، والصيام المطلق [ ص: 17 ] في الآية مقيد بما ثبت في الحديث بالثلاث . قال ابن التين وغيره : جعل الشارع هنا صوم يوم معادلا بصاع ، وفي الفطر من رمضان عدل مد ، وكذا في الظهار والجماع في رمضان ، وفي كفارة اليمين بثلاثة أمداد وثلث ، وفي ذلك أقوى دليل على أن القياس لا يدخل في الحدود والتقديرات . وقسيم قوله : " فأما الصوم " محذوف تقديره . وأما الصدقة فهي إطعام ستة مساكين ، وقد أفرد ذلك بترجمة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن حميد بن قيس ) في رواية أشهب ، عن مالك " أن حميد بن قيس حدثه " ، أخرجها الدارقطني في " الموطأ " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( مجاهد ، عن عبد الرحمن ) صرح سيف ، عن مجاهد بسماعه من عبد الرحمن وبأن كعبا حدث عبد الرحمن كما في الباب الذي يليه . قال ابن عبد البر في رواية حميد بن قيس هذه : كذا رواه الأكثر عن مالك ، ورواه ابن وهب وابن القاسم وابن عفير ، عن مالك بإسقاط عبد الرحمن بين مجاهد وكعب بن عجرة . قلت : ولمالك فيه إسنادان آخران في " الموطأ " أحدهما عن عبد الكريم الجزري ، عن مجاهد ، وفي سياقه ما ليس في سياق حميد بن قيس ، وقد اختلف فيه على مالك أيضا على العكس مما اختلف فيه على طريق حميد بن قيس ، قال الدارقطني : رواه أصحاب " الموطأ " عن مالك ، ، عن عبد الكريم ، ، عن عبد الرحمن ، لم يذكروا مجاهدا ، حتى قال الشافعي : إن مالكا وهم فيه .

                                                                                                                                                                                                        وأجاب ابن عبد البر بأن ابن القاسم وابن وهب في " الموطأ " وتابعهما جماعة عن مالك خارج " الموطأ " ، منهم بشر بن عمر الزهراني ، وعبد الرحمن بن مهدي ، وإبراهيم بن طهمان ، والوليد بن مسلم ، أثبتوا مجاهدا بينهما ، وهذا الجواب لا يرد على الشافعي . وطريق ابن القاسم المشار إليها عند النسائي ، وطريق ابن وهب عند الطبري ، وطريق عبد الرحمن بن مهدي عند أحمد ، وسائرها عند الدارقطني في " الغرائب " . والإسناد الثالث لمالك فيه عن عطاء الخراساني ، عن رجل من أهل الكوفة ، عن كعب بن عجرة ، قال ابن عبد البر : يحتمل أن يكون عبد الرحمن بن أبي ليلى ، أو عبد الله بن معقل ، ونقل ابن عبد البر ، عن أحمد بن صالح المصري قال : حديث كعب بن عجرة في الفدية سنة معمول بها لم يروها من الصحابة غيره ، ولا رواها عنه إلا ابن أبي ليلى وابن معقل . قال : وهي سنة أخذها أهل المدينة عن أهل الكوفة . قال الزهري : سألت عنها علماءنا كلهم حتى سعيد بن المسيب فلم يبينوا كم عدد المساكين . قلت : فيما أطلقه ابن صالح نظر ، فقد جاءت هذه السنة من رواية جماعة من الصحابة غير كعب ، منهم عبد الله بن عمرو بن العاص عند الطبري والطبراني ، وأبو هريرة عند سعيد بن منصور ، وابن عمر عند الطبري ، وفضالة الأنصاري عمن لا يتهم من قومه عند الطبري أيضا . ورواه عن كعب بن عجرة - غير المذكورين - أبو وائل عند النسائي ، ومحمد بن كعب القرظي عند ابن ماجه ، ويحيى بن جعدة عند أحمد ، وعطاء عند الطبري .

                                                                                                                                                                                                        وجاء عن أبي قلابة والشعبي أيضا عن كعب وروايتهما عند أحمد ، لكن الصواب أن بينهما واسطة ؛ وهو ابن أبي ليلى على الصحيح . وقد أورد البخاري حديث كعب هذا في أربعة أبواب متوالية ، وأورده أيضا في المغازي والطب وكفارات الأيمان من طرق أخرى ، مدار الجميع على ابن أبي ليلى وابن معقل ، فيقيد إطلاق أحمد بن صالح بالصحة ، فإن بقية الطرق التي ذكرتها لا تخلو عن مقال إلا طريق أبي وائل ، وسأذكر ما في هذه الطرق من فائدة زائدة إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 18 ] قوله : ( عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : لعلك ) في رواية أشهب المقدم ذكرها " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له " وفي رواية عبد الكريم " أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم فآذاه القمل " وفي رواية سيف في الباب الذي يليه : وقف علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية ورأسي يتهافت قملا فقال : أيؤذيك هوامك؟ قلت : نعم . قال فاحلق رأسك . الحديث . وفيه : قال : في نزلت هذه الآية : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه زاد في رواية أبي الزبير ، عن مجاهد عند الطبراني أنه أهل في ذي القعدة ، وفي رواية مغيرة ، عن مجاهد عند الطبري [1] أنه لقيه وهو عند الشجرة وهو محرم ، وفي رواية أيوب ، عن مجاهد في المغازي : أتى علي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أوقد تحت برمة والقمل يتناثر على رأسي زاد في رواية ابن عون ، عن مجاهد في الكفارات : فقال ادن . فدنوت . فقال : أيؤذيك؟ وفي رواية ابن بشر ، عن مجاهد فيه قال : كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية ونحن محرمون وقد حصرنا المشركون ، وكانت لي وفرة ، فجعلت الهوام تتساقط على وجهي ، فقال أيؤذيك هوام رأسك؟ قلت : نعم . فأنزلت هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                        وفي رواية أبي وائل ، عن كعب : " أحرمت فكثر قمل رأسي ، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتاني وأنا أطبخ قدرا لأصحابي " . وفي رواية ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بعد بابين : رآه وإنه ليسقط القمل على وجهه ، فقال أيؤذيك هوامك؟ قال : نعم . فأمره أن يحلق وهم بالحديبية ولم يبين لهم أنهم يحلون ، وهم على طمع أن يدخلوا مكة ، فأنزل الله الفدية . وأخرجه الطبراني من طريق عبد الله بن كثير ، عن مجاهد بهذه الزيادة ، ولأحمد وسعيد بن منصور في رواية أبي قلابة : " قملت حتى ظننت أن كل شعرة في رأسي فيها القمل من أصلها إلى فرعها " زاد سعيد : " وكنت حسن الشعر " ، وأول رواية عبد الله بن معقل بعد باب " جلست إلى كعب بن عجرة فسألته عن الفدية فقال : نزلت في خاصة ، وهي لكم عامة ، حملت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقمل يتناثر على وجهي فقال : ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى " ، زاد مسلم من هذا الوجه : " فسألته عن هذه الآية : ففدية من صيام الآية " .

                                                                                                                                                                                                        ولأحمد من وجه آخر في هذه الطريق : وقع القمل في رأسي ولحيتي حتى حاجبي وشاربي ، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فأرسل إلي فدعاني ، فلما رآني قال : لقد أصابك بلاء ، ونحن لا نشعر ، ادع إلي الحجام ، فحلقني

                                                                                                                                                                                                        ولأبي داود من طريق الحكم بن عتيبة عن ابن أبي ليلى ، عن كعب : " أصابتني هوام حتى تخوفت على بصري " . وفي رواية أبي وائل ، عن كعب عند الطبري : " فحك رأسي بأصبعه فانتثر منه القمل " زاد الطبري من طريق الحكم : " إن هذا لأذى . قلت : شديد يا رسول الله " والجمع بين هذا الاختلاف في قول ابن أبي ليلى ، عن كعب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر به فرآه ، وفي قول عبد الله بن معقل " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل إليه فرآه " أن يقال : مر به أولا فرآه على تلك الصورة فاستدعى به إليه فخاطبه وحلق رأسه بحضرته ، فنقل كل واحد منهما ما لم ينقله الآخر ، ويوضحه قوله في رواية ابن عون السابقة حيث قال فيها : " فقال : ادن . فدنوت " فالظاهر أن هذا الاستدناء كان عقب رؤيته إياه إذ مر به وهو يوقد تحت القدر .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 19 ] قوله : ( لعلك آذاك هوامك ) قال القرطبي : هذا سؤال عن تحقيق العلة التي يترتب عليها الحكم ، فلما أخبره بالمشقة التي نالته خفف عنه . و " الهوام " - بتشديد الميم - : جمع هامة ، وهي ما يدب من الأخشاش ، والمراد بها ما يلازم جسد الإنسان غالبا إذا طال عهده بالتنظيف ، وقد عين في كثير من الروايات أنها القمل ، واستدل به على أن الفدية مرتبة على قتل القمل ، وتعقب بذكر الحلق ، فالظاهر أن الفدية مرتبة عليه ، وهما وجهان عند الشافعية ، يظهر أثر الخلاف فيما لو حلق ولم يقتل قملا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( احلق رأسك وصم ) قال ابن قدامة : لا نعلم خلافا في إلحاق الإزالة بالحلق سواء كان بموسى أو مقص أو نورة أو غير ذلك ، وأغرب ابن حزم فأخرج النتف عن ذلك فقال يلحق جميع الإزالات بالحلق إلا النتف .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( أو أطعم ) ليس في هذه الرواية بيان قدر الإطعام ، وسيأتي البحث فيه بعد باب ، وهو ظاهر في التخيير بين الصوم والإطعام . وكذا قوله : " أو انسك بشاة " ووقع في رواية الكشميهني " شاة " بغير موحدة ، والأول تقديره : " تقرب بشاة " ، ولذلك عداه بالباء ، والثاني تقديره : " اذبح شاة " . والنسك يطلق على العبادة وعلى الذبح المخصوص ، وسياق رواية الباب موافق للآية ، وقد تقدم أن كعبا قال : إنها نزلت بهذا السبب ، وقد قدمت في أول الباب أن رواية عبد الكريم صريحة في التخيير حيث قال : " أي ذلك فعلت أجزأ " .

                                                                                                                                                                                                        وكذا رواية أبي داود التي فيها : " إن شئت وإن شئت " ووافقتها رواية عبد الوارث عن ابن أبي نجيح أخرجها مسدد في مسنده ومن طريقه الطبراني ، لكن رواية عبد الله بن معقل - الآتية بعد باب - تقتضي أن التخيير إنما هو بين الإطعام والصيام لمن لم يجد النسك ولفظه : " قال : أتجد شاة؟ قال : لا . قال : فصم أو أطعم " .

                                                                                                                                                                                                        ولأبي داود في رواية أخرى " أمعك دم؟ قال : لا . قال فإن شئت فصم " ونحوه للطبراني من طريق عطاء ، عن كعب ، ووافقهم أبو الزبير ، عن مجاهد عند الطبراني وزاد بعد قوله : ما أجد هديا : " قال : فأطعم . قال : ما أجد . قال : صم " ولهذا قال أبو عوانة في صحيحه : فيه دليل على أن من وجد نسكا لا يصوم ، يعني : ولا يطعم ، لكن لا أعرف من قال بذلك من العلماء إلا ما رواه الطبري وغيره عن سعيد بن جبير قال : النسك شاة ، فإن لم يجد قومت الشاة دراهم ، والدراهم طعاما فتصدق به أو صام لكل نصف صاع يوما ، أخرجه من طريق الأعمش عنه قال فذكرته لإبراهيم فقال : سمعت علقمة مثله . فحينئذ يحتاج إلى الجمع بين الروايتين ، وقد جمع بينهما بأوجه : منها ما قال ابن عبد البر : إن فيه الإشارة إلى ترجيح الترتيب لا لإيجابه . ومنها : ما قال النووي : ليس المراد أن الصيام أو الإطعام لا يجزئ إلا لفاقد الهدي ، بل المراد أنه استخبره : هل معه هدي أو لا؟ فإن كان واجده أعلمه أنه مخير بينه وبين الصيام والإطعام ، وإن لم يجده أعلمه أنه مخير بينهما . ومحصله أنه لا يلزم من سؤاله عن وجدان الذبح تعيينه ؛ لاحتمال أنه لو أعلمه أنه يجده لأخبره بالتخيير بينه وبين الإطعام والصوم . ومنها ما قال غيرهما : يحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أذن له في حلق رأسه بسبب الأذى أفتاه بأن يكفر بالذبح على سبيل الاجتهاد منه - صلى الله عليه وسلم - أو بوحي غير متلو ، فلما أعلمه أنه لا يجد نزلت الآية بالتخيير بين الذبح والإطعام والصيام فخيره حينئذ بين الصيام والإطعام ؛ لعلمه بأنه لا ذبح معه ، فصام لكونه لم يكن معه ما يطعمه .

                                                                                                                                                                                                        ويوضح ذلك رواية مسلم في حديث عبد الله بن معقل المذكور حيث قال : " أتجد شاة؟ قلت : لا . فنزلت [ ص: 20 ] هذه الآية : ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فقال : صم ثلاثة أيام أو أطعم " . وفي رواية عطاء الخراساني قال : " صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين " قال : " وكان قد علم أنه ليس عندي ما أنسك به " . ونحوه في رواية محمد بن كعب القرظي ، عن كعب ، وسياق الآية يشعر بتقديم الصيام على غيره ، وليس ذلك لكونه أفضل في هذا المقام من غيره ، بل السر فيه أن الصحابة الذين خوطبوا شفاها بذلك كان أكثرهم يقدر على الصيام أكثر مما يقدر على الذبح والإطعام . وعرف من رواية أبي الزبير أن كعبا افتدى بالصيام .

                                                                                                                                                                                                        ووقع في رواية ابن إسحاق ما يشعر بأنه افتدى بالذبح ؛ لأن لفظه : " صم أو أطعم أو انسك شاة . قال : فحلقت رأسي ونسكت " . وروى الطبراني من طريق ضعيفة عن عطاء بن كعب في آخر هذا الحديث : " فقلت : يا رسول الله ، خر لي . قال : أطعم ستة مساكين " وسيأتي البحث فيه في الباب الأخير ، وفيه بقية مباحث هذا الحديث ، إن شاء الله تعالى .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية