الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم : هذه الآية فيها تأمل، فإن الله تعالى علق القتل على الشرك، ثم قال : فإن تابوا ، والأصل أن القتل متى كان الشرك يزول بزواله، وذلك يقتضي زوال القتل بمجرد التوبة، من غير اعتبار إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، ولذلك سقط القتل بمجرد التوبة قبل وقت الصلاة، وإيتاء الزكاة، فهذا بين.

غير أن الله تعالى ذكر التوبة وذكر معها شرطين آخرين، فلا سبيل إلى إلغائهما، وصح أن الصديق رضي الله عنه قاتل مانعي الزكاة، لا من جحد وجوب الزكاة فقط، بل من قال : لا أؤديها إليك.

فقال أبو بكر : "لا والله، حتى آخذها كما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وإنما فعل ذلك، فهم العلماء منه قتال مانعي الزكاة، لأن الله تعالى شرط أمورا ثلاثة في ترك القتال، فلا بد من وجودها جميعا، ودل قوله تعالى [ ص: 178 ] في موضع : فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ، وقال في موضع آخر : فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين .

على أن لإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة مدخلا في تخلية سبيلهم، كما أن للتوبة مدخلا في ذلك، وبذلك احتج أبو بكر رضي الله عنه في أن التوبة لا تكفي في تخلية سبيلهم، والكف عن قتلهم، حتى ينضاف إليها فعل الصلاة وإيتاء الزكاة، وقال : إنه صلى الله عليه وسلم قال : " فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" .

فلم تثبت العصمة بمجرد الإسلام، وذكر أن الزكاة من حقها.

وتعلق علي بذلك في قتال الفئة الباغية، وذهب إلى أن المشركين إذا أسلموا، ولم يقيموا الصلاة، ولم يؤتوا الزكاة، حل قتالهم وقتلهم.

وقال بعضهم : إنما أراد بذلك الاعتراف بالصلاة والزكاة لا فعلهما، فمن جحد أحدهما فقتله مباح، وهذا يستأصل وجه التخصيص.

فإن قيل : فإذا تاب قبل وقت الصلاة والزكاة فلا قتل عليه، ولم يقم الصلاة ولا الزكاة جميعا.

الجواب : أن التوبة إن كفت على هذا الرأي، فذكر الصلاة والزكاة لغو، وهو بمثابة من يقول : فإن تابوا ودخلوا الدار ولبسوا الثوب.

[ ص: 179 ] نعم، فهمنا من جعلهما شرطا خروج ما قبل حالة الوجوب، لأنه لا يجوز أن يجعلهما شرطا، ولما وجبا ولزما.

فالظاهر ما قاله الصديق، وهو جواز محاربتهم إذا امتنعوا من القيام بهما.

وقد كان كثير من الناس يعترفون بوجوب الزكاة، لكنهم كانوا يمتنعون من دفعها إليه، وأمر مع ذلك بمحاربتهم وقال : لو منعوني عقالا مما أعطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه.

فتبين بذلك أن الزكاة للإمام فيها حق الأخذ، فمتى امتنعوا وانحازوا إلى فئة حل قتالهم وقتلهم ما داموا مصرين على الامتناع، وكذلك إذا امتنعوا من الصلاة، وفعلها على وجه يظهر.

فإن قيل : فقد خص الله تعالى هذا بالمشركين وقتالهم، فمن أين أن هذا جائز في حق المؤمنين؟

والجواب : أنه إذا ثبت أن التوبة تسقط القتل، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة تسقط القتل، فمقتضاه : أن المشرك إذا تاب ولم يصل ولم يزك وجب عليه القتل، وهذا ما نقوله.

يبقى أن يقال : إن الآية أوجبت التسوية بين منع الصلاة ومنع الزكاة، والشافعي يخصص بالصلاة.

والجواب : أن عند الشافعي لا فرق بين البابين، إلا أن في الزكاة أخذها ممكن قهرا، وفي الصيام يمكن أن يحبس في موضع فيجعل ممسكا، والركن الأعظم في الصوم الإمساك، فأما الصلاة، فاستيفاؤها منه غير [ ص: 180 ] ممكن، فكان قتل تارك الصلاة من حيث تعذر استيفاؤها منه، بمثابة قتل تارك الزكاة إذا انحاز إلى فئة.

التالي السابق


الخدمات العلمية