وحين يقوم هذا المجتمع فعلا ، تكون له حياة واقعية ، تحتاج إلى تنظيم وإلى تشريع . . وعندئذ فقط يبدأ هذا الدين في تقرير النظم وفي سن الشرائع . . لقوم مستسلمين أصلا للنظم والشرائع ، رافضين ابتداء لغيرها من النظم والشرائع . .
ولا بد أن يكون للمؤمنين بهذه العقيدة من السلطان على أنفسهم وعلى مجتمعهم ما يكفل تنفيذ النظام والشرائع في هذا المجتمع ; حتى تكون للنظام هيبته ويكون للشريعة جديتها . . فوق ما يكون لحياة هذا المجتمع من الواقعية ما يقتضي الأنظمة والشرائع من فورها . .
والمسلمون في
مكة لم يكن لهم سلطان على أنفسهم ولا على مجتمعهم . وما كانت لهم حياة واقعية مستقلة هم الذين ينظمونها بشريعة الله . . ومن ثم لم ينزل الله في هذه الفترة تنظيمات وشرائع ; وإنما نزل لهم عقيدة ، وخلقا منبثقا من العقيدة بعد استقرارها في الأعماق البعيدة . . فلما صارت لهم دولة في
المدينة ذات سلطان تنزلت عليهم الشرائع ; وتقرر لهم النظام ; الذي يواجه حاجات المجتمع المسلم الواقعية ; والذي تكفل له الدولة بسلطانها الجدية والنفاذ . .
ولم يشأ الله أن ينزل عليهم النظام والشرائع في
مكة ، ليختزنوها جاهزة ، حتى تطبق بمجرد قيام الدولة في
المدينة ! إن هذه ليست طبيعة هذا الدين ! إنه أشد واقعية من هذا وأكثر جدية ! إنه لا يفترض المشكلات ليفترض لها حلولا . . إنما هو يواجه الواقع بحجمه وشكله وملابساته لصوغه في قالبه الخاص ، وفق حجمه وشكله وملابساته . .
والذين يريدون من الإسلام اليوم أن يصوغ قوالب نظام ، وأن يصوغ تشريعات حياة . . بينما ليس على وجه الأرض مجتمع قد قرر فعلا تحكيم شريعة الله وحدها ، ورفض كل شريعة سواها ، مع تملكه للسلطة التي تفرض هذا وتنفذه . . الذين يريدون من الإسلام ذلك لا يدركون طبيعة هذا الدين ، ولا كيف يعمل في الحياة كما يريد له الله . .
إنهم يريدون منه أن يغير طبيعته ومنهجه وتاريخه ليشابه أنظمة بشرية ، ومناهج بشرية . ويحاولون أن يستعجلوه عن طريقه وخطواته ليلبي رغبات وقتية في نفوسهم إنما تنشئها الهزيمة الداخلية في أرواحهم تجاه أنظمة بشرية صغيرة . . إنهم يريدون منه أن يصوغ نفسه في قالب فروض ، تواجه مستقبلا غير موجود . . والله يريد لهذا الدين أن يكون كما أراده . . عقيدة تملأ القلب ، وتفرض سلطانها على الضمير . عقيدة مقتضاها
[ ص: 1011 ] ألا يخضع الناس إلا لله ، ولا يتلقوا الشرائع إلا من الله . وبعد أن يوجد الناس الذين هذه عقيدتهم ، ويصبح لهم السلطان في مجتمعهم ، تبدأ التشريعات لمواجهة حاجاتهم الواقعية ، وتنظيم حياتهم الواقعية كذلك .
كذلك يجب أن يكون مفهوما لأصحاب الدعوة الإسلامية ، أنهم حين يدعون الناس لإعادة إنشاء هذا الدين ، يجب أن يدعوهم أولا إلى اعتناق العقيدة - حتى ولو كانوا يدعون أنفسهم مسلمين ! وتشهد لهم شهادات الميلاد بأنهم مسلمون - يجب أن يعلموهم أن الإسلام هو أولا إقرار عقيدة : لا إله إلا الله بمدلولها الحقيقي وهو رد الحاكمية لله في أمرهم كله ، وطرد المعتدين على سلطان الله بادعاء هذا الحق لأنفسهم . . إقرارها في ضمائرهم وشعائرهم ، وإقرارها في أوضاعهم وواقعهم . .
ولتكن هذه القضية هي أساس
nindex.php?page=treesubj&link=34056_32020_32022دعوة الناس إلى الإسلام كما كانت هي أساس دعوتهم إلى الإسلام أول مرة . . هذه الدعوة التي تكفل بها القرآن المكي طوال ثلاثة عشر عاما كاملة . .
فإذا دخل في هذا الدين - بمفهومه هذا الأصيل - عصبة من الناس ، فهذه العصبة هي التي تصلح لمزاولة النظام الإسلامي في حياتها الاجتماعية ; لأنها قررت بينها وبين نفسها أن تقوم حياتها على هذا الأساس ; وألا تحكم في حياتها كلها إلا الله .
وحين يقوم هذا المجتمع بالفعل يبدأ عرض أسس النظام الإسلامي عليه ; كما يأخذ هذا المجتمع نفسه في سن التشريعات التي تقتضيها حياته الواقعية ، في إطار الأسس العامة للنظام الإسلامي . . فهذا هو الترتيب الصحيح لخطوات المنهج الإسلامي الواقعي العملي الجاد . .
ولقد يخيل إلى بعض المخلصين المتعجلين ، ممن لا يتدبرون طبيعة هذا الدين ، وطبيعة منهجه الرباني القويم ، المؤسس على حكمة العليم الحكيم ، وعلمه بطبائع البشر وحاجات الحياة . . نقول لقد يخيل لبعض هؤلاء أن عرض أسس النظام الإسلامي - بل التشريعات الإسلامية كذلك - على الناس مما ييسر لهم طريق الدعوة ، ويحبب الناس في هذا الدين !
وهذا وهم تنشئه العجلة ! وهم كالذي كان يقترحه المقترحون : أن تقوم دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أولها تحت راية قومية ، أو اجتماعية ، أو أخلاقية ، تيسيرا للطريق !
إن النفوس يجب أن تخلص أولا لله ، وتعلن عبوديتها له ، بقبول شرعه وحده ورفض كل شرع غيره . . من ناحية المبدأ . . قبل أن تخاطب بأي تفصيل عن ذلك الشرع يرغبها فيه !
إن الرغبة يجب أن تنبثق من الرغبة في إخلاص العبودية لله ، والتحرر من سلطان سواه . . لا من أن النظام المعروض عليها . . في ذاته . . خير مما لديها في كذا وكذا على وجه التفصيل .
إن نظام الله خير في ذاته ، لأنه من شرع الله . ولن يكون شرع العبيد يوما كشرع الله . . ولكن هذه ليست قاعدة الدعوة . . إن قاعدة الدعوة أن قبول شرع الله وحده ورفض كل شرع غيره هو ذاته الإسلام . وليس للإسلام مدلول سواه . فمن رغب في الإسلام فقد فصل في هذه القضية ولم يعد بحاجة إلى ترغيبه بجمال النظام وأفضليته . . فهذه إحدى بديهيات الإيمان !
وبعد فلا بد أن نقول كيف عالج القرآن المكي قضية العقيدة في خلال الثلاثة عشر عاما . . إنه لم يعرضها في صورة "نظرية " ! ولم يعرضها في صورة "لاهوت " ولم يعرضها في صورة جدل كلامي كالذي زاوله
[ ص: 1012 ] فيما بعد ما سمي بـ "علم التوحيد " أو "علم الكلام " !
كلا . . لقد كان
nindex.php?page=treesubj&link=28659_33679القرآن الكريم يخاطب فطرة "الإنسان " بما في وجوده هو وبما في الوجود من حوله من دلائل وإيحاءات . . كان يستنقذ فطرته من الركام ; ويخلص أجهزة الاستقبال الفطرية مما ران عليها وعطل وظائفها ; ويفتح منافذ الفطرة لتتلقى الموحيات المؤثرة وتستجيب لها . . والسورة التي بين أيدينا نموذج كامل من هذا المنهج المتفرد وسنتحدث عن خصائصها بعد قليل . .
هذا بصفة عامة . وبصفة خاصة كان القرآن يخوض بهذه العقيدة معركة حية واقعية . . كان يخوض بها معركة مع الركام المعطل للفطرة . . في نفوس آدمية حاضرة واقعة . . ومن ثم لم يكن شكل "النظرية " هو الشكل الذي يناسب هذا الواقع الحاضر . إنما كان هو شكل المواجهة الحية للعقابيل والسدود والحواجز والمعوقات النفسية والواقعية في النفوس الحاضرة الحية . . ولم يكن الجدل الذهني الذي انتهجه - في العصور المتأخرة - علم التوحيد ، هو الشكل المناسب كذلك . . فلقد كان القرآن يواجه واقعا بشريا كاملا بكل ملابساته الحية ; ويخاطب الكينونة البشرية بجملتها في خضم هذا الواقع . . وكذلك لم يكن "اللاهوت " هو الشكل المناسب . فإن العقيدة الإسلامية ولو أنها عقيدة ، إلا أنها عقيدة تمثل منهج حياة واقعية للتطبيق العملي ; ولا تقبع في الزاوية الضيقة التي تقبع فيها الأبحاث اللاهوتية النظرية !
كان القرآن وهو يبني العقيدة في ضمائر الجماعة المسلمة يخوض بهذه الجماعة المسلمة معركة ضخمة مع الجاهلية من حولها ; كما يخوض بها معركة ضخمة مع رواسب الجاهلية في ضميرها وأخلاقها وواقعها . .
ومن هذه الملابسات ظهر بناء العقيدة ، لا في صورة نظرية ، ولا في صورة لاهوت ولا في صورة جدل كلامي . . ولكن في صورة تكوين تنظيمي مباشر للحياة ، ممثل في الجماعة المسلمة ذاتها . وكان نمو الجماعة المسلمة في تصورها الاعتقادي ، وفي سلوكها الواقعي وفق هذا التصور ، وفي دربتها على مواجهة الجاهلية كمنظمة محاربة لها . . كان هذا النمو ذاته ممثلا تماما لنمو البناء العقيدي ، وترجمة حية له . . وهذا هو منهج الإسلام الذي يمثل طبيعته كذلك . .
وإنه لمن الضروري لأصحاب الدعوة الإسلامية أن يدركوا طبيعة هذا الدين ومنهجه في الحركة على هذا النحو الذي بيناه . . ذلك ليعلموا أن مرحلة بناء العقيدة التي طالت في العهد المكي على هذا النحو ، لم تكن منعزلة عن مرحلة التكوين العملي للحركة الإسلامية ، والبناء الواقعي للجماعة المسلمة . . لم تكن مرحلة تلقي "النظرية " ودراستها ! ولكنها كانت مرحلة البناء القاعدي للعقيدة وللجماعة وللحركة وللوجود الفعلي معا . . وهكذا ينبغي أن تكون كلما أريد إعادة هذا البناء مرة أخرى . .
هكذا ينبغي أن تطول مرحلة بناء العقيدة ; وأن تتم خطواتها على مهل وفي عمق وتثبت . . وهكذا ينبغي ألا تكون مرحلة بناء العقيدة مرحلة دراسة نظرية للعقيدة ; ولكن مرحلة ترجمة لهذه العقيدة في صورة حية ، متمثلة في ضمائر متكيفة بهذه العقيدة ; ومتمثلة في بناء جماعي يعبر نموه عن نمو العقيدة ذاتها ; ومتمثلة في حركة واقعية تواجه الجاهلية وتخوض معها المعركة في الضمير وفي الواقع كذلك ; لتتمثل العقيدة حية وتنمو نموا حيا في خضم المعركة .
وخطأ أي خطأ - بالقياس إلى الإسلام - أن تتبلور النظرية في صورة نظرية مجردة للدراسة النظرية . . المعرفية الثقافية . . بل خطر أي خطر كذلك . .
إن القرآن لم يقض ثلاثة عشر عاما كاملة في بناء العقيدة بسبب أنه كان يتنزل للمرة الأولى . . كلا !
[ ص: 1013 ] فلو أراد الله لأنزل هذا القرآن جملة واحدة ; ثم ترك أصحابه يدرسونه ثلاثة عشر عاما أو أكثر أو أقل ، حتى يستوعبوا "النظرية الإسلامية " !
ولكن الله - سبحانه - كان يريد أمرا آخر . كان يريد منهجا معينا متفردا . كان يريد بناء الجماعة وبناء الحركة وبناء العقيدة في وقت واحد . كان يريد أن يبني الجماعة والحركة بالعقيدة ، وأن يبني العقيدة بالجماعة والحركة ! كان يريد أن تكون العقيدة هي واقع الجماعة الفعلي ، وأن يكون واقع الجماعة الحركي الفعلي هو صورة العقيدة . . وكان الله - سبحانه - يعلم أن بناء النفوس والجماعات لا يتم بين يوم وليلة . . فلم يكن بد أن يستغرق بناء العقيدة المدى الذي يستغرقه بناء النفوس والجماعة . . حتى إذا نضج التكوين العقيدي كانت الجماعة هي المظهر الواقعي لهذا النضوج . .
هذه هي طبيعة هذا الدين - كما تستخلص من منهج القرآن المكي - ولا بد أن نعرف طبيعته هذه ; ولا نحاول أن نغيرها تلبية لرغبات معجلة مهزومة أمام أشكال النظريات البشرية ! فهو بهذه الطبيعة صنع الأمة المسلمة أول مرة ، وبها يصنع الأمة المسلمة في كل مرة يراد أن يعاد إخراج الأمة المسلمة للوجود ، كما أخرجها الله أول مرة . .
يجب أن ندرك خطأ المحاولة ، وخطرها معا ، في تحويل العقيدة الإسلامية الحية التي يجب أن تتمثل في واقع تام حي متحرك ، إلى "نظرية " للدراسة والمعرفة الثقافية لمجرد أننا نريد أن نواجه "النظريات " البشرية الهزيلة بنظرية إسلامية !
إن العقيدة الإسلامية يجب أن تتمثل في نفوس حية ، وفي تنظيم واقعي ، وفي حركة تتفاعل مع الجاهلية من حولها ، كما تتفاعل مع الجاهلية الراسبة في نفوس أصحابها بوصفهم كانوا من أهل الجاهلية قبل أن تدخل العقيدة إلى نفوسهم وتنتزعها من الوسط الجاهلي . وهي في صورتها هذه تشغل من القلوب والعقول ومن الحياة أيضا مساحة أضخم وأوسع وأعمق مما تشغله "النظرية " وتشمل - فيما تشمل - مساحة النظرية ومادتها . ولكنها لا تقتصر عليها .
إن التصور الإسلامي للألوهية وللوجود الكوني وللحياة وللإنسان ، تصور شامل كامل . ولكنه كذلك تصور واقعي إيجابي . وهو يكره - بطبيعته - أن يتمثل في مجرد تصور ذهني معرفي . لأن هذا يخالف طبيعته وغايته . ويجب أن يتمثل في أناسي ، وفي تنظيم حي ، وفي حركة واقعية . . وطريقته في التكون أن ينمو من خلال الأناسي والتنظيم الحي والحركة الواقعية ; حتى يكتمل نظريا في نفس الوقت الذي يكتمل فيه واقعيا ; ولا ينفصل في صورة نظرية ; بل يظل ممثلا في الصورة الواقعية . .
وكل نمو نظري يسبق النمو الحركي الواقعي ، ولا يتمثل من خلاله ، هو خطأ وخطر كذلك بالقياس إلى طبيعة هذا الدين ، وغايته ، وطريقة تركيبه الذاتي .
والله سبحانه يقول :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=106وقرآنا فرقناه، لتقرأه على الناس على مكث، ونزلناه تنزيلا . .
فالفرق مقصود . والمكث مقصود كذلك . . ليتم البناء التكويني المؤلف من عقيدة في صورة "منظمة حية " لا في صورة "نظرية معرفية " !
يجب أن يعرف أصحاب هذا الدين جيدا ، أنه كما أن هذا الدين دين رباني ، فإن منهجه في العمل منهج رباني كذلك ، متواف مع طبيعته . وأنه لا يمكن فصل حقيقة هذا الدين عن منهجه في العمل .
[ ص: 1014 ] ويجب أن يعرفوا كذلك أن هذا الدين كما أنه جاء ليغير التصور الاعتقادي - ومن ثم يغير الواقع الحيوي - فكذلك هو قد جاء ليغير المنهج الفكري والحركي الذي يبني به التصور الاعتقادي ويغير به الواقع الحيوي . . جاء ليبني عقيدة وهو يبني أمة . . ثم لينشئ منهج تفكير خاصا به بنفس الدرجة التي ينشئ بها تصورا اعتقاديا وواقعا حيويا . ولا انفصال بين منهج تفكيره الخاص وتصوره الاعتقادي وبنائه الحيوي ، فكلها حزمة واحدة .
فإذا عرفنا منهجه في العمل على النحو الذي بيناه ، فلنعرف أن هذا المنهج أصيل ; وليس منهج مرحلة ولا بيئة ولا ظروف خاصة بنشأة الجماعة المسلمة الأولى . إنما هو المنهج الذي لا يقوم بناء هذا الدين إلا به .
إنه لم تكن وظيفة الإسلام أن يغير عقيدة الناس وواقعهم فحسب . ولكن كانت وظيفته أن يغير طريقة تفكيرهم ، وتناولهم للتصور وللواقع . ذلك أنه منهج رباني مخالف في طبيعته كلها لمناهج البشر القاصرة الهزيلة .
ونحن لا نملك أن نصل إلى التصور الرباني والحياة الربانية إلا عن طريق منهج تفكير رباني كذلك . منهج أراد الله أن يقيم منهج الناس في التفكير على أساسه ليصح تصورهم وتكوينهم الحيوي .
ونحن حين نريد من الإسلام أن يجعل من نفسه نظرية للدراسة نخرج عن طبيعة المنهج الرباني للتكوين ; وعن طبيعة المنهج الرباني للتفكير . ونخضع الإسلام لطرائق التفكير البشرية ! كأنما المنهج الرباني أدنى من المناهج البشرية ! وكأنما نريد لنرتقي بمنهج الله في التصور والحركة ليوازي مناهج العبيد ! والأمر من هذه الناحية يكون خطيرا . والهزيمة تكون قاتلة !
إن وظيفة المنهج الرباني أن يعطينا - نحن أصحاب الدعوة الإسلامية - منهجا خاصا للتفكير نبرأ به من رواسب مناهج التفكير الجاهلية السائدة في الأرض ; والتي تضغط على عقولنا وتترسب في ثقافتنا . . فإذا نحن أردنا أن نتناول هذا الدين بمنهج تفكير غريب عن طبيعته من مناهج التفكير الجاهلية الغالبة ، كنا قد أبطلنا وظيفته التي جاء ليؤديها للبشرية ; وحرمنا أنفسنا فرصة الخلاص من ضغط المنهج الجاهلي السائد في عصرنا ، وفرصة الخلاص من رواسبه في عقولنا وتكويننا .
والأمر من هذه الناحية كذلك يكون خطيرا ، والخسارة تكون قاتلة . .
إن منهج التفكير والحركة في بناء الإسلام ، لا يقل قيمة ولا ضرورة عن منهج التصور الاعتقادي والنظام الحيوي ; ولا ينفصل عنه كذلك . . ومهما يخطر لنا أن نقدم ذلك التصور وهذا النظام في صورة تعبيرية ، فيجب ألا يغيب عن بالنا أن هذا لا ينشئ "الإسلام " في الأرض في صورة حركة واقعية ، بل يجب ألا يغيب عن بالنا أنه لن يفيد من تقديمنا الإسلام في هذه الصورة إلا المشتغلون فعلا بحركة إسلامية واقعية . وأن قصارى ما يفيده هؤلاء من تقديم الإسلام لهم في هذه الصورة هو أن يتفاعلوا معها بالقدر الذي وصلوا إليه هم فعلا في أثناء الحركة !
ومرة أخرى أكرر أن التصور الاعتقادي يجب أن يتمثل من فوره في تجمع حركي ; وأن يكون التجمع الحركي في الوقت ذاته تمثيلا صحيحا وترجمة حقيقية للتصور الاعتقادي .
ومرة أخرى أكرر كذلك أن هذا هو المنهج الطبيعي للإسلام الرباني ، وأنه منهج أعلى وأقوم وأشد فاعلية وأكثر انطباقا على الفطرة البشرية من منهج صياغة النظريات كاملة مستقلة وتقديمها في الصورة الذهنية الباردة للناس ، قبل أن يكون هؤلاء الناس مشتغلين بالفعل بحركة واقعية ; وقبل أن يكونوا هم أنفسهم ترجمة تنمو خطوة خطوة لتمثيل ذلك المفهوم النظري .
[ ص: 1015 ] وإذا صح هذا في أصل النظرية فهو أصح - بطبيعة الحال - فيما يختص بتقديم أسس النظام الذي يتمثل فيه التصور الإسلامي ، أو تقديم التشريعات المفصلة لهذا النظام .
إن الجاهلية التي حولنا كما أنها تضغط على أعصاب بعض المخلصين من أصحاب الدعوة الإسلامية فتجعلهم يستعجلون خطوات المنهج الإسلامي ، كذلك هي تتعمد أحيانا أن تحرجهم فتسألهم : أين تفصيلات نظامكم الذي تدعون إليه ؟ وماذا أعددتم لتنفيذه من بحوث ومن تفصيلات ومن مشروعات ؟ وهي في هذا تتعمد أن تعجلهم عن منهجهم ، وأن تجعلهم يتجاوزون مرحلة بناء العقيدة ; وأن يحولوا منهجهم الرباني عن طبيعته ، التي تتبلور فيها النظرية من خلال الحركة ، ويتحدد فيها النظام من خلال الممارسة ، وتسن فيها التشريعات في ثنايا مواجهة الحياة الواقعية بمشكلاتها الحقيقية . .
ومن واجب أصحاب الدعوة الإسلامية ألا يستجيبوا للمناورة ! من واجبهم أن يرفضوا إملاء منهج غريب على حركتهم وعلى دينهم ! من واجبهم ألا يستخفهم من لا يوقنون !
ومن واجبهم أن يكشفوا مناورة الإحراج وأن يستعلوا عليها ; وأن يتحركوا بدينهم وفق منهج هذا الدين في الحركة . فهذا من أسرار قوته ، وهذا هو مصدر قوتهم كذلك .
إن المنهج في الإسلام يساوي الحقيقة ; ولا انفصام بينهما . . وكل منهج غريب لا يمكن أن يحقق الإسلام في النهاية . والمناهج الغربية الغريبة يمكن أن تحقق أنظمتها البشرية ; ولكنها لا يمكن أن تحقق نظامنا الرباني . . فالتزام المنهج ضروري كالتزام العقيدة وكالتزام النظام في كل حركة إسلامية . لا في الحركة الإسلامية الأولى كما يظن بعض الناس !
هذه هي كلمتي الأخيرة . . وإنني لأرجو أن أكون بهذا البيان لطبيعة القرآن المكي ، ولطبيعة المنهج الرباني المتمثل فيه ، قد بلغت ; وأن يعرف أصحاب الدعوة الإسلامية طبيعة منهجهم ، ويثقوا به ، ويطمئنوا إليه ويعلموا أن ما عندهم خير ، وأنهم هم الأعلون . .
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=9إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم . . صدق الله العظيم . .
وَحِينَ يَقُومُ هَذَا الْمُجْتَمَعُ فِعْلًا ، تَكُونُ لَهُ حَيَاةٌ وَاقِعِيَّةٌ ، تَحْتَاجُ إِلَى تَنْظِيمٍ وَإِلَى تَشْرِيعٍ . . وَعِنْدَئِذٍ فَقَطْ يَبْدَأُ هَذَا الدِّينُ فِي تَقْرِيرِ النُّظُمِ وَفِي سَنِّ الشَّرَائِعِ . . لِقَوْمٍ مُسْتَسْلِمِينَ أَصْلًا لِلنُّظُمِ وَالشَّرَائِعِ ، رَافِضِينَ ابْتِدَاءً لِغَيْرِهَا مِنَ النُّظُمِ وَالشَّرَائِعِ . .
وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهَذِهِ الْعَقِيدَةِ مِنَ السُّلْطَانِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى مُجْتَمَعِهِمْ مَا يَكْفُلُ تَنْفِيذَ النِّظَامِ وَالشَّرَائِعِ فِي هَذَا الْمُجْتَمَعِ ; حَتَّى تَكُونَ لِلنِّظَامِ هَيْبَتُهُ وَيَكُونَ لِلشَّرِيعَةِ جِدِّيَّتُهَا . . فَوْقَ مَا يَكُونُ لِحَيَاةِ هَذَا الْمُجْتَمَعِ مِنَ الْوَاقِعِيَّةِ مَا يَقْتَضِي الْأَنْظِمَةَ وَالشَّرَائِعَ مِنْ فَوْرِهَا . .
وَالْمُسْلِمُونَ فِي
مَكَّةَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ سُلْطَانٌ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَا عَلَى مُجْتَمَعِهِمْ . وَمَا كَانَتْ لَهُمْ حَيَاةٌ وَاقِعِيَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ هُمُ الَّذِينَ يُنَظِّمُونَهَا بِشَرِيعَةِ اللَّهِ . . وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يُنَزِّلِ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْفَتْرَةِ تَنْظِيمَاتٍ وَشَرَائِعَ ; وَإِنَّمَا نَزَّلَ لَهُمْ عَقِيدَةً ، وَخُلُقًا مُنْبَثِقًا مِنَ الْعَقِيدَةِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهَا فِي الْأَعْمَاقِ الْبَعِيدَةِ . . فَلَمَّا صَارَتْ لَهُمْ دَوْلَةٌ فِي
الْمَدِينَةِ ذَاتُ سُلْطَانٍ تَنَزَّلَتْ عَلَيْهِمُ الشَّرَائِعُ ; وَتَقَرَّرَ لَهُمُ النِّظَامُ ; الَّذِي يُوَاجِهُ حَاجَاتِ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ الْوَاقِعِيَّةَ ; وَالَّذِي تَكْفُلُ لَهُ الدَّوْلَةُ بِسُلْطَانِهَا الْجِدِّيَّةَ وَالنَّفَاذَ . .
وَلَمْ يَشَأِ اللَّهُ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمُ النِّظَامَ وَالشَّرَائِعَ فِي
مَكَّةَ ، لِيَخْتَزِنُوهَا جَاهِزَةً ، حَتَّى تُطَبَّقَ بِمُجَرَّدِ قِيَامِ الدَّوْلَةِ فِي
الْمَدِينَةِ ! إِنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ طَبِيعَةَ هَذَا الدِّينِ ! إِنَّهُ أَشَدُّ وَاقِعِيَّةً مِنْ هَذَا وَأَكْثَرُ جِدِّيَّةً ! إِنَّهُ لَا يَفْتَرِضُ الْمُشْكِلَاتِ لِيَفْتَرِضَ لَهَا حُلُولًا . . إِنَّمَا هُوَ يُوَاجِهُ الْوَاقِعَ بِحَجْمِهِ وَشَكْلِهِ وَمُلَابَسَاتِهِ لِصَوْغِهِ فِي قَالَبِهِ الْخَاصِّ ، وَفْقَ حَجْمِهِ وَشَكْلِهِ وَمُلَابَسَاتِهِ . .
وَالَّذِينَ يُرِيدُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ الْيَوْمَ أَنْ يَصُوغَ قَوَالِبَ نِظَامٍ ، وَأَنْ يَصُوغَ تَشْرِيعَاتِ حَيَاةٍ . . بَيْنَمَا لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مُجْتَمَعٌ قَدْ قَرَّرَ فِعْلًا تَحْكِيمَ شَرِيعَةِ اللَّهِ وَحْدَهَا ، وَرَفْضَ كُلِّ شَرِيعَةٍ سِوَاهَا ، مَعَ تَمَلُّكِهِ لِلسُّلْطَةِ الَّتِي تَفْرِضُ هَذَا وَتُنَفِّذُهُ . . الَّذِينَ يُرِيدُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ ذَلِكَ لَا يُدْرِكُونَ طَبِيعَةَ هَذَا الدِّينِ ، وَلَا كَيْفَ يَعْمَلُ فِي الْحَيَاةِ كَمَا يُرِيدُ لَهُ اللَّهُ . .
إِنَّهُمْ يُرِيدُونَ مِنْهُ أَنْ يُغَيِّرَ طَبِيعَتَهُ وَمَنْهَجَهُ وَتَارِيخَهُ لِيُشَابِهَ أَنْظِمَةً بَشَرِيَّةً ، وَمَنَاهِجَ بَشَرِيَّةً . وَيُحَاوِلُونَ أَنْ يَسْتَعْجِلُوهُ عَنْ طَرِيقِهِ وَخُطُوَاتِهِ لِيُلَبِّيَ رَغَبَاتٍ وَقْتِيَّةً فِي نُفُوسِهِمْ إِنَّمَا تُنْشِئُهَا الْهَزِيمَةُ الدَّاخِلِيَّةُ فِي أَرْوَاحِهِمْ تُجَاهَ أَنْظِمَةٍ بَشَرِيَّةٍ صَغِيرَةٍ . . إِنَّهُمْ يُرِيدُونَ مِنْهُ أَنْ يَصُوغَ نَفْسَهُ فِي قَالَبِ فُرُوضٍ ، تُوَاجِهُ مُسْتَقْبَلًا غَيْرَ مَوْجُودٍ . . وَاللَّهُ يُرِيدُ لِهَذَا الدِّينِ أَنْ يَكُونَ كَمَا أَرَادَهُ . . عَقِيدَةً تَمْلَأُ الْقَلْبَ ، وَتَفْرِضُ سُلْطَانَهَا عَلَى الضَّمِيرِ . عَقِيدَةً مُقْتَضَاهَا
[ ص: 1011 ] أَلَّا يَخْضَعَ النَّاسُ إِلَّا لِلَّهِ ، وَلَا يَتَلَقَّوُا الشَّرَائِعَ إِلَّا مِنَ اللَّهِ . وَبَعْدَ أَنْ يُوجَدَ النَّاسُ الَّذِينَ هَذِهِ عَقِيدَتُهُمْ ، وَيُصْبِحَ لَهُمُ السُّلْطَانُ فِي مُجْتَمَعِهِمْ ، تَبْدَأُ التَّشْرِيعَاتُ لِمُوَاجَهَةِ حَاجَاتِهِمُ الْوَاقِعِيَّةِ ، وَتَنْظِيمِ حَيَاتِهِمُ الْوَاقِعِيَّةِ كَذَلِكَ .
كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَفْهُومًا لِأَصْحَابِ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ ، أَنَّهُمْ حِينَ يَدْعُونَ النَّاسَ لِإِعَادَةِ إِنْشَاءِ هَذَا الدِّينِ ، يَجِبُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ أَوَّلًا إِلَى اعْتِنَاقِ الْعَقِيدَةِ - حَتَّى وَلَوْ كَانُوا يَدَّعُونَ أَنْفُسَهُمْ مُسْلِمِينَ ! وَتَشْهَدُ لَهُمْ شَهَادَاتُ الْمِيلَادِ بِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ - يَجِبُ أَنْ يُعَلِّمُوهُمْ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ أَوَّلًا إِقْرَارُ عَقِيدَةِ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ بِمَدْلُولِهَا الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ رَدُّ الْحَاكِمِيَّةِ لِلَّهِ فِي أَمْرِهِمْ كُلِّهِ ، وَطَرْدُ الْمُعْتَدِينَ عَلَى سُلْطَانِ اللَّهِ بِادِّعَاءِ هَذَا الْحَقِّ لِأَنْفُسِهِمْ . . إِقْرَارُهَا فِي ضَمَائِرِهِمْ وَشَعَائِرِهِمْ ، وَإِقْرَارُهَا فِي أَوْضَاعِهِمْ وَوَاقِعِهِمْ . .
وَلْتَكُنْ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ هِيَ أَسَاسُ
nindex.php?page=treesubj&link=34056_32020_32022دَعْوَةِ النَّاسِ إِلَى الْإِسْلَامِ كَمَا كَانَتْ هِيَ أَسَاسَ دَعْوَتِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ أَوَّلَ مَرَّةٍ . . هَذِهِ الدَّعْوَةُ الَّتِي تَكَفَّلَ بِهَا الْقُرْآنُ الْمَكِّيُّ طَوَالَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ عَامًا كَامِلَةً . .
فَإِذَا دَخَلَ فِي هَذَا الدِّينِ - بِمَفْهُومِهِ هَذَا الْأَصِيلِ - عُصْبَةٌ مِنَ النَّاسِ ، فَهَذِهِ الْعُصْبَةُ هِيَ الَّتِي تَصْلُحُ لِمُزَاوَلَةِ النِّظَامِ الْإِسْلَامِيِّ فِي حَيَاتِهَا الِاجْتِمَاعِيَّةِ ; لِأَنَّهَا قَرَّرَتْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ نَفْسِهَا أَنْ تَقُومَ حَيَاتُهَا عَلَى هَذَا الْأَسَاسِ ; وَأَلَّا تُحَكِّمَ فِي حَيَاتِهَا كُلِّهَا إِلَّا اللَّهَ .
وَحِينَ يَقُومُ هَذَا الْمُجْتَمَعُ بِالْفِعْلِ يَبْدَأُ عَرْضُ أُسُسِ النِّظَامِ الْإِسْلَامِيِّ عَلَيْهِ ; كَمَا يَأْخُذُ هَذَا الْمُجْتَمَعُ نَفْسَهُ فِي سَنِّ التَّشْرِيعَاتِ الَّتِي تَقْتَضِيهَا حَيَاتُهُ الْوَاقِعِيَّةُ ، فِي إِطَارِ الْأُسُسِ الْعَامَّةِ لِلنِّظَامِ الْإِسْلَامِيِّ . . فَهَذَا هُوَ التَّرْتِيبُ الصَّحِيحُ لِخُطُوَاتِ الْمَنْهَجِ الْإِسْلَامِيِّ الْوَاقِعِيِّ الْعَمَلِيِّ الْجَادِّ . .
وَلَقَدْ يُخَيَّلُ إِلَى بَعْضِ الْمُخْلِصِينَ الْمُتَعَجِّلِينَ ، مِمَّنْ لَا يَتَدَبَّرُونَ طَبِيعَةَ هَذَا الدِّينِ ، وَطَبِيعَةَ مَنْهَجِهِ الرَّبَّانِيِّ الْقَوِيمِ ، الْمُؤَسِّسِ عَلَى حِكْمَةِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ ، وَعِلْمِهِ بِطَبَائِعِ الْبَشَرِ وَحَاجَاتِ الْحَيَاةِ . . نَقُولُ لَقَدْ يُخَيَّلُ لِبَعْضِ هَؤُلَاءِ أَنَّ عَرْضَ أُسُسِ النِّظَامِ الْإِسْلَامِيِّ - بَلِ التَّشْرِيعَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ كَذَلِكَ - عَلَى النَّاسِ مِمَّا يُيَسِّرُ لَهُمْ طَرِيقَ الدَّعْوَةِ ، وَيُحَبِّبُ النَّاسَ فِي هَذَا الدِّينِ !
وَهَذَا وَهْمٌ تُنْشِئُهُ الْعَجَلَةُ ! وَهُمْ كَالَّذِي كَانَ يَقْتَرِحُهُ الْمُقْتَرِحُونَ : أَنْ تَقُومَ دَعْوَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَوَّلِهَا تَحْتَ رَايَةٍ قَوْمِيَّةٍ ، أَوِ اجْتِمَاعِيَّةٍ ، أَوْ أَخْلَاقِيَّةٍ ، تَيْسِيرًا لِلطَّرِيقِ !
إِنَّ النُّفُوسَ يَجِبُ أَنْ تُخْلِصَ أَوَّلًا لِلَّهِ ، وَتُعْلِنَ عُبُودِيَّتَهَا لَهُ ، بِقَبُولِ شَرْعِهِ وَحْدَهُ وَرَفْضِ كُلِّ شَرْعٍ غَيْرِهِ . . مِنْ نَاحِيَةِ الْمَبْدَأِ . . قَبْلَ أَنْ تُخَاطَبَ بِأَيِّ تَفْصِيلٍ عَنْ ذَلِكَ الشَّرْعِ يُرَغِّبُهَا فِيهِ !
إِنَّ الرَّغْبَةَ يَجِبُ أَنْ تَنْبَثِقَ مِنَ الرَّغْبَةِ فِي إِخْلَاصِ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ ، وَالتَّحَرُّرِ مِنْ سُلْطَانِ سِوَاهُ . . لَا مِنْ أَنَّ النِّظَامَ الْمَعْرُوضَ عَلَيْهَا . . فِي ذَاتِهِ . . خَيْرٌ مِمَّا لَدَيْهَا فِي كَذَا وَكَذَا عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ .
إِنَّ نِظَامَ اللَّهِ خَيْرٌ فِي ذَاتِهِ ، لِأَنَّهُ مِنْ شَرْعِ اللَّهِ . وَلَنْ يَكُونَ شَرْعُ الْعَبِيدِ يَوْمًا كَشَرْعِ اللَّهِ . . وَلَكِنْ هَذِهِ لَيْسَتْ قَاعِدَةَ الدَّعْوَةِ . . إِنَّ قَاعِدَةَ الدَّعْوَةِ أَنَّ قَبُولَ شَرْعِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَرَفْضَ كُلِّ شَرْعِ غَيْرِهِ هُوَ ذَاتُهُ الْإِسْلَامُ . وَلَيْسَ لِلْإِسْلَامِ مَدْلُولٌ سِوَاهُ . فَمَنْ رَغِبَ فِي الْإِسْلَامِ فَقَدْ فَصَلَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ وَلَمْ يَعُدْ بِحَاجَةٍ إِلَى تَرْغِيبِهِ بِجَمَالِ النِّظَامِ وَأَفْضَلِيَّتِهِ . . فَهَذِهِ إِحْدَى بَدِيهِيَّاتِ الْإِيمَانِ !
وَبَعْدُ فَلَا بُدَّ أَنْ نَقُولَ كَيْفَ عَالَجَ الْقُرْآنُ الْمَكِّيُّ قَضِيَّةَ الْعَقِيدَةِ فِي خِلَالِ الثَّلَاثَةَ عَشَرَ عَامًا . . إِنَّهُ لَمْ يَعْرِضْهَا فِي صُورَةِ "نَظَرِيَّةٍ " ! وَلَمْ يَعْرِضْهَا فِي صُورَةِ "لَاهُوتٍ " وَلَمْ يَعْرِضْهَا فِي صُورَةِ جَدَلٍ كَلَامِيٍّ كَالَّذِي زَاوَلَهُ
[ ص: 1012 ] فِيمَا بَعْدُ مَا سُمِّيَ بِـ "عِلْمِ التَّوْحِيدِ " أَوْ "عِلْمِ الْكَلَامِ " !
كَلَّا . . لَقَدْ كَانَ
nindex.php?page=treesubj&link=28659_33679الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ يُخَاطِبُ فِطْرَةَ "الْإِنْسَانِ " بِمَا فِي وُجُودِهِ هُوَ وَبِمَا فِي الْوُجُودِ مِنْ حَوْلِهِ مِنْ دَلَائِلَ وَإِيحَاءَاتٍ . . كَانَ يَسْتَنْقِذُ فِطْرَتَهُ مِنَ الرُّكَامِ ; وَيُخَلِّصُ أَجْهِزَةَ الِاسْتِقْبَالِ الْفِطْرِيَّةَ مِمَّا رَانَ عَلَيْهَا وَعَطَّلَ وَظَائِفَهَا ; وَيَفْتَحُ مَنَافِذَ الْفِطْرَةِ لِتَتَلَقَّى الْمُوحِيَاتِ الْمُؤْثِرَةَ وَتَسْتَجِيبَ لَهَا . . وَالسُّورَةُ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِينَا نَمُوذَجٌ كَامِلٌ مِنْ هَذَا الْمَنْهَجِ الْمُتَفَرِّدِ وَسَنَتَحَدَّثُ عَنْ خَصَائِصِهَا بَعْدَ قَلِيلٍ . .
هَذَا بِصِفَةٍ عَامَّةٍ . وَبِصِفَةٍ خَاصَّةٍ كَانَ الْقُرْآنُ يَخُوضُ بِهَذِهِ الْعَقِيدَةِ مَعْرَكَةً حَيَّةً وَاقِعِيَّةً . . كَانَ يَخُوضُ بِهَا مَعْرَكَةً مَعَ الرُّكَامِ الْمُعَطِّلِ لِلْفِطْرَةِ . . فِي نُفُوسٍ آدَمِيَّةٍ حَاضِرَةٍ وَاقِعَةٍ . . وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَكُنْ شَكْلُ "النَّظَرِيَّةِ " هُوَ الشَّكْلَ الَّذِي يُنَاسَبُ هَذَا الْوَاقِعَ الْحَاضِرَ . إِنَّمَا كَانَ هُوَ شَكْلَ الْمُوَاجَهَةِ الْحَيَّةِ لِلْعَقَابِيلِ وَالسُّدُودِ وَالْحَوَاجِزِ وَالْمُعَوِّقَاتِ النَّفْسِيَّةِ وَالْوَاقِعِيَّةِ فِي النُّفُوسِ الْحَاضِرَةِ الْحَيَّةِ . . وَلَمْ يَكُنِ الْجَدَلُ الذِّهْنِيُّ الَّذِي انْتَهَجَهُ - فِي الْعُصُورِ الْمُتَأَخِّرَةِ - عِلْمُ التَّوْحِيدِ ، هُوَ الشَّكْلَ الْمُنَاسِبَ كَذَلِكَ . . فَلَقَدْ كَانَ الْقُرْآنُ يُوَاجِهُ وَاقِعًا بَشَرِيًّا كَامِلًا بِكُلِّ مُلَابَسَاتِهِ الْحَيَّةِ ; وَيُخَاطِبُ الْكَيْنُونَةَ الْبَشَرِيَّةَ بِجُمْلَتِهَا فِي خِضَمِّ هَذَا الْوَاقِعِ . . وَكَذَلِكَ لَمْ يَكُنِ "اللَّاهُوتُ " هُوَ الشَّكْلَ الْمُنَاسِبَ . فَإِنَّ الْعَقِيدَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ وَلَوْ أَنَّهَا عَقِيدَةٌ ، إِلَّا أَنَّهَا عَقِيدَةٌ تُمَثِّلُ مَنْهَجَ حَيَاةٍ وَاقِعِيَّةٍ لِلتَّطْبِيقِ الْعَمَلِيِّ ; وَلَا تَقْبَعُ فِي الزَّاوِيَةِ الضَّيِّقَةِ الَّتِي تَقْبَعُ فِيهَا الْأَبْحَاثُ اللَّاهُوتِيَّةُ النَّظَرِيَّةُ !
كَانَ الْقُرْآنُ وَهُوَ يَبْنِي الْعَقِيدَةَ فِي ضَمَائِرِ الْجَمَاعَةِ الْمُسْلِمَةِ يَخُوضُ بِهَذِهِ الْجَمَاعَةِ الْمُسْلِمَةِ مَعْرَكَةً ضَخْمَةً مَعَ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ حَوْلِهَا ; كَمَا يَخُوضُ بِهَا مَعْرَكَةً ضَخْمَةً مَعَ رَوَاسِبِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي ضَمِيرِهَا وَأَخْلَاقِهَا وَوَاقِعِهَا . .
وَمِنْ هَذِهِ الْمُلَابَسَاتِ ظَهَرَ بِنَاءُ الْعَقِيدَةِ ، لَا فِي صُورَةِ نَظَرِيَّةٍ ، وَلَا فِي صُورَةِ لَاهُوتٍ وَلَا فِي صُورَةِ جَدَلٍ كَلَامِيٍّ . . وَلَكِنْ فِي صُورَةِ تَكْوِينٍ تَنْظِيمِيٍّ مُبَاشِرٍ لِلْحَيَاةِ ، مُمَثَّلٍ فِي الْجَمَاعَةِ الْمُسْلِمَةِ ذَاتِهَا . وَكَانَ نُمُوُّ الْجَمَاعَةِ الْمُسْلِمَةِ فِي تَصَوُّرِهَا الِاعْتِقَادِيِّ ، وَفِي سُلُوكِهَا الْوَاقِعِيِّ وَفْقَ هَذَا التَّصَوُّرِ ، وَفِي دُرْبَتِهَا عَلَى مُوَاجَهَةِ الْجَاهِلِيَّةِ كَمُنَظَّمَةٍ مُحَارِبَةٍ لَهَا . . كَانَ هَذَا النُّمُوُّ ذَاتُهُ مُمَثِّلًا تَمَامًا لِنُمُوِّ الْبِنَاءِ الْعَقِيدِيِّ ، وَتَرْجَمَةً حَيَّةً لَهُ . . وَهَذَا هُوَ مَنْهَجُ الْإِسْلَامِ الَّذِي يُمَثِّلُ طَبِيعَتَهُ كَذَلِكَ . .
وَإِنَّهُ لَمِنَ الضَّرُورِيِّ لِأَصْحَابِ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَنْ يُدْرِكُوا طَبِيعَةَ هَذَا الدِّينِ وَمَنْهَجَهُ فِي الْحَرَكَةِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ الَّذِي بَيَّنَاهُ . . ذَلِكَ لِيَعْلَمُوا أَنَّ مَرْحَلَةَ بِنَاءِ الْعَقِيدَةِ الَّتِي طَالَتْ فِي الْعَهْدِ الْمَكِّيِّ عَلَى هَذَا النَّحْوِ ، لَمْ تَكُنْ مُنْعَزِلَةً عَنْ مَرْحَلَةِ التَّكْوِينِ الْعَمَلِيَّ لِلْحَرَكَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ ، وَالْبِنَاءِ الْوَاقِعِيِّ لِلْجَمَاعَةِ الْمُسْلِمَةِ . . لَمْ تَكُنْ مَرْحَلَةَ تَلَقِّي "النَّظَرِيَّةِ " وَدِرَاسَتِهَا ! وَلَكِنَّهَا كَانَتْ مَرْحَلَةَ الْبِنَاءِ الْقَاعِدِيِّ لِلْعَقِيدَةِ وَلِلْجَمَاعَةِ وَلِلْحَرَكَةِ وَلِلْوُجُودِ الْفِعْلِيِّ مَعًا . . وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ كُلَّمَا أُرِيدَ إِعَادَةُ هَذَا الْبِنَاءِ مَرَّةً أُخْرَى . .
هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَطُولَ مَرْحَلَةُ بِنَاءِ الْعَقِيدَةِ ; وَأَنْ تَتِمَّ خُطُوَاتُهَا عَلَى مَهْلٍ وَفِي عُمْقٍ وَتَثَبُّتٍ . . وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَلَّا تَكُونَ مَرْحَلَةُ بِنَاءِ الْعَقِيدَةِ مَرْحَلَةَ دِرَاسَةٍ نَظَرِيَّةٍ لِلْعَقِيدَةِ ; وَلَكِنْ مَرْحَلَةَ تَرْجَمَةٍ لِهَذِهِ الْعَقِيدَةِ فِي صُورَةٍ حَيَّةٍ ، مُتَمَثِّلَةً فِي ضَمَائِرَ مُتَكَيِّفَةٍ بِهَذِهِ الْعَقِيدَةِ ; وَمُتَمَثِّلَةً فِي بِنَاءٍ جَمَاعِيٍّ يُعَبِّرُ نُمُوُّهُ عَنْ نُمُوِّ الْعَقِيدَةِ ذَاتِهَا ; وَمُتَمَثِّلَةً فِي حَرَكَةٍ وَاقِعِيَّةٍ تُوَاجِهُ الْجَاهِلِيَّةَ وَتَخُوضُ مَعَهَا الْمَعْرَكَةَ فِي الضَّمِيرِ وَفِي الْوَاقِعِ كَذَلِكَ ; لِتَتَمَثَّلَ الْعَقِيدَةُ حَيَّةً وَتَنْمُوَ نُمُوًّا حَيًّا فِي خِضَمِّ الْمَعْرَكَةِ .
وَخَطَأٌ أَيَّ خَطَأٍ - بِالْقِيَاسِ إِلَى الْإِسْلَامِ - أَنْ تَتَبَلْوَرَ النَّظَرِيَّةُ فِي صُورَةِ نَظَرِيَّةٍ مُجَرَّدَةٍ لِلدِّرَاسَةِ النَّظَرِيَّةِ . . الْمَعْرِفِيَّةِ الثَّقَافِيَّةِ . . بَلْ خَطَرٌ أَيَّ خَطَرٍ كَذَلِكَ . .
إِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَقْضِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ عَامًا كَامِلَةً فِي بِنَاءِ الْعَقِيدَةِ بِسَبَبِ أَنَّهُ كَانَ يَتَنَزَّلُ لِلْمَرَّةِ الْأُولَى . . كَلَّا !
[ ص: 1013 ] فَلَوْ أَرَادَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآنَ جُمْلَةً وَاحِدَةً ; ثُمَّ تَرَكَ أَصْحَابَهُ يَدْرُسُونَهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ عَامًا أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ ، حَتَّى يَسْتَوْعِبُوا "النَّظَرِيَّةَ الْإِسْلَامِيَّةَ " !
وَلَكِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - كَانَ يُرِيدُ أَمْرًا آخَرَ . كَانَ يُرِيدُ مَنْهَجًا مُعَيَّنًا مُتَفَرِّدًا . كَانَ يُرِيدُ بِنَاءَ الْجَمَاعَةِ وَبِنَاءَ الْحَرَكَةِ وَبِنَاءَ الْعَقِيدَةِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ . كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ الْجَمَاعَةَ وَالْحَرَكَةَ بِالْعَقِيدَةِ ، وَأَنْ يَبْنِيَ الْعَقِيدَةَ بِالْجَمَاعَةِ وَالْحَرَكَةِ ! كَانَ يُرِيدُ أَنْ تَكُونَ الْعَقِيدَةُ هِيَ وَاقِعَ الْجَمَاعَةِ الْفِعْلِيَّ ، وَأَنْ يَكُونَ وَاقِعُ الْجَمَاعَةِ الْحَرَكِيُّ الْفِعْلِيُّ هُوَ صُورَةَ الْعَقِيدَةِ . . وَكَانَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - يَعْلَمُ أَنَّ بِنَاءَ النُّفُوسِ وَالْجَمَاعَاتِ لَا يَتِمُّ بَيْنَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ . . فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ أَنْ يَسْتَغْرِقَ بِنَاءَ الْعَقِيدَةِ الْمَدَى الَّذِي يَسْتَغْرِقُهُ بِنَاءُ النُّفُوسِ وَالْجَمَاعَةِ . . حَتَّى إِذَا نَضِجَ التَّكْوِينُ الْعَقِيدِيُّ كَانَتِ الْجَمَاعَةُ هِيَ الْمَظْهَرَ الْوَاقِعِيَّ لِهَذَا النُّضُوجِ . .
هَذِهِ هِيَ طَبِيعَةُ هَذَا الدِّينِ - كَمَا تُسْتَخْلَصُ مِنْ مَنْهَجِ الْقُرْآنِ الْمَكِّيِّ - وَلَا بُدَّ أَنْ نَعْرِفَ طَبِيعَتَهُ هَذِهِ ; وَلَا نُحَاوِلَ أَنْ نُغَيِّرَهَا تَلْبِيَةً لِرَغَبَاتٍ مُعَجَّلَةٍ مَهْزُومَةٍ أَمَامَ أَشْكَالِ النَّظَرِيَّاتِ الْبَشَرِيَّةِ ! فَهُوَ بِهَذِهِ الطَّبِيعَةِ صُنْعُ الْأُمَّةِ الْمُسْلِمَةِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، وَبِهَا يَصْنَعُ الْأُمَّةَ الْمُسْلِمَةَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ يُرَادُ أَنْ يُعَادَ إِخْرَاجُ الْأُمَّةِ الْمُسْلِمَةِ لِلْوُجُودِ ، كَمَا أَخْرَجَهَا اللَّهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ . .
يَجِبُ أَنْ نُدْرِكَ خَطَأَ الْمُحَاوَلَةِ ، وَخَطَرَهَا مَعًا ، فِي تَحْوِيلِ الْعَقِيدَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْحَيَّةِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ تَتَمَثَّلَ فِي وَاقِعٍ تَامٍّ حَيٍّ مُتَحَرِّكٍ ، إِلَى "نَظَرِيَّةٍ " لِلدِّرَاسَةِ وَالْمَعْرِفَةِ الثَّقَافِيَّةِ لِمُجَرَّدِ أَنَّنَا نُرِيدُ أَنْ نُوَاجِهَ "النَّظَرِيَّاتِ " الْبَشَرِيَّةَ الْهَزِيلَةَ بِنَظَرِيَّةٍ إِسْلَامِيَّةٍ !
إِنَّ الْعَقِيدَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ يَجِبُ أَنْ تَتَمَثَّلَ فِي نُفُوسٍ حَيَّةٍ ، وَفِي تَنْظِيمٍ وَاقِعِيٍّ ، وَفِي حَرَكَةٍ تَتَفَاعَلُ مَعَ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ حَوْلِهَا ، كَمَا تَتَفَاعَلُ مَعَ الْجَاهِلِيَّةِ الرَّاسِبَةِ فِي نُفُوسِ أَصْحَابِهَا بِوَصْفِهِمْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ أَنْ تَدْخُلَ الْعَقِيدَةُ إِلَى نُفُوسِهِمْ وَتَنْتَزِعَهَا مِنَ الْوَسَطِ الْجَاهِلِيِّ . وَهِيَ فِي صُورَتِهَا هَذِهِ تَشْغَلُ مِنَ الْقُلُوبِ وَالْعُقُولِ وَمِنَ الْحَيَاةِ أَيْضًا مِسَاحَةً أَضْخَمَ وَأَوْسَعَ وَأَعْمَقَ مِمَّا تَشْغَلُهُ "النَّظَرِيَّةُ " وَتَشْمَلُ - فِيمَا تَشْمَلُ - مِسَاحَةُ النَّظَرِيَّةِ وَمَادَّتُهَا . وَلَكِنَّهَا لَا تَقْتَصِرُ عَلَيْهَا .
إِنَّ التَّصَوُّرَ الْإِسْلَامِيَّ لِلْأُلُوهِيَّةِ وَلِلْوُجُودِ الْكَوْنِيِّ وَلِلْحَيَاةِ وَلِلْإِنْسَانِ ، تَصَوُّرٌ شَامِلٌ كَامِلٌ . وَلَكِنَّهُ كَذَلِكَ تَصَوُّرٌ وَاقِعِيٌّ إِيجَابِيٌّ . وَهُوَ يَكْرَهُ - بِطَبِيعَتِهِ - أَنْ يَتَمَثَّلَ فِي مُجَرَّدِ تَصَوُّرٍ ذِهْنِيٍّ مَعْرِفِيٍّ . لِأَنَّ هَذَا يُخَالِفُ طَبِيعَتَهُ وَغَايَتَهُ . وَيَجِبُ أَنْ يَتَمَثَّلَ فِي أَنَاسِيَّ ، وَفِي تَنْظِيمٍ حَيٍّ ، وَفِي حَرَكَةٍ وَاقِعِيَّةٍ . . وَطَرِيقَتُهُ فِي التَّكَوُّنِ أَنْ يَنْمُوَ مِنْ خِلَالِ الْأَنَاسِيِّ وَالتَّنْظِيمِ الْحَيِّ وَالْحَرَكَةِ الْوَاقِعِيَّةِ ; حَتَّى يَكْتَمِلَ نَظَرِيًّا فِي نَفْسِ الْوَقْتِ الَّذِي يَكْتَمِلُ فِيهِ وَاقِعِيًّا ; وَلَا يَنْفَصِلُ فِي صُورَةٍ نَظَرِيَّةٍ ; بَلْ يَظَلُّ مُمَثَّلًا فِي الصُّورَةِ الْوَاقِعِيَّةِ . .
وَكُلُّ نُمُوٍّ نَظَرِيٍّ يَسْبِقُ النُّمُوَّ الْحَرَكِيَّ الْوَاقِعِيَّ ، وَلَا يَتَمَثَّلُ مِنْ خِلَالِهِ ، هُوَ خَطَأٌ وَخَطَرٌ كَذَلِكَ بِالْقِيَاسِ إِلَى طَبِيعَةِ هَذَا الدِّينِ ، وَغَايَتِهِ ، وَطَرِيقَةِ تَرْكِيبِهِ الذَّاتِيِّ .
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=106وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ، لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ، وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلا . .
فَالْفَرْقُ مَقْصُودٌ . وَالْمُكْثُ مَقْصُودٌ كَذَلِكَ . . لِيَتِمَّ الْبِنَاءُ التَّكْوِينِيُّ الْمُؤَلَّفُ مِنْ عَقِيدَةٍ فِي صُورَةِ "مُنَظَّمَةٍ حَيَّةٍ " لَا فِي صُورَةِ "نَظَرِيَّةٍ مَعْرِفِيَّةٍ " !
يَجِبُ أَنْ يَعْرِفَ أَصْحَابُ هَذَا الدِّينِ جَيِّدًا ، أَنَّهُ كَمَا أَنَّ هَذَا الدِّينَ دِينٌ رَبَّانِيٌّ ، فَإِنَّ مَنْهَجَهُ فِي الْعَمَلِ مَنْهَجٌ رَبَّانِيٌّ كَذَلِكَ ، مُتَوَافٍ مَعَ طَبِيعَتِهِ . وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ فَصْلُ حَقِيقَةِ هَذَا الدِّينِ عَنْ مَنْهَجِهِ فِي الْعَمَلِ .
[ ص: 1014 ] وَيَجِبُ أَنْ يَعْرِفُوا كَذَلِكَ أَنَّ هَذَا الدِّينَ كَمَا أَنَّهُ جَاءَ لِيُغَيِّرَ التَّصَوُّرَ الِاعْتِقَادِيَّ - وَمِنْ ثَمَّ يُغَيِّرُ الْوَاقِعَ الْحَيَوِيَّ - فَكَذَلِكَ هُوَ قَدْ جَاءَ لِيُغَيِّرَ الْمَنْهَجَ الْفِكْرِيَّ وَالْحَرَكِيَّ الَّذِي يَبْنِي بِهِ التَّصَوُّرَ الِاعْتِقَادِيَّ وَيُغَيِّرُ بِهِ الْوَاقِعَ الْحَيَوِيَّ . . جَاءَ لِيَبْنِيَ عَقِيدَةً وَهُوَ يَبْنِي أُمَّةً . . ثُمَّ لِيُنْشِئَ مَنْهَجَ تَفْكِيرٍ خَاصًّا بِهِ بِنَفْسِ الدَّرَجَةِ الَّتِي يُنْشِئُ بِهَا تَصَوُّرًا اعْتِقَادِيًّا وَوَاقِعًا حَيَوِيًّا . وَلَا انْفِصَالَ بَيْنَ مَنْهَجِ تَفْكِيرِهِ الْخَاصِّ وَتَصَوُّرِهِ الِاعْتِقَادِيِّ وَبِنَائِهِ الْحَيَوِيِّ ، فَكُلُّهَا حُزْمَةٌ وَاحِدَةٌ .
فَإِذَا عَرَفْنَا مَنْهَجَهُ فِي الْعَمَلِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي بَيَّنَاهُ ، فَلْنَعْرِفْ أَنَّ هَذَا الْمَنْهَجَ أَصِيلٌ ; وَلَيْسَ مَنْهَجَ مَرْحَلَةٍ وَلَا بِيئَةٍ وَلَا ظُرُوفٍ خَاصَّةٍ بِنَشْأَةِ الْجَمَاعَةِ الْمُسْلِمَةِ الْأُولَى . إِنَّمَا هُوَ الْمَنْهَجُ الَّذِي لَا يَقُومُ بِنَاءُ هَذَا الدِّينِ إِلَّا بِهِ .
إِنَّهُ لَمْ تَكُنْ وَظِيفَةُ الْإِسْلَامِ أَنْ يُغَيِّرَ عَقِيدَةَ النَّاسِ وَوَاقِعَهُمْ فَحَسْبُ . وَلَكِنْ كَانَتْ وَظِيفَتُهُ أَنْ يُغَيِّرَ طَرِيقَةَ تَفْكِيرِهِمْ ، وَتَنَاوُلِهِمْ لِلتَّصَوُّرِ وَلِلْوَاقِعِ . ذَلِكَ أَنَّهُ مَنْهَجٌ رَبَّانِيٌّ مُخَالِفٌ فِي طَبِيعَتِهِ كُلِّهَا لِمَنَاهِجِ الْبَشَرِ الْقَاصِرَةِ الْهَزِيلَةِ .
وَنَحْنُ لَا نَمْلِكُ أَنْ نَصِلَ إِلَى التَّصَوُّرِ الرَّبَّانِيِّ وَالْحَيَاةِ الرَّبَّانِيَّةِ إِلَّا عَنْ طَرِيقِ مَنْهَجِ تَفْكِيرٍ رَبَّانِيٍّ كَذَلِكَ . مَنْهَجٍ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُقِيمَ مَنْهَجَ النَّاسِ فِي التَّفْكِيرِ عَلَى أَسَاسِهِ لِيَصِحَّ تَصَوُّرُهُمْ وَتَكْوِينُهُمُ الْحَيَوِيُّ .
وَنَحْنُ حِينَ نُرِيدُ مِنَ الْإِسْلَامِ أَنْ يَجْعَلَ مِنْ نَفْسِهِ نَظَرِيَّةً لِلدِّرَاسَةِ نَخْرُجُ عَنْ طَبِيعَةِ الْمَنْهَجِ الرَّبَّانِيِّ لِلتَّكْوِينِ ; وَعَنْ طَبِيعَةِ الْمَنْهَجِ الرَّبَّانِيِّ لِلتَّفْكِيرِ . وَنُخْضِعُ الْإِسْلَامَ لِطَرَائِقِ التَّفْكِيرِ الْبَشَرِيَّةِ ! كَأَنَّمَا الْمَنْهَجُ الرَّبَّانِيُّ أَدْنَى مِنَ الْمَنَاهِجِ الْبَشَرِيَّةِ ! وَكَأَنَّمَا نُرِيدُ لِنَرْتَقِيَ بِمَنْهَجِ اللَّهِ فِي التَّصَوُّرِ وَالْحَرَكَةِ لِيُوَازِيَ مَنَاهِجَ الْعَبِيدِ ! وَالْأَمْرُ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ يَكُونُ خَطِيرًا . وَالْهَزِيمَةُ تَكُونُ قَاتِلَةً !
إِنَّ وَظِيفَةَ الْمَنْهَجِ الرَّبَّانِيِّ أَنْ يُعْطِيَنَا - نَحْنُ أَصْحَابَ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ - مَنْهَجًا خَاصًّا لِلتَّفْكِيرِ نَبْرَأُ بِهِ مِنْ رَوَاسِبِ مَنَاهِجِ التَّفْكِيرِ الْجَاهِلِيَّةِ السَّائِدَةِ فِي الْأَرْضِ ; وَالَّتِي تَضْغَطُ عَلَى عُقُولِنَا وَتَتَرَسَّبُ فِي ثَقَافَتِنَا . . فَإِذَا نَحْنُ أَرَدْنَا أَنْ نَتَنَاوَلَ هَذَا الدِّينَ بِمَنْهَجِ تَفْكِيرٍ غَرِيبٍ عَنْ طَبِيعَتِهِ مِنْ مَنَاهِجِ التَّفْكِيرِ الْجَاهِلِيَّةِ الْغَالِبَةِ ، كُنَّا قَدْ أَبْطَلْنَا وَظِيفَتَهُ الَّتِي جَاءَ لِيُؤَدِّيَهَا لِلْبَشَرِيَّةِ ; وَحَرَمْنَا أَنْفُسَنَا فُرْصَةَ الْخَلَاصِ مِنْ ضَغْطِ الْمَنْهَجِ الْجَاهِلِيِّ السَّائِدِ فِي عَصْرِنَا ، وَفُرْصَةَ الْخَلَاصِ مِنْ رَوَاسِبِهِ فِي عُقُولِنَا وَتَكْوِينِنَا .
وَالْأَمْرُ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ كَذَلِكَ يَكُونُ خَطِيرًا ، وَالْخَسَارَةُ تَكُونُ قَاتِلَةً . .
إِنَّ مَنْهَجَ التَّفْكِيرِ وَالْحَرَكَةِ فِي بِنَاءِ الْإِسْلَامِ ، لَا يَقِلُّ قِيمَةً وَلَا ضَرُورَةً عَنْ مَنْهَجِ التَّصَوُّرِ الِاعْتِقَادِيِّ وَالنِّظَامِ الْحَيَوِيِّ ; وَلَا يَنْفَصِلُ عَنْهُ كَذَلِكَ . . وَمَهْمَا يَخْطُرُ لَنَا أَنْ نُقَدِّمَ ذَلِكَ التَّصَوُّرَ وَهَذَا النِّظَامَ فِي صُورَةٍ تَعْبِيرِيَّةٍ ، فَيَجِبُ أَلَّا يَغِيبَ عَنْ بَالِنَا أَنَّ هَذَا لَا يُنْشِئُ "الْإِسْلَامَ " فِي الْأَرْضِ فِي صُورَةِ حَرَكَةٍ وَاقِعِيَّةٍ ، بَلْ يَجِبُ أَلَّا يَغِيبَ عَنْ بَالِنَا أَنَّهُ لَنْ يُفِيدَ مِنْ تَقْدِيمِنَا الْإِسْلَامَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ إِلَّا الْمُشْتَغِلُونَ فِعْلًا بِحَرَكَةٍ إِسْلَامِيَّةٍ وَاقِعِيَّةٍ . وَأَنَّ قُصَارَى مَا يُفِيدُهُ هَؤُلَاءِ مِنْ تَقْدِيمِ الْإِسْلَامِ لَهُمْ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ هُوَ أَنْ يَتَفَاعَلُوا مَعَهَا بِالْقَدْرِ الَّذِي وَصَلُوا إِلَيْهِ هُمْ فِعْلًا فِي أَثْنَاءِ الْحَرَكَةِ !
وَمَرَّةً أُخْرَى أَكُرِّرُ أَنَّ التَّصَوُّرَ الِاعْتِقَادِيَّ يَجِبُ أَنْ يَتَمَثَّلَ مِنْ فَوْرِهِ فِي تَجَمُّعٍ حَرَكِيٍّ ; وَأَنْ يَكُونَ التَّجَمُّعُ الْحَرَكِيُّ فِي الْوَقْتِ ذَاتِهِ تَمْثِيلًا صَحِيحًا وَتَرْجَمَةً حَقِيقِيَّةً لِلتَّصَوُّرِ الِاعْتِقَادِيِّ .
وَمَرَّةً أُخْرَى أَكُرِّرُ كَذَلِكَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَنْهَجُ الطَّبِيعِيُّ لِلْإِسْلَامِ الرَّبَّانِيِّ ، وَأَنَّهُ مَنْهَجٌ أَعْلَى وَأَقْوَمَ وَأَشَدَّ فَاعِلِيَّةً وَأَكْثَرَ انْطِبَاقًا عَلَى الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ مِنْ مَنْهَجِ صِيَاغَةِ النَّظَرِيَّاتِ كَامِلَةً مُسْتَقِلَّةً وَتَقْدِيمُهَا فِي الصُّورَةِ الذِّهْنِيَّةِ الْبَارِدَةِ لِلنَّاسِ ، قَبْلَ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ النَّاسُ مُشْتَغِلِينَ بِالْفِعْلِ بِحَرَكَةٍ وَاقِعِيَّةٍ ; وَقَبْلَ أَنْ يَكُونُوا هُمْ أَنْفُسُهُمْ تَرْجَمَةً تَنْمُو خُطْوَةً خُطْوَةً لِتَمْثِيلِ ذَلِكَ الْمَفْهُومِ النَّظَرِيِّ .
[ ص: 1015 ] وَإِذَا صَحَّ هَذَا فِي أَصْلِ النَّظَرِيَّةِ فَهُوَ أَصَحُّ - بِطَبِيعَةِ الْحَالِ - فِيمَا يَخْتَصُّ بِتَقْدِيمِ أُسُسِ النِّظَامِ الَّذِي يَتَمَثَّلُ فِيهِ التَّصَوُّرُ الْإِسْلَامِيُّ ، أَوْ تَقْدِيمِ التَّشْرِيعَاتِ الْمُفَصَّلَةِ لِهَذَا النِّظَامِ .
إِنَّ الْجَاهِلِيَّةَ الَّتِي حَوْلَنَا كَمَا أَنَّهَا تَضْغَطُ عَلَى أَعْصَابِ بَعْضِ الْمُخْلِصِينَ مِنْ أَصْحَابِ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فَتَجْعَلُهُمْ يَسْتَعْجِلُونَ خُطُوَاتِ الْمَنْهَجِ الْإِسْلَامِيِّ ، كَذَلِكَ هِيَ تَتَعَمَّدُ أَحْيَانًا أَنْ تُحْرِجَهُمْ فَتَسْأَلُهُمْ : أَيْنَ تَفْصِيلَاتُ نِظَامِكُمُ الَّذِي تَدْعُونَ إِلَيْهِ ؟ وَمَاذَا أَعْدَدْتُمْ لِتَنْفِيذِهِ مِنْ بُحُوثٍ وَمِنْ تَفْصِيلَاتٍ وَمِنْ مَشْرُوعَاتٍ ؟ وَهِيَ فِي هَذَا تَتَعَمَّدُ أَنْ تُعْجِلَهُمْ عَنْ مَنْهَجِهِمْ ، وَأَنْ تَجْعَلَهُمْ يَتَجَاوَزُونَ مَرْحَلَةَ بِنَاءِ الْعَقِيدَةِ ; وَأَنْ يُحَوِّلُوا مَنْهَجَهُمُ الرَّبَّانِيَّ عَنْ طَبِيعَتِهِ ، الَّتِي تَتَبَلْوَرُ فِيهَا النَّظَرِيَّةُ مِنْ خِلَالِ الْحَرَكَةِ ، وَيَتَحَدَّدُ فِيهَا النِّظَامُ مِنْ خِلَالِ الْمُمَارَسَةِ ، وَتُسَنُّ فِيهَا التَّشْرِيعَاتُ فِي ثَنَايَا مُوَاجَهَةِ الْحَيَاةِ الْوَاقِعِيَّةِ بِمُشْكِلَاتِهَا الْحَقِيقِيَّةِ . .
وَمِنْ وَاجِبِ أَصْحَابِ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَلَّا يَسْتَجِيبُوا لِلْمُنَاوَرَةِ ! مِنْ وَاجِبِهِمْ أَنْ يَرْفُضُوا إِمْلَاءَ مَنْهَجٍ غَرِيبٍ عَلَى حَرَكَتِهِمْ وَعَلَى دِينِهِمْ ! مِنْ وَاجِبِهِمْ أَلَّا يَسْتَخِفَّهُمْ مَنْ لَا يُوقِنُونَ !
وَمِنْ وَاجِبِهِمْ أَنْ يَكْشِفُوا مُنَاوَرَةَ الْإِحْرَاجِ وَأَنْ يَسْتَعْلُوا عَلَيْهَا ; وَأَنْ يَتَحَرَّكُوا بِدِينِهِمْ وَفْقَ مَنْهَجِ هَذَا الدِّينِ فِي الْحَرَكَةِ . فَهَذَا مِنْ أَسْرَارِ قُوَّتِهِ ، وَهَذَا هُوَ مَصْدَرُ قُوَّتِهِمْ كَذَلِكَ .
إِنَّ الْمَنْهَجَ فِي الْإِسْلَامِ يُسَاوِي الْحَقِيقَةَ ; وَلَا انْفِصَامَ بَيْنَهُمَا . . وَكُلُّ مَنْهَجٍ غَرِيبٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُحَقِّقَ الْإِسْلَامَ فِي النِّهَايَةِ . وَالْمَنَاهِجُ الْغَرْبِيَّةُ الْغَرِيبَةُ يُمْكِنُ أَنْ تُحَقِّقَ أَنْظِمَتَهَا الْبَشَرِيَّةَ ; وَلَكِنَّهَا لَا يُمْكِنُ أَنْ تُحَقِّقَ نِظَامَنَا الرَّبَّانِيَّ . . فَالْتِزَامُ الْمَنْهَجِ ضَرُورِيٌّ كَالْتِزَامِ الْعَقِيدَةِ وَكَالْتِزَامِ النِّظَامِ فِي كُلِّ حَرَكَةٍ إِسْلَامِيَّةٍ . لَا فِي الْحَرَكَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْأُولَى كَمَا يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ !
هَذِهِ هِيَ كَلِمَتِي الْأَخِيرَةُ . . وَإِنَّنِي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ بِهَذَا الْبَيَانِ لِطَبِيعَةِ الْقُرْآنِ الْمَكِّيِّ ، وَلِطَبِيعَةِ الْمَنْهَجِ الرَّبَّانِيِّ الْمُتَمَثِّلِ فِيهِ ، قَدْ بَلَّغْتُ ; وَأَنْ يَعْرِفَ أَصْحَابُ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ طَبِيعَةَ مَنْهَجِهِمْ ، وَيَثِقُوا بِهِ ، وَيَطْمَئِنُّوا إِلَيْهِ وَيَعْلَمُوا أَنَّ مَا عِنْدَهُمْ خَيْرٌ ، وَأَنَّهُمْ هُمُ الْأَعْلَوْنَ . .
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=9إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ . . صَدَقَ اللَّهُ الْعَظِيمُ . .