الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        1771 حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن علي رضي الله عنه قال ما عندنا شيء إلا كتاب الله وهذه الصحيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم المدينة حرم ما بين عائر إلى كذا من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل وقال ذمة المسلمين واحدة فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل ومن تولى قوما بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل قال أبو عبد الله عدل فداء [ ص: 102 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 102 ] الحديث الرابع قوله : ( حدثنا عبد الرحمن ) هو ابن مهدي ، وسفيان هو الثوري .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن أبيه ) هو يزيد بن شريك بن طارق التيمي ، وفي الإسناد ثلاثة من التابعين ، كوفيون في نسق ، وهذه رواية أكثر أصحاب الأعمش عنه ، وخالفهم شعبة فرواه عن الأعمش ، عن إبراهيم التيمي عن الحارث بن سويد عن علي ، أخرجه أحمد والنسائي . قال الدارقطني في " العلل " والصواب رواية الثوري ومن تبعه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ما عندنا شيء ) أي : مكتوب ، وإلا فكان عندهم أشياء من السنة سوى الكتاب ، أو المنفي شيء اختصوا به عن الناس . وسبب قول علي هذا يظهر مما أخرجه أحمد من طريق قتادة عن أبي حسان الأعرج : " أن عليا كان يأمر بالأمر فيقال له : قد فعلناه . فيقول : صدق الله ورسوله . فقال له الأشتر : إن هذا الذي تقول أهو شيء عهده إليك رسول الله ، صلى الله عليه وسلم؟ قال : ما عهد إلي شيئا خاصة دون الناس ، إلا شيئا سمعته منه فهو في صحيفة في قراب سيفي ، فلم يزالوا به حتى أخرج الصحيفة ، فإذا فيها " فذكر الحديث وزاد فيه : " المؤمنون تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يد على من سواهم . ألا لا يقتل مؤمن بكافر ، ولا ذو عهد في عهده " وقال فيه : " إن إبراهيم حرم مكة ، وإني أحرم ما بين حرتيها وحماها كله ، لا يختلى خلاها ، ولا ينفر صيدها ، ولا تلتقط لقطتها ، ولا يقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره ، ولا يحمل فيها السلاح لقتال والباقي نحوه .

                                                                                                                                                                                                        وأخرجه الدارقطني من وجه آخر عن قتادة عن أبي حسان عن الأشتر عن علي ، ولأحمد وأبي داود والنسائي من طريق سعيد بن أبي عروبة : " عن قتادة عن الحسن عن قيس بن عباد قال : انطلقت أنا والأشتر إلى علي فقلنا : هل عهد إليك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا لم يعهده إلى الناس عامة؟ قال : لا ، إلا ما في كتابي هذا . قال : وكتاب في قراب سيفه ، فإذا فيه : المؤمنون تتكافأ دماؤهم " فذكر مثل ما تقدم إلى قوله في عهده : " من أحدث حدثا ، إلى قوله : أجمعين " ولم يذكر بقية الحديث . ولمسلم من طريق أبي الطفيل : " كنت عند علي فأتاه رجل فقال : ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسر إليك؟ فغضب ، ثم قال : ما كان يسر إلي شيئا يكتمه عن الناس ، غير أنه حدثني بكلمات أربع " وفي رواية له " ما خصنا بشيء لم يعم به الناس كافة إلا ما كان في قراب سيفي هذا ، فأخرج صحيفة مكتوبا فيها : لعن الله من ذبح لغير الله ، ولعن الله من سرق منار الأرض ، ولعن الله من لعن والده ، ولعن الله من آوى محدثا " وقد تقدم في كتاب العلم من طريق أبي جحيفة " قلت لعلي : هل عندكم كتاب؟ قال : لا ، إلا كتاب الله ، أو فهم أعطيه رجل مسلم ، أو ما في هذه الصحيفة . قال : قلت : وما في هذه الصحيفة؟ قال : العقل ، وفكاك الأسير ، ولا يقتل مسلم بكافر " والجمع بين هذه الأخبار أن الصحيفة المذكورة كانت مشتملة على مجموع ما ذكر ، فنقل كل راو بعضها ، وأتمها سياقا طريق أبي حسان كما ترى ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( المدينة حرم ) كذا أورده مختصرا ، وسيأتي في الجزية بزيادة في أوله قال فيها " الجراحات وأسنان الإبل "

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( من أحدث فيها حدثا ) يقيد به مطلق ما تقدم في رواية قيس بن عباد ، وأن ذلك يختص بالمدينة لفضلها وشرفها .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 103 ] قوله : ( لا يقبل منه صرف ولا عدل ) بفتح أولهما ، واختلف في تفسيرهما فعند الجمهور الصرف الفريضة والعدل النافلة ، ورواه ابن خزيمة بإسناد صحيح عن الثوري ، وعن الحسن البصري بالعكس ، وعن الأصمعي الصرف التوبة والعدل الفدية ، وعن يونس مثله ، لكن قال : الصرف الاكتساب ، وعن أبي عبيدة مثله لكن قال : العدل الحيلة ، وقيل : المثل ، وقيل : الصرف الدية والعدل الزيادة عليها ، وقيل : بالعكس ، وحكى صاحب " المحكم " الصرف الوزن والعدل الكيل ، وقيل : الصرف القيمة والعدل الاستقامة ، وقيل : الصرف الدية والعدل البديل ، وقيل : الصرف الشفاعة ، والعدل الفدية ؛ لأنها تعادل الدية ، وبهذا الأخير جزم البيضاوي ، وقيل : الصرف الرشوة والعدل الكفيل ، قاله أبان بن ثعلب وأنشد :


                                                                                                                                                                                                        لا نقبل الصرف وهاتوا عدلا



                                                                                                                                                                                                        فحصلنا على أكثر من عشرة أقوال ، وقد وقع في آخر الحديث في رواية المستملي " قال أبو عبد الله : عدل فداء " وهذا موافق لتفسير الأصمعي ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قال عياض : معناه لا يقبل قبول رضا ، وإن قبل قبول جزاء ، وقيل : يكون القبول هنا بمعنى تكفير الذنب بهما ، وقد يكون معنى الفدية أنه لا يجد يوم القيامة فدى يفتدي به بخلاف غيره من المذنبين بأن يفديه من النار بيهودي أو نصراني كما رواه مسلم من حديث أبي موسى الأشعري . وفي الحديث رد لما تدعيه الشيعة بأنه كان عند علي وآل بيته من النبي - صلى الله عليه وسلم - أمور كثيرة أعلمه بها سرا تشتمل على كثير من قواعد الدين وأمور الإمارة . وفيه جواز كتابة العلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ذمة المسلمين واحدة ) أي : أمانهم صحيح فإذا أمن الكافر واحد منهم حرم على غيره التعرض له . وللأمان شروط معروفة . وقال البيضاوي : الذمة العهد ، سمي بها ؛ لأنه يذم متعاطيها على إضاعتها . وقوله : يسعى بها [1] أي : يتولاها ويذهب ويجيء ، والمعنى أن ذمة المسلمين سواء صدرت من واحد أو أكثر ، شريف أو وضيع ، فإذا أمن أحد من المسلمين كافرا وأعطاه ذمة لم يكن لأحد نقضه ، فيستوي في ذلك الرجل والمرأة والحر والعبد ؛ لأن المسلمين كنفس واحدة ، وسيأتي البحث في ذلك في كتاب الجزية والموادعة . وقوله : " فمن أخفر " - بالخاء المعجمة والفاء - أي : نقض العهد ، يقال خفرته بغير ألف : أمنته ، وأخفرته : نقضت عهده .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ومن يتولى قوما بغير إذن مواليه ) لم يجعل الإذن شرطا لجواز الادعاء ، وإنما هو لتأكيد التحريم ؛ لأنه إذا استأذنهم في ذلك منعوه وحالوا بينه وبين ذلك ، قاله الخطابي وغيره ، ويحتمل أن يكون كنى بذلك عن بيعه ، فإذا وقع بيعه جاز له الانتماء إلى مولاه الثاني وهو غير مولاه الأول ، أو المراد موالاة الحلف فإذا أراد الانتقال عنه لا ينتقل إلا بإذن . وقال البيضاوي : الظاهر أنه أراد به ولاء العتق لعطفه على قوله : " من ادعى إلى غير أبيه " والجمع بينهما بالوعيد ، فإن العتق من حيث إنه لحمة كلحمة النسب ، فإذا نسب إلى غير من هو له كان كالدعي الذي تبرأ عمن هو منه وألحق نفسه بغيره فيستحق به الدعاء عليه بالطرد والإبعاد عن الرحمة . ثم أجاب عن الإذن بنحو ما تقدم ، وقال : ليس هو للتقييد ، وإنما هو للتنبيه [ ص: 104 ] على ما هو المانع ، وهو إبطال حق مواليه . فأورد الكلام على ما هو الغالب . وسيأتي البحث في ذلك في كتب الفرائض ، إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                        ( تنبيه ) : رتب المصنف أحاديث الباب ترتيبا حسنا ، ففي حديث أنس التصريح بكون المدينة حرما ، وفي حديثه الثاني تخصيص النهي عن قطع الشجر بما لا ينبته الآدميون ، وفي حديث أبي هريرة بيان ما أجمل من حد حرمها في حديث أنس حيث قال : " كذا وكذا " ، فبين في هذا أنه ما بين الحرتين ، وفي حديث علي زيادة تأكيد التحريم وبيان حد الحرم أيضا .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية