الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 140 ] وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم

عطف على ما سبق من حكاية ترهاتهم عطف القصة على القصة وهو عود إلى إبطال شبه المشركين التي أشار إليها قوله تعالى : كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم ، وقوله تعالى : كبر على المشركين ما تدعوهم إليه ، وقد أشرنا إلى تفصيل ذلك فيما تقدم ، ويزيده وضوحا قوله عقبه وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا . وهذه الآية تبطل الشبهة الثانية فيما عددناه من شبهاتهم في كون القرآن وحيا من الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم إذ زعموا أن محمدا صلى الله عليه وسلم لو كان مرسلا من الله لكانت معه ملائكة تصدق قوله أو لأنزل عليه كتاب جاهز من السماء يشاهدون نزوله ، قال تعالى : وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا وقال : وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا إلى أن قال : ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه .

وإذ قد كان أهم غرض هذه السورة إثبات كون القرآن وحيا من الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم كما أوحي من قبله للرسل كان العود إلى ذلك من قبيل رد العجز على الصدر .

فبين الله للمكذبين أن سنة الله في خطاب رسله لا تعدو ثلاثة أنحاء من الخطاب ، منها ما جاء به القرآن فلم يكن ذلك بدعا مما جاءت به الرسل الأولون وما كان الله ليخاطب رسله على الأنحاء التي اقترحها المشركون على النبيء صلى الله عليه وسلم فجيء بصيغة حصر مفتتحة بصيغة الجحود المفيدة مبالغة النفي وهي وما كان لبشر أن يكلمه الله أي لم يتهيأ لأحد من الرسل أن يأتيه خطاب من الله بنوع من هذه الثلاثة .

ودل ذلك على انتفاء أن يكون إبلاغ مراد الله تعالى لأمم الرسل بغير أحد هذه [ ص: 141 ] الأنواع الثلاثة ؛ أعني خصوص نوع إرسال رسول ، بدلالة فحوى الخطاب فإنه إذا كان الرسل لا يخاطبهم الله إلا بأحد هذه الأنحاء الثلاثة فالأمم أولى بأن لا يخاطبوا بغير ذلك من نحو ما سأله المشركون من رؤية الله يخاطبهم ، أو مجيء الملائكة إليهم بل لا يتوجه إليهم خطاب الله إلا بواسطة رسول منهم يتلقى كلام الله بنحو من الأنحاء الثلاثة وهو مما يدخل في قوله : أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء فإن الرسول يكون ملكا وهو الذي يبلغ الوحي إلى الرسل والأنبياء .

وخطاب الله الرسل والأنبياء قد يكون لقصد إبلاغهم أمرا يصلحهم نحو قوله تعالى : يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا ، وقد يكون لإبلاغهم شرائع للأمم مثل معظم القرآن والتوراة ، أو إبلاغهم مواعظ لهم مثل الزبور ومجلة لقمان .

والاستثناء في قوله : إلا وحيا استثناء من عموم أنواع المتكلم التي دل عليها الفعل الواقع في سياق النفي وهو ما كان لبشر أن يكلمه الله .

فانتصاب وحيا على الصفة لمصدر محذوف دل عليه الاستثناء ، والتقدير : إلا كلاما وحيا أي موحى به كما تقول : لا أكلمه إلا جهرا ، أو إلا إخفاتا ، لأن الجهر والإخفات صفتان للكلام .

والمراد بالتكلم بلوغ مراد الله إلى النبيء سواء كان ذلك البلوغ بكلام يسمعه ولا يرى مصدره أو بكلام يبلغه إليه الملك عن الله تعالى ، أو بعلم يلقى في نفس النبيء يوقن بأنه مراد الله بعلم ضروري يجعله الله في نفسه .

وإطلاق الكلام على هذه الثلاثة الأنواع : بعضه حقيقة مثل ما يسمعه النبيء كما سمع موسى ، وبعضه مجاز قريب من الحقيقة وهو ما يبلغه إلى النبيء فإنه رسالة بكلام ، وبعضه مجاز محض وهو ما يلقى في قلب النبيء مع العلم ، فإطلاق فعل يكلمه على جميعها من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه على طريقة استعمال المشترك في معانيه .

وإسناد فعل يكلمه إلى الله إسناد مجازي عقلي .

وبهذا الاعتبار صار استثناء الكلام الموصوف بأنه وحي استثناء متصلا .

[ ص: 142 ] وأصل الوحي : الإشارة الخفية ، ومنه فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا . ويطلق على ما يجده المرء في نفسه دفعة كحصول معنى الكلام في نفس السامع قال عبيد بن الأبرص :


وأوحى إلي الله أن قد تـآمـروا بإبل أبي أوفى فقمت على رجل



وهذا الإطلاق هو المراد هنا بقرينة المقابلة بالنوعين الآخرين . ومن هنا أطلق الوحي على ما فطر الله عليه الحيوان من الإلهام المتقن الدقيق كقوله : وأوحى ربك إلى النحل . فالوحي بهذا المعنى نوع من أنواع إلقاء كلام الله إلى الأنبياء وهو النوع الأول في العد ، فأطلق الوحي على الكلام الذي يسمعه النبيء بكيفية غير معتادة وهذا الإطلاق من مصطلح القرآن وهو الغالب في إطلاقات الكتاب والسنة ومنه قول زيد بن ثابت فعلمت أنه يوحى إليه ثم سري عنه فقرأ غير أولي الضرر ، ولم يقل فنزل عليه جبريل .

والوحي بهذا المعنى غير الوحي الذي سيجيء في قوله : أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء . والمراد بالوحي هنا : إيقاع مراد الله في نفس النبيء يحصل له به العلم بأنه من عند الله فهو حجة للنبيء لمكان العلم الضروري ، وحجة للأمة لمكان العصمة من وسوسة الشيطان ، وقد يحصل لغير الأنبياء ولكنه غير مطرد ولا منضبط مع أنه واقع وقد قال النبيء صلى الله عليه وسلم قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدثون فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر بن الخطاب قال ابن وهب محدثون : ملهمون .

ومن هذا الوحي مرائي الأنبياء فإنها وحي ، وهي ليست بكلام يلقى إليهم ، ففي الحديث إني أريت دار هجرتكم وهي في حرة ذات نخل فوقع في وهلي أنها اليمامة أو هجر فإذا هي طابة .

وقد تشتمل الرؤيا على إلهام وكلام مثل حديث رأيت بقرا تذبح ورأيت والله خير ( . في رواية رفع اسم الجلالة ، أي رأيت هذه الكلمة ، وقد أول النبيء صلى الله عليه وسلم رؤياه البقر التي تذبح بما أصاب المسلمين يوم أحد ، وأما والله خير فهو ما أتى الله به بعد ذلك من الخير .

[ ص: 143 ] ومن الإلهام مرائي الصالحين فإنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوءة .

وليس الإلهام بحجة في الدين لأن غير المعصوم لا يوثق بصحة خواطره إذ ليس معصوما من وسوسة الشيطان . وبعض أهل التصوف وحكماء الإشراق يأخذون به في خاصتهم ويدعون أن أمارات تميز لهم بين صادق الخواطر وكاذبها ، ومنه قول قطب الدين الشيرازي في ديباجة شرحه على المفتاح : إني قد ألقي إلي على سبيل الإنذار من حضرة الملك الجبار بلسان الإلهام لا كوهم من الأوهام ، إلى أن قال ما أورثني التجافي عن دار الغرور . ومنه ما ورد في قول النبيء صلى الله عليه وسلم إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستوفي أجلها ورزقها على أحد تفسيرين فيه ، ولا ريب في أنه المراد هنا لأن ألفاظ هذا الحديث جرت على غير الألفاظ التي يحكى بها نزول الوحي بواسطة كلام جبريل عليه السلام .

والنوع الثاني : أن يكون الكلام من وراء حجاب يسمعه سامعه ولا يرى مصدره بأن يخلق الله كلاما في شيء محجوب عن سامعه وهو ما وصف الله هنا بقوله : أو من وراء حجاب .

والمعنى : أو محجوبا المخاطب بالفتح عن رؤية مصدر الكلام ، فالكلام كأنه من وراء حجاب ، وهذا مثل تكليم الله تعالى موسى في البقعة المباركة من الشجرة ، ويحصل علم المخاطب بأن ذلك الكلام من عند الله أول مرة بآية يريه الله إياها يعلم أنها لا تكون إلا بتسخير الله كما علم موسى ذلك بانقلاب عصاه حية ثم عودها إلى حالتها الأولى ، وبخروج يده من جيبه بيضاء ، كما قال تعالى : آية أخرى لنريك من آياتنا الكبرى اذهب إلى فرعون إنه طغى . ثم يصير بعد ذلك عادة يعرف بها كلام الله .

واختص بهذا النوع من الكلام في الرسل السابقين موسى عليه السلام وهو المراد من قوله تعالى : قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي وليس الوحي إلى موسى منحصرا في هذا النوع فإنه كان يوحى إليه الوحي الغالب لجميع الأنبياء والرسل وقد حصل هذا النوع من الكلام لمحمد صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء ، فقد جاء في حديث الإسراء : أن الله فرض عليه وعلى أمته [ ص: 144 ] خمسين صلاة ثم خفف الله منها حتى بلغت خمس صلوات وأنه سمع قوله تعالى أتممت فريضتي وخففت عن عبادي .

وأشارت إليه سورة النجم بقوله تعالى : فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى . والقول بأنه سمع كلام الله ليلة أسري به إلى السماء مروي عن علي ابن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس وجعفر بن محمد الصادق والأشعري والواسطي ، وهو الظاهر ؛ لأن فضل محمد صلى الله عليه وسلم على جميع المرسلين يستلزم أن يعطيه الله من أفضل ما أعطاه رسله عليهم السلام جميعا .

النوع الثالث : أن يرسل الله الملك إلى النبيء فيبلغ إليه كلاما يسمعه النبيء ويعيه ، وهذا هو غالب ما يوجه إلى الأنبياء من كلام الله تعالى ، قال تعالى في ذكر زكريا فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى ، وقال في إبراهيم وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا وهذا الكلام يأتي بكيفية وصفها النبيء صلى الله عليه وسلم للحارث ابن هشام وقد سأل رسول الله كيف يأتيك الوحي ؟ فقال : أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت عنه - أي عن جبريل - ما قال ، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول .

فالرسول في قوله تعالى : أو يرسل رسولا : هو الملك جبريل أو غيره ، وقوله : فيوحي بإذنه ما يشاء سمى هذا الكلام وحيا على مراعاة الإطلاق القرآني الغالب كما تقدم نحو قوله : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى وهو غير المراد من قوله : إلا وحيا بقرينة التقسيم والمقابلة .

ومن لطائف نسج هذه الآية ترتيب ما دل على تكليم الله الرسل بدلالات فجيء بالمصدر أولا في قوله : إلا وحيا وجيء بما يشبه الجملة ثانيا وهو قوله : من وراء حجاب ، وجيء بالجملة الفعلية ثالثا بقوله : أو يرسل رسولا .

وقرأ نافع أو يرسل برفع يرسل على الخبرية ، والتقدير : أو هو [ ص: 145 ] مرسل رسولا . وقرأ فيوحي بسكون الياء بعد كسرة الحاء .

وقرأ الباقون أو يرسل بنصب الفعل على تقدير ( أن ) محذوفة دل عليها العطف على المصدر فصار الفعل المعطوف في معنى المصدر ، فاحتاج إلى تقدير حرف السبك . وقرأوا فيوحي بفتحة على الياء عطفا على يرسل .

وماصدق ما يشاء كلام ، أي فيوحي كلاما يشاؤه الله فكانت هذه الجملة في معنى الصفة لـ ( كلاما ) المستثنى المحذوف ، والرابط هو ما يشاء لأنه في معنى : كلاما ، فهو كربط الجملة بإعادة لفظ ما هي له أو بمرادفه نحو الحاقة ما الحاقة . والتقدير : أو إلا كلاما موصوفا بأن الله يرسل رسولا فيوحي بإذنه كلاما يشاؤه فإن الإرسال نوع من الكلام المراد في هذه الآية .

والآية صريحة في أن هذه الأنواع الثلاثة أنواع لكلام الله الذي يخاطب به عباده . وذكر النوعين : الأول والثالث صريح في أن إضافة الكلام المنوع إليها إلى الله أو إسناده إليه حيثما وقع في ألفاظ الشريعة نحو قوله تعالى : حتى يسمع كلام الله وقوله : قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي وقوله : وكلم الله موسى تكليما يدل على أنه كلام له خصوصية هي أنه أوجده الله إيجادا بخرق العادة ليكون بذلك دليلا على أن مدلول ألفاظه مراد لله تعالى ومقصود له كما سمي الروح الذي تكون به عيسى روح الله لأنه تكون على سبيل خرق العادة ، فالله خلق الكلام الذي يدل على مراده خلقا غير جار على سنة الله في تكوين الكلام ليعلم الناس أن الله أراد إعلامهم بأنه أراد مدلولات ذلك الكلام بآية أنه خرق فيه عادة إيجاد الكلام فكان إيجادا غير متولد من علل وأسباب عادية فهو كإيجاد السماوات والأرض وإيجاد آدم في أنه غير متولد من علل وأسباب فطرية .

واعلم أن حقيقة الإلهية لا تقتضي لذاتها أن يكون الله متكلما كما تقتضي أنه واحد حي عالم قدير مريد ، ومن حاول جعل صفة الكلام من مقتضى الإلهية على تنظير الإله بالملك بناء على أن الملك يقتضي مخاطبة الرعايا بما يريد الملك منهم ، فقد جاء بحجة خطابية ، بل الحق أن الذي اقتضى إثبات كلام الله هو [ ص: 146 ] وضع الشرائع الإلهية ، أي تعلق إرادة الله بإرشاد الناس إلى اجتناب ما يخل باستقامة شئونهم بأمرهم ونهيهم وموعظتهم ووعدهم ووعيدهم ، من يوم نهى آدم عن الأكل من الشجرة وتوعده بالشقاء إن أكل منها ثم من إرسال الرسل إلى الناس وتبليغهم إياهم أمر الله ونهيه بوضع الشرائع وذلك من عهد نوح بلا شك أو من عهد آدم إن قلنا إن آدم بلغ أهله أمر الله ونهيه .

فتعين الإيمان بأن الله آمر وناه وواعد وموعد ، ومخبر بواسطة رسله وأنبيائه ، وأن مراده ذلك أبلغه إلى الأنبياء بكلام يلقى إليهم ويفهمونه وهو غير متعارف لهم قبل النبوءة وهو متفاوت الأنواع في مشابهة الكلام المتعارف .

ولما لم يرد في الكتاب والسنة وصف الله بأنه متكلم ولا إثبات صفة له تسمى الكلام ، ولم تقتض ذلك حقيقة الإلهية - ما كان ثمة داع إلى إثبات ذلك عند أهل التأويل من الخلف من أشعرية وماتريدية إذ قالوا : إن الله متكلم وإن له صفة تسمى الكلام وبخاصة المعتزلة إذ قالوا إنه متكلم ونفوا صفة الكلام . وأمر المعتزلة أعجب إذ أثبتوا الصفات المعنوية لأجل القواطع من آيات القرآن وأنكروا صفات المعاني تورعا وتخلصا من مشابهة القول بتعدد القدماء بلا داع ، وقد كان لهم في عدم إثبات صفة المتكلم مندوحة ؛ لانتفاء الداعي إلى إثباتها ، خلافا لما دعا إلى إثبات غيرها من الصفات المعنوية ، وقد حكى فخر الدين في تفسير هذه السورة إجماع الأمة على أن الله تعالى متكلم .

وقصارى ما ورد في القرآن إسناد فعل الكلام إلى الله أو إضافة مصدره إلى اسمه ، وذلك لا يوجب أن يشتق منه صفة لله تعالى ، فإنهم لم يقولوا لله صفة نافخ الأرواح لأجل قوله تعالى : ونفخت فيه من روحي ، فالذي حدا مثبتي صفة الكلام لله هو قوة تعلق هذا الوصف بصفة العلم فخصوا هذا التعلق باسم خاص وجعلوه صفة مستقلة مثل ما فعلوا في صفة السمع والبصر .

هذا ، واعلم أن مثبتي صفة الكلام قد اختلفوا في حقيقتها ، فذهب السلف إلى أنها صفة قديمة كسائر صفات الله . فإذا سئلوا عن الألفاظ التي هي الكلام : أقديمة هي أم حادثة ؟ قالوا : قديمة ، وتعجب منهم فخر الدين الرازي ونبزهم ولا [ ص: 147 ] أحسبهم إلا أنهم تحاشوا عن التصريح بأنها حادثة لئلا يؤدي ذلك دهماء الأمة إلى اعتقاد حدوث صفات الله ، أو يؤدي إلى إبطال أن القرآن كلام الله ، لأن تبيان حقيقة معنى الإضافة في قولهم : كلام الله ، دقيق جدا يحتاج مدركه إلى شحذ ذهنه بقواعد العلوم ، والعامة على بون من ذلك .

واشتهر من أهل هذه الطريقة أحمد بن حنبل رحمه الله زمن فتنة خلق القرآن . وكان فقهاء المالكية في زمن العبيديين ملتزمين هذه الطريقة . وقال الشيخ أبو محمد ابن أبي زيد في الرسالة وإن القرآن كلام الله ليس بمخلوق فيبيد ولا صفة لمخلوق فينفد . وقد نقشوا على إسطوانة من أساطين الجامع بمدينة سوسة هذه العبارة : القرآن كلام الله وليس بمخلوق . وهي ماثلة إلى الآن .

قال فخر الدين : واتفق أني قلت يوما لبعض الحنابلة : لو تكلم الله بهذه الحروف ; إما أن يتكلم بها دفعة واحدة أو على التعاقب ، والأول باطل لأن التكلم بها دفعة واحدة لا يفيد هذا النظم المركب على التعاقب والتوالي ، والثاني باطل لأنه لو تكلم الله بها على التوالي كانت محدثة . فلما سمع مني هذا الكلام قال : الواجب علينا أن نقر ونمر . يعني نقر بأن القرآن قديم ونمر على هذا الكلام على وفق ما سمعناه . قال : فتعجبت من سلامة قلب ذلك القائل .

ومن الغريب جدا ما يعزى إلى محمد بن كرام وأصحابه الكرامية من القول بأن كلام الله حروف وأصوات قائمة بذاته تعالى ، وقالوا : لا يلزم أن كل صفة لله قديمة ، ونسب مثل هذا إلى الحشوية ، وأما المعتزلة فأثبتوا لله أنه متكلم ومنعوا أن تكون له صفة تسمى الكلام ، والذي دعاهم إلى ذلك هو الجمع بين ما شاع في القرآن والسنة وعند السلف من إسناد الكلام إلى الله وإضافته إليه وقالوا : إن اشتقاق الوصف لا يستلزم قيام المصدر بالموصوف ، وتلك طريقتهم في صفات المعاني كلها ، وزادوا فقالوا : معنى كونه متكلما أنه خالق الكلام .

وأما الأشعري وأصحابه فلم يختلفوا في أن الكلام الذي نقول : إنه كلام الله المركب من حروف وأصوات ، المتلو بألسنتنا ، المكتوب في مصاحفنا - إنه حادث وليس هو صفة الله تعالى وإنما صفة الله مدلول ذلك الكلام المركب من الحروف [ ص: 148 ] والأصوات من المعاني من أمر ونهي ووعد ووعيد . وتقريب ذلك عندي أن الكلام الحادث الذي خلقه الله دال على مراد الله تعالى وأن مراد الله صفة لله .

قال أبو بكر الباقلاني عن الشيخ : إن كلام الله الأزلي مقروء بألسنتنا ، محفوظ في قلوبنا ، مسموع بآذاننا ، مكتوب في مصاحفنا غير حال في شيء من ذلك ، كما أن الله معلوم بقلوبنا مذكور بألسنتنا معبود في محاريبنا وهو غير حال في شيء من ذلك . والقراءة والقارئ مخلوقان ، كما أن العلم والمعرفة مخلوقان ، والمعلوم والمعروف قديمان اهـ . يعني أن الألفاظ المقروءة والمكتوبة دوال وهي مخلوقة والمدلول وهو كون الله مريدا لمدلولات تلك التراكيب هو وصف الله تعالى ليصح أن الله أراد من الناس العمل بالمدلولات التي دلت عليها تلك التراكيب . وقد اصطلح الأشعري على تسمية ذلك المدلول كلاما نفسيا وهو إرادة المعاني التي دل عليها الكلام اللفظي ، وقد استأنس لذلك بقول الأخطل :


إن الكلام لفي الفؤاد وإنـمـا     جعل اللسان على الفؤاد دليلا



وأما أبو منصور الماتريدي فنقل الفخر عنه كلاما مزيجا من كلام الأشعري وكلام المعتزلة ، والبعض نقل عنه مثل قول السلف . وسبب اختلاف النقل عنه هو أن الماتريدي تابع في أصول الدين أبا حنيفة . وقد اضطرب أتباعه في فهم عبارته الواقعة في العقيدة المنسوبة إليه المسماة : الفقه الأكبر ( إن صح عزوها إليه ) إذ كانت عبارة يلوح عليها التضارب ولعله مقصود . وتأويلها بما يوافق كلام الأشعري هو التحقيق .

وتحقيق هذا المقام بوجه واضح قريب أن نقول : إن ثبوت صفة الكلام لله هو مثل ثبوت صفة الإرادة وصفة القدرة له تعالى ، في الأزل وهو أشبه باتصافه بالإرادة فكما أن معنى ثبوت صفة الإرادة لله أنه تعالى متى تعلق علمه بإيجاد شيء لم يكن موجودا ، أو بإعدام شيء كان موجودا - أنه لا يحول دون تنفيذ ما تعلق علمه يإيجاده أو إعدامه حائل ولا يمنعه منه مانع ، ومتى تعلق علمه بإبقاء المعدوم في حالة العدم أو الموجود في حالة الوجود ، لا يكرهه على ضد ذلك مكره . فكذلك ثبوت الكلام لله معناه أنه كلما تعلق علمه بأن يأمر أو ينهى أحدا لم يحل [ ص: 149 ] حائل دون إيجاد ما يبلغ مراده إلى المأمورين أو المنهيين ، وكلما تعلق علمه بأن يترك توجيه أمر أو نهي إلى الناس لم يكرهه مكره على أن يأمرهم أو ينهاهم .

وكما أن للإرادة تعلقا صلاحيا أزليا وتعلقا تنجيزيا حادثا حين تتوجه الإرادة إلى إيجاد بواسطة القدرة . كذلك نجد لكلام الله تعلقا صلاحيا أزليا وتعلقا تنجيزيا حين اقتضاء علم الله توجيه أمره أو نهيه أو نحوهما إلى بعض عباده .

فالكلام الذي ينطق به الرسول وينسبه إلى الله تعالى هو حادث وهو أثر التعلق التنجيزي الحادث ، والكلام الذي نعتقد أن الله أراده وأراد من الناس العمل به هو الصفة الأزلية القديمة ولها التعلق الصلاحي القديم . وفي الرسالة الخاقانية للعلامة عبد الحكيم السلكوتي نقل عن بعض العلماء بأن لكلام الله تعلقا تنجيزيا حادثا ، وهذا من التحقيق بمكان .

والتحقيق : أن ذلك الكلام الأزلي يتنوع إلى أنواع المدلولات من أمر ونهي وخبر ووعد ووعيد ونحو ذلك .

وخلاصة معنى الآية أن الله قد يخلق في نفس جبريل أو غيره من الملائكة علما بمراد الله على كيفية لا نعلمها ، وعلما بأن الله سخره إبلاغ مراده إلى النبي ، والملك يبلغ إلى النبيء ما أمر بتبليغه للآمر التسخيري ، بألفاظ معينة ألقاها الله في نفس الملك مثل ألفاظ القرآن ، أو بألفاظ من صنعة الملك كالتي حكى الله عن زكريا بقوله : فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى .

أو يخلق في سمع النبيء كلاما يعلم علم اليقين أنه غير صادر إليه من متكلم ، فيوقن أنه من عند الله بدلالة المعجزة أول مرة وبدلالة تعوده بعد ذلك . وهذا مثل الكلام الذي كلم الله به موسى ألا ترى إلى قوله تعالى : أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين وأن ألق عصاك الآية ، فقرن خطابه الخارق للعادة بالمعجزة الخارقة للعادة ليوقن موسى أن ذلك كلام من عند الله .

أو يخلق في نفس النبيء علما قطعيا بأن الله أراد منه كذا كما يخلق في نفس الملك في الحالة المذكورة أولا .

[ ص: 150 ] فعلى هذه الكيفيات يأتي الوحي للأنبياء ويختص القرآن بمزية أن الله تعالى يخلق كلاما يعيه الملك ويؤمر بإبلاغه بنصه دون تغيير إلى محمد صلى الله عليه وسلم .

والقول في موقع جملة إنه علي حكيم كالقول في جملة إنه عليم قدير السابقة ، وإنما أوثر هنا صفة العلي الحكيم لمناسبتهما للغرض لأن العلو في صفة العلي علو عظمة فائقة لا تناسبها النفوس البشرية التي لم تحظ من جانب القدس بالتصفية فما كان لها أن تتلقى من الله مراده مباشرة فاقتضى علوه أن يكون توجيه خطابه إلى البشر بوسائط يفضي بعضها إلى بعض لأن ذلك كما يقول الحكماء : استفادة القابل من المبدأ تتوقف عن المناسبة بينهما .

وأما وصف الحكيم فلأن معناه المتقن للصنع العالم بدقائقه وما خطابه البشر إلا لحكمة إصلاحهم ونظام عالمهم ، وما وقوعه على تلك الكيفيات الثلاث إلا من أثر الحكمة لتيسير تلقي خطابه ووعيه دون اختلال فيه ولا خروج عن طاقة المتلقين .

وانظر ما تقدم عند قوله تعالى : ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه في سورة الأعراف ، وعند قوله : فأجره حتى يسمع كلام الله في سورة " براءة " .

التالي السابق


الخدمات العلمية