ويسكت السياق بعد وعد الله وتهديده . . ليمضي إلى القضية الأساسية . . قضية الألوهية والربوبية . . وهي القضية الواضحة في الدرس كله . . فلنعد إلى المشهد العظيم فهو ما يزال معروضا على أنظار العالمين . لنعد إليه فنسمع استجوابا مباشرا في هذه المرة في مسألة الألوهية المدعاة
لعيسى بن مريم وأمه . استجوابا يوجه إلى
عيسى - عليه السلام - في مواجهة الذين عبدوه . ليسمعوه وهو يتبرأ إلى ربه في دهش وفزع من هذه الكبيرة التي افتروها عليه وهو منها بريء :
nindex.php?page=treesubj&link=28976_28723_30175_31989_31998_33143_34091nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=116وإذ قال الله: يا عيسى ابن مريم، أأنت قلت للناس: اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟ قال: سبحانك: ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق. إن كنت قلته فقد علمته، تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك، إنك أنت علام الغيوب nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=117ما قلت لهم إلا ما أمرتني به: أن اعبدوا الله ربي وربكم، وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم، وأنت على كل شيء شهيد nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=118إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن [ ص: 1001 ] تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم . .
وإن الله - سبحانه - ليعلم ماذا قال
عيسى للناس . ولكنه الاستجواب الهائل الرهيب في اليوم العظيم المرهوب : الاستجواب الذي يقصد به إلى غير المسؤول ; ولكن في صورته هذه وفي الإجابة عليه ما يزيد من بشاعة موقف المؤلهين لهذا العبد الصالح الكريم . .
إنها الكبيرة التي لا يطيق بشر عادي أن يقذف بها . . أن يدعي الألوهية وهو يعلم أنه عبد . . فكيف برسول من أولي العزم ؟ كيف
بعيسى بن مريم ; وقد أسلف الله له هذه النعم كلها بعد ما اصطفاه بالرسالة وقبل ما اصطفاه ؟ كيف به يواجه استجوابا عن ادعاء الألوهية ، وهو العبد الصالح المستقيم ؟
من أجل ذلك كان الجواب الواجف الراجف الخاشع المنيب . . يبدأ بالتسبيح والتنزيه :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=116قال: سبحانك! .
ويسرع إلى التبرؤ المطلق من أن يكون من شأنه هذا القول أصلا :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=116ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق .
ويستشهد بذات الله سبحانه على براءته ; مع التصاغر أمام الله وبيان خصائص عبوديته وخصائص ألوهية ربه :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=116إن كنت قلته فقد علمته، تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك. إنك أنت علام الغيوب . .
وعندئذ فقط ، وبعد هذه التسبيحة الطويلة يجرؤ على الإثبات والتقرير فيما قاله وفيما لم يقله ، فيثبت أنه لم يقل لهم إلا أن يعلن عبوديته وعبوديتهم لله ويدعوهم إلى عبادته :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=117ما قلت لهم إلا ما أمرتني به: أن اعبدوا الله ربي وربكم .
ثم يخلي يده منهم بعد وفاته . . وظاهر النصوص القرآنية يفيد أن الله - سبحانه - قد توفى
عيسى بن مريم ثم رفعه إليه . وبعض الآثار تفيد أنه حي عند الله . وليس هنالك - فيما أرى - أي تعارض يثير أي استشكال بين أن يكون الله قد توفاه من حياة الأرض ، وأن يكون حيا عنده . فالشهداء كذلك يموتون في الأرض وهم أحياء عند الله . أما صورة حياتهم عنده فنحن لا ندري لها كيفا . وكذلك صورة حياة
عيسى - عليه السلام - وهو هنا يقول لربه : إنني لا أدري ماذا كان منهم بعد وفاتي :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=117وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد . .
وينتهي إلى التفويض المطلق في أمرهم ; مع تقرير عبوديتهم لله وحده . وتقرير قوة الله على المغفرة لهم أو عذابهم ; وحكمته فيما يقسم لهم من جزاء سواء كان هو المغفرة أو العذاب :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=118إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم . .
فيا لله للعبد الصالح في موقفه الرهيب !
وأين أولئك الذين أطلقوا هذه الفرية الكبيرة التي يتبرأ منها العبد الطاهر البريء ذلك التبرؤ الواجف ، ويبتهل من أجلها إلى ربه هذا الابتهال المنيب ؟
أين هم في هذا الموقف ، في هذا المشهد ؟ . . إن السياق لا يلقي إليهم التفاتة واحدة . فلعلهم يتذاوبون خزيا وندما . فلندعهم حيث تركهم السياق ! لنشهد ختام المشهد العجيب .
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=119قال الله: هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم. لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا، رضي [ ص: 1002 ] الله عنهم ورضوا عنه، ذلك الفوز العظيم
. . هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم . . إنه التعقيب المناسب على كذب الكاذبين ; الذين أطلقوا تلك الفرية الضخمة على ذلك النبي الكريم . في أعظم القضايا كافة . . قضية الألوهية والعبودية ، التي يقوم على أساس الحق فيها هذا الوجود كله وما فيه ومن فيه . .
. . هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم . . إنها كلمة رب العالمين ، في ختام الاستجواب الهائل على مشهد من العالمين . . وهي الكلمة الأخيرة في المشهد . وهي الكلمة الحاسمة في القضية . ومعها ذلك الجزاء الذي يليق بالصدق والصادقين :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=119لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ..
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=119خالدين فيها أبدا ..
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=119رضي الله عنهم ..
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=119ورضوا عنه . .
درجات بعد درجات . . الجنات والخلود ورضا الله ورضاهم بما لقوا من ربهم من التكريم :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=119ذلك الفوز العظيم . .
ولقد شهدنا المشهد - من خلال العرض القرآني له بطريقة القرآن الفريدة - وسمعنا الكلمة الأخيرة . . شهدنا وسمعنا لأن طريقة التصوير القرآنية لم تدعه وعدا يوعد ، ولا مستقبلا ينتظر ; ولم تدعه عبارات تسمعها الآذان أو تقرؤها العيون . إنما حركت به المشاعر ، وجسمته واقعا اللحظة تسمعه الآذان وتراه العيون . .
على أنه إن كان بالقياس إلينا - نحن البشر المحجوبين - مستقبلا ننتظره يوم الدين ، فهو بالقياس إلى علم الله المطلق ، واقع حاضر . فالزمن وحجابه إنما هما من تصوراتنا نحن البشر الفانين . .
وفي نهاية هذا الدرس ; وفي مواجهة الفرية الكبرى التي لم يفتر أضخم منها قط أتباع رسول ! في مواجهة الفرية الكبرى التي أطلقها أتباع
المسيح عيسى بن مريم - عليه السلام - فرية ألوهيته ; الفرية التي تبرأ منها هذا التبرؤ ، وفوض ربه في أمر قومه بشأنها هذا التفويض . .
في مواجهة هذه الفرية ، وفي نهاية الدرس الذي عرض ذلك الاستجواب الرهيب عنها ، في ذلك المشهد العظيم . . يجيء الإيقاع الأخير في السورة يعلن تفرد الله - سبحانه - بملك السماوات والأرض وما فيهن ; وقدرته - سبحانه - على كل شيء بلا حدود :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=120لله ملك السماوات والأرض وما فيهن، وهو على كل شيء قدير . .
ختام يتناسق مع تلك القضية الكبرى التي أطلقت حولها تلك الفرية الضخمة ، ومع ذلك المشهد العظيم الذي يتفرد الله فيه بالعلم ، ويتفرد بالألوهية ، ويتفرد بالقدرة ، وينيب إليه الرسل ; ويفوضون إليه الأمر كله ; ويفوض فيه
عيسى بن مريم أمره وأمر قومه إلى العزيز الحكيم . الذي له ملك السماوات والأرض وما فيهن ، وهو على كل شيء قدير . .
وختام يتناسق مع السورة التي تتحدث عن "الدين " وتعرضه ممثلا في اتباع شريعة الله وحده ، والتلقي منه وحده ، والحكم بما أنزله دون سواه . . إنه المالك الذي له ملك السماوات والأرض وما فيهن ، والمالك هو
[ ص: 1003 ] الذي يحكم :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=44ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون . .
إنها قضية واحدة . . قضية الألوهية . . قضية التوحيد . . وقضية الحكم بما أنزل الله . . لتتوحد الألوهية ، ويتحقق التوحيد ..
وَيَسْكُتُ السِّيَاقُ بَعْدَ وَعْدِ اللَّهِ وَتَهْدِيدِهِ . . لِيَمْضِيَ إِلَى الْقَضِيَّةِ الْأَسَاسِيَّةِ . . قَضِيَّةِ الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ . . وَهِيَ الْقَضِيَّةُ الْوَاضِحَةُ فِي الدَّرْسِ كُلِّهِ . . فَلْنَعُدْ إِلَى الْمَشْهَدِ الْعَظِيمِ فَهُوَ مَا يَزَالُ مَعْرُوضًا عَلَى أَنْظَارِ الْعَالَمِينَ . لِنَعُدْ إِلَيْهِ فَنَسْمَعِ اسْتِجْوَابًا مُبَاشِرًا فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ فِي مَسْأَلَةِ الْأُلُوهِيَّةِ الْمُدْعَاةِ
لِعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ وَأُمِّهِ . اسْتِجْوَابًا يُوَجَّهُ إِلَى
عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي مُوَاجَهَةِ الَّذِينَ عَبَدُوهُ . لِيَسْمَعُوهُ وَهُوَ يَتَبَرَّأُ إِلَى رَبِّهِ فِي دَهْشٍ وَفَزَعٍ مِنْ هَذِهِ الْكَبِيرَةِ الَّتِي افْتَرَوْهَا عَلَيْهِ وَهُوَ مِنْهَا بَرِيءٌ :
nindex.php?page=treesubj&link=28976_28723_30175_31989_31998_33143_34091nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=116وَإِذْ قَالَ اللَّهُ: يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ: اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهُ؟ قَالَ: سُبْحَانَكَ: مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ. إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ، تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ، إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=117مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ، وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ، فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=118إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ، وَإِنْ [ ص: 1001 ] تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . .
وَإِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - لَيَعْلَمُ مَاذَا قَالَ
عِيسَى لِلنَّاسِ . وَلَكِنَّهُ الِاسْتِجْوَابُ الْهَائِلُ الرَّهِيبُ فِي الْيَوْمِ الْعَظِيمِ الْمَرْهُوبِ : الِاسْتِجْوَابُ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ إِلَى غَيْرِ الْمَسْؤُولِ ; وَلَكِنْ فِي صُورَتِهِ هَذِهِ وَفِي الْإِجَابَةِ عَلَيْهِ مَا يَزِيدُ مِنْ بَشَاعَةِ مَوْقِفِ الْمُؤَلَّهِينَ لِهَذَا الْعَبْدِ الصَّالِحِ الْكَرِيمِ . .
إِنَّهَا الْكَبِيرَةُ الَّتِي لَا يُطِيقُ بَشَرٌ عَادِيٌّ أَنْ يَقْذِفَ بِهَا . . أَنْ يَدَّعِيَ الْأُلُوهِيَّةَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ عَبْدٌ . . فَكَيْفَ بِرَسُولٍ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ ؟ كَيْفَ
بِعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ ; وَقَدْ أَسْلَفَ اللَّهُ لَهُ هَذِهِ النِّعَمَ كُلَّهَا بَعْدَ مَا اصْطَفَاهُ بِالرِّسَالَةِ وَقَبْلَ مَا اصْطَفَاهُ ؟ كَيْفَ بِهِ يُوَاجِهُ اسْتِجْوَابًا عَنِ ادِّعَاءِ الْأُلُوهِيَّةِ ، وَهُوَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ الْمُسْتَقِيمُ ؟
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ الْجَوَابُ الْوَاجِفُ الرَّاجِفُ الْخَاشِعُ الْمُنِيبُ . . يَبْدَأُ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّنْزِيهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=116قَالَ: سُبْحَانَكَ! .
وَيُسْرِعُ إِلَى التَّبَرُّؤِ الْمُطْلَقِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَأْنِهِ هَذَا الْقَوْلُ أَصْلًا :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=116مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ .
وَيَسْتَشْهِدُ بِذَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى بَرَاءَتِهِ ; مَعَ التَّصَاغُرِ أَمَامَ اللَّهِ وَبَيَانِ خَصَائِصِ عُبُودِيَّتِهِ وَخَصَائِصِ أُلُوهِيَّةِ رَبِّهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=116إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ، تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ. إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ . .
وَعِنْدَئِذٍ فَقَطْ ، وَبَعْدَ هَذِهِ التَّسْبِيحَةِ الطَّوِيلَةِ يَجْرُؤُ عَلَى الْإِثْبَاتِ وَالتَّقْرِيرِ فِيمَا قَالَهُ وَفِيمَا لَمْ يَقُلْهُ ، فَيُثْبِتُ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ لَهُمْ إِلَّا أَنْ يُعْلِنَ عُبُودِيَّتَهُ وَعُبُودِيَّتَهُمْ لِلَّهِ وَيَدْعُوَهُمْ إِلَى عِبَادَتِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=117مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ .
ثُمَّ يُخَلِّي يَدَهُ مِنْهُمْ بَعْدَ وَفَاتِهِ . . وَظَاهِرُ النُّصُوصِ الْقُرْآنِيَّةِ يُفِيدُ أَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - قَدْ تَوَفَّى
عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ ثُمَّ رَفَعَهُ إِلَيْهِ . وَبَعْضُ الْآثَارِ تُفِيدُ أَنَّهُ حَيٌّ عِنْدَ اللَّهِ . وَلَيْسَ هُنَالِكَ - فِيمَا أَرَى - أَيُّ تَعَارُضٍ يُثِيرُ أَيَّ اسْتِشْكَالٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ تَوَفَّاهُ مِنْ حَيَاةِ الْأَرْضِ ، وَأَنْ يَكُونَ حَيًّا عِنْدَهُ . فَالشُّهَدَاءُ كَذَلِكَ يَمُوتُونَ فِي الْأَرْضِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ اللَّهِ . أَمَّا صُورَةُ حَيَاتِهِمْ عِنْدَهُ فَنَحْنُ لَا نَدْرِي لَهَا كَيْفًا . وَكَذَلِكَ صُورَةُ حَيَاةِ
عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهُوَ هُنَا يَقُولُ لِرَبِّهِ : إِنَّنِي لَا أَدْرِي مَاذَا كَانَ مِنْهُمْ بَعْدَ وَفَاتِي :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=117وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ، فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ . .
وَيَنْتَهِي إِلَى التَّفْوِيضِ الْمُطْلَقِ فِي أَمْرِهِمْ ; مَعَ تَقْرِيرِ عُبُودِيَّتِهِمْ لِلَّهِ وَحْدَهُ . وَتَقْرِيرِ قُوَّةِ اللَّهِ عَلَى الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ أَوْ عَذَابِهِمْ ; وَحِكْمَتِهِ فِيمَا يَقْسِمُ لَهُمْ مِنْ جَزَاءٍ سَوَاءً كَانَ هُوَ الْمَغْفِرَةَ أَوِ الْعَذَابَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=118إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . .
فَيَا لِلَّهِ لِلْعَبْدِ الصَّالِحِ فِي مَوْقِفِهِ الرَّهِيبِ !
وَأَيْنَ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَطْلَقُوا هَذِهِ الْفِرْيَةَ الْكَبِيرَةَ الَّتِي يَتَبَرَّأُ مِنْهَا الْعَبْدُ الطَّاهِرُ الْبَرِيءُ ذَلِكَ التَّبَرُّؤَ الْوَاجِفَ ، وَيَبْتَهِلُ مِنْ أَجْلِهَا إِلَى رَبِّهِ هَذَا الِابْتِهَالَ الْمُنِيبَ ؟
أَيْنَ هُمْ فِي هَذَا الْمَوْقِفِ ، فِي هَذَا الْمَشْهَدِ ؟ . . إِنَّ السِّيَاقَ لَا يُلْقِي إِلَيْهِمُ الْتِفَاتَةً وَاحِدَةً . فَلَعَلَّهُمْ يَتَذَاوَبُونَ خِزْيًا وَنَدَمًا . فَلْنَدْعْهُمْ حَيْثُ تَرَكَهُمُ السِّيَاقُ ! لِنَشْهَدَ خِتَامَ الْمَشْهَدِ الْعَجِيبِ .
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=119قَالَ اللَّهُ: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ. لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا، رَضِيَ [ ص: 1002 ] اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
. . هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ . . إِنَّهُ التَّعْقِيبُ الْمُنَاسِبُ عَلَى كَذِبِ الْكَاذِبِينَ ; الَّذِينَ أَطْلَقُوا تِلْكَ الْفِرْيَةَ الضَّخْمَةَ عَلَى ذَلِكَ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ . فِي أَعْظَمِ الْقَضَايَا كَافَّةً . . قَضِيَّةِ الْأُلُوهِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ ، الَّتِي يَقُومُ عَلَى أَسَاسِ الْحَقِّ فِيهَا هَذَا الْوُجُودُ كُلُّهُ وَمَا فِيهِ وَمِنْ فِيهِ . .
. . هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ . . إِنَّهَا كَلِمَةُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، فِي خِتَامِ الِاسْتِجْوَابِ الْهَائِلِ عَلَى مَشْهَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ . . وَهِيَ الْكَلِمَةُ الْأَخِيرَةُ فِي الْمَشْهَدِ . وَهِيَ الْكَلِمَةُ الْحَاسِمَةُ فِي الْقَضِيَّةِ . وَمَعَهَا ذَلِكَ الْجَزَاءُ الَّذِي يَلِيقُ بِالصِّدْقِ وَالصَّادِقِينَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=119لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ..
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=119خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ..
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=119رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ..
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=119وَرَضُوا عَنْهُ . .
دَرَجَاتٌ بَعْدَ دَرَجَاتٍ . . الْجَنَّاتُ وَالْخُلُودُ وَرِضَا اللَّهِ وَرِضَاهُمْ بِمَا لَقُوا مِنْ رَبِّهِمْ مِنَ التَّكْرِيمِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=119ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ . .
وَلَقَدْ شَهِدْنَا الْمَشْهَدَ - مِنْ خِلَالِ الْعَرْضِ الْقُرْآنِيِّ لَهُ بِطَرِيقَةِ الْقُرْآنِ الْفَرِيدَةِ - وَسَمِعْنَا الْكَلِمَةَ الْأَخِيرَةَ . . شَهِدْنَا وَسَمِعْنَا لِأَنَّ طَرِيقَةَ التَّصْوِيرِ الْقُرْآنِيَّةَ لَمْ تَدَعْهُ وَعْدًا يُوعَدُ ، وَلَا مُسْتَقْبَلًا يُنْتَظَرُ ; وَلَمْ تَدَعْهُ عِبَارَاتٍ تَسْمَعُهَا الْآذَانُ أَوْ تَقْرَؤُهَا الْعُيُونُ . إِنَّمَا حَرَّكَتْ بِهِ الْمَشَاعِرَ ، وَجَسَّمَتْهُ وَاقِعًا اللَّحْظَةَ تَسْمَعُهُ الْآذَانُ وَتَرَاهُ الْعُيُونُ . .
عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ بِالْقِيَاسِ إِلَيْنَا - نَحْنُ الْبَشَرَ الْمَحْجُوبِينَ - مُسْتَقْبَلًا نَنْتَظِرُهُ يَوْمَ الدِّينِ ، فَهُوَ بِالْقِيَاسِ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ الْمُطْلَقِ ، وَاقِعٌ حَاضِرٌ . فَالْزَمْنُ وَحِجَابُهُ إِنَّمَا هُمَا مِنْ تَصَوُّرَاتِنَا نَحْنُ الْبَشَرَ الْفَانِينَ . .
وَفِي نِهَايَةِ هَذَا الدَّرْسِ ; وَفِي مُوَاجَهَةِ الْفِرْيَةِ الْكُبْرَى الَّتِي لَمْ يَفْتَرِ أَضْخَمَ مِنْهَا قَطُّ أَتْبَاعُ رَسُولٍ ! فِي مُوَاجَهَةِ الْفِرْيَةِ الْكُبْرَى الَّتِي أَطْلَقَهَا أَتْبَاعُ
الْمَسِيحِ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِرْيَةِ أُلُوهِيَّتِهِ ; الْفِرْيَةِ الَّتِي تَبَرَّأَ مِنْهَا هَذَا التَّبَرُّؤَ ، وَفَوَّضَ رَبَّهُ فِي أَمْرِ قَوْمِهِ بِشَأْنِهَا هَذَا التَّفْوِيضَ . .
فِي مُوَاجَهَةِ هَذِهِ الْفِرْيَةِ ، وَفِي نِهَايَةِ الدَّرْسِ الَّذِي عَرَضَ ذَلِكَ الِاسْتِجْوَابَ الرَّهِيبَ عَنْهَا ، فِي ذَلِكَ الْمَشْهَدِ الْعَظِيمِ . . يَجِيءُ الْإِيقَاعُ الْأَخِيرُ فِي السُّورَةِ يُعْلِنُ تَفَرُّدَ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ - بِمُلْكِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ ; وَقُدْرَتَهُ - سُبْحَانَهُ - عَلَى كُلِّ شَيْءٍ بِلَا حُدُودٍ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=120لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . .
خِتَامٌ يَتَنَاسَقُ مَعَ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ الْكُبْرَى الَّتِي أُطْلِقَتْ حَوْلَهَا تِلْكَ الْفِرْيَةُ الضَّخْمَةُ ، وَمَعَ ذَلِكَ الْمَشْهَدِ الْعَظِيمِ الَّذِي يَتَفَرَّدُ اللَّهُ فِيهِ بِالْعِلْمِ ، وَيَتَفَرَّدُ بِالْأُلُوهِيَّةِ ، وَيَتَفَرَّدُ بِالْقُدْرَةِ ، وَيُنِيبُ إِلَيْهِ الرُّسُلُ ; وَيُفَوِّضُونَ إِلَيْهِ الْأَمْرَ كُلَّهُ ; وَيُفَوِّضُ فِيهِ
عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ أَمْرَهُ وَأَمْرَ قَوْمِهِ إِلَى الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ . الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . .
وَخِتَامٌ يَتَنَاسَقُ مَعَ السُّورَةِ الَّتِي تَتَحَدَّثُ عَنِ "الدِّينِ " وَتَعْرِضُهُ مُمَثَّلًا فِي اتِّبَاعِ شَرِيعَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ ، وَالتَّلَقِّي مِنْهُ وَحْدَهُ ، وَالْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَهُ دُونَ سِوَاهُ . . إِنَّهُ الْمَالِكُ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ ، وَالْمَالِكُ هُوَ
[ ص: 1003 ] الَّذِي يَحْكُمُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=44وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ . .
إِنَّهَا قَضِيَّةٌ وَاحِدَةٌ . . قَضِيَّةُ الْأُلُوهِيَّةِ . . قَضِيَّةُ التَّوْحِيدِ . . وَقَضِيَّةُ الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ . . لِتَتَوَحَّدَ الْأُلُوهِيَّةُ ، وَيَتَحَقَّقَ التَّوْحِيدُ ..