الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : المقصود من هذا الكلام أن إبليس تكبر على آدم وترفع عليه لما ادعى أن أصله أشرف من أصل آدم ، فوجب أن يكون هو أشرف من آدم ، فكأنه تعالى قال لأولئك الكافرين الذين افتخروا على فقراء المسلمين بشرف نسبهم وعلو منصبهم : إنكم في هذا القول اقتديتم بإبليس في تكبره على آدم فلما علمتم أن إبليس عدو لكم ، فكيف تقتدون به في هذه الطريقة المذمومة ؟ هذا هو تقرير الكلام .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : إن هذا الكلام لا يتم إلا بإثبات مقدمات :

                                                                                                                                                                                                                                            فأولها : إثبات إبليس .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : إثبات ذرية إبليس .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : إثبات عداوة بين إبليس وذريته وبين أولاد آدم .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : أن هذا القول الذي قاله أولئك الكفار اقتدوا فيه بإبليس .

                                                                                                                                                                                                                                            وكل هذه المقدمات الأربعة لا سبيل إلى إثباتها إلا بقول النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- : فالجاهل بصدق النبي جاهل بها ، إذا عرفت هذا فنقول : المخاطبون بهذه الآيات هل عرفوا كون محمد نبيا صادقا أو ما عرفوا ذلك ؟ فإن عرفوا كونه نبيا صادقا قبلوا قوله في كل ما يقوله فكلما نهاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قول انتهوا عنه ، وحينئذ فلا حاجة إلى قصة إبليس وإن لم يعرفوا كونه نبيا جهلوا كل هذه المقدمات الأربعة ، ولم يعرفوا صحتها فحينئذ لا يكون في إيرادها عليهم فائدة ، والجواب : أن المشركين كانوا قد سمعوا قصة إبليس وآدم من أهل الكتاب واعتقدوا صحتها وعلموا أن إبليس إنما تكبر على آدم بسبب نسبه ، فإذا أوردنا عليهم هذه القصة كان ذلك زاجرا لهم عما أظهروه مع فقراء المسلمين من التكبر والترفع .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قال الجبائي : في هذه الآية دلالة على أنه تعالى لا يريد الكفر ولا يخلقه في العبد ، إذ لو أراده وخلقه فيه ، ثم عاقبه عليه ، لكان ضرر إبليس أقل من ضرر الله عليهما ، فكيف يوبخهم بقوله : ( بئس للظالمين بدلا ) ؟ ! تعالى الله عنه علوا كبيرا ، بل على هذا المذهب : لا ضرر البتة من إبليس بل الضرر كله من الله . والجواب : المعارضة بالداعي والعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : إنما قال للكفار المفتخرين بأنسابهم وأموالهم على فقراء المسلمين : أفتتخذون إبليس وذريته أولياء من دون الله ؛ لأن الداعي لهم إلى ترك دين محمد -صلى الله عليه وسلم- هو النخوة وإظهار العجب ، فهذا يدل على أن كل من أقدم على عمل أو قول بناء على هذا الداعي ، فهو متبع لإبليس حتى أن من كان غرضه في إظهار العلم والمناظرة التفاخر والتكبر والترفع ، فهو مقتد بإبليس ، وهو مقام صعب غرق فيه أكثر الخلق ، فنسأل الله الخلاص منه ، ثم قال تعالى : ( بئس للظالمين بدلا ) أي بئس البدل من الله إبليس لمن استبدله به ، فأطاعه بدل طاعته ، ثم قال : ( ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم ) وفيه مسألتان :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : اختلفوا في أن الضمير في قوله : ( ما أشهدتهم ) إلى من يعود ؟ فيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : -وهو الذي ذهب إليه الأكثرون- أن المعنى ما أشهدت الذي اتخذتموهم أولياء خلق السماوات والأرض ، ولا أشهدت بعضهم خلق بعض ، كقوله : ( اقتلوا أنفسكم ) ( النساء : 66 ) يعني ما أشهدتهم لأعتضد بهم ، والدليل عليه قوله : ( وما كنت متخذ المضلين عضدا ) أي وما كنت متخذهم ، فوضع الظاهر موضع المضمر بيانا لإضلالهم وقوله : ( عضدا ) أي أعوانا .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : -وهو أقرب عندي- أن الضمير عائد إلى الكفار الذين قالوا [ ص: 118 ] للرسول -صلى الله عليه وسلم- إن لم تطرد من مجلسك هؤلاء الفقراء لم نؤمن بك ، فكأنه تعالى قال : إن هؤلاء الذين أتوا بهذا الاقتراح الفاسد والتعنت الباطل ما كانوا شركاء لي في تدبير العالم بدليل قوله تعالى : ( ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم ) ولا اعتضدت بهم في تدبير الدنيا والآخرة ، بل هم قوم كسائر الخلق ، فلم أقدموا على هذا الاقتراح الفاسد ؟ ونظيره أن من اقترح عليك اقتراحات عظيمة ، فإنك تقول له : لست بسلطان البلد ولا ذرية المملكة حتى نقبل منك هذه الاقتراحات الهائلة ، فلم تقدم عليها ؟ والذي يؤكد هذا أن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات ، وفي هذه الآية المذكورة الأقرب هو ذكر أولئك الكفار ، وهو قوله تعالى : ( بئس للظالمين بدلا ) والمراد بالظالمين أولئك الكفار .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن يكون المراد من قوله : ( ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم ) كون هؤلاء الكفار جاهلين بما جرى به القلم في الأزل من أحوال السعادة والشقاوة . فكأنه قيل لهم : السعيد من حكم الله بسعادته في الأزل ، والشقي من حكم الله بشقاوته في الأزل ، وأنتم غافلون عن أحوال الأزل ، كأنه تعالى قال : ( ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم ) وإذا جهلتم هذه الحالة فكيف يمكنكم أن تحكموا لأنفسكم بالرفعة والعلو والكمال ولغيركم بالدناءة والذل ؟ بل ربما صار الأمر في الدنيا والآخرة على العكس فيما حكمتم به .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قال صاحب "الكشاف" قرئ وما كنت بالفتح ، والخطاب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، والمعنى : وما صح لك الاعتضاد بهم ، وما ينبغي لك أن تعتز بهم ، وقرأ علي رضوان الله عليه : ( متخذا المضلين ) بالتنوين على الأصل ، وقرأ الحسن : ( عضدا ) بسكون الضاد ونقل ضمتها إلى العين ، وقرئ : ( عضدا ) بالفتح وسكون الضاد ( وعضدا ) بضمتين ( وعضدا ) بفتحتين جمع عاضد ، كخادم وخدم ، وراصد ورصد ، من عضده إذا قواه وأعانه ، واعلم أنه تعالى لما قرر أن القول الذي قالوه في الافتخار على الفقراء اقتداء بإبليس عاد بعده إلى التهويل بأحوال يوم القيامة ، فقال : ( ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم ) وفيه أبحاث :

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الأول : قرأ حمزة : ( نقول ) بالنون عطفا على قوله : ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ) و( أولياء من دوني ) و( ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا ) والباقون قرءوا بالياء .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثاني : واذكر يوم نقول عطفا على قوله : ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا ) .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثالث : المعنى : واذكر لهم يا محمد أحوالهم وأحوال آلهتهم يوم القيامة إذ يقول الله لهم : ( نادوا شركائي ) أي ادعوا من زعمتم أنهم شركاء لي حيث أهلتموهم للعبادة ، ادعوهم يشفعوا لكم وينصروكم والمراد بالشركاء الجن ، فدعوهم ، ولم يذكر تعالى في هذه الآية أنهم كيف دعوا الشركاء ؛ لأنه تعالى بين ذلك في آية أخرى ، وهو أنهم قالوا : ( إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا ) ( غافر : 47 ) ثم قال تعالى : ( فلم يستجيبوا لهم ) أي لم يجيبوهم إلى ما دعوهم إليه ، ولم يدفعوا عنهم ضررا وما أوصلوا إليهم نفعا ، ثم قال تعالى : ( وجعلنا بينهم موبقا ) وفيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : قال صاحب "الكشاف" : الموبق المهلك من وبق يبق وبوقا ووبقا ، إذا هلك وأوبقه غيره ، فيجوز أن يكون مصدرا كالمورد والموعد ، وتقرير هذا الوجه أن يقال : إن هؤلاء المشركين الذين اتخذوا من دون الله آلهة كالملائكة وعيسى دعوا هؤلاء فلم يستجيبوا لهم [ ص: 119 ] ثم حيل بينهم وبينهم فأدخل الله تعالى هؤلاء المشركين جهنم ، وأدخل عيسى الجنة ، وصار الملائكة إلى حيث أراد الله من دار الكرامة ، وحصل بين أولئك الكفار وبين الملائكة وعيسى عليه السلام هذا الموبق ، وهو ذلك الوادي في جهنم .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني : قال الحسن : ( موبقا ) أي عداوة ، والمعنى : عداوة هي في شدتها هلاك ، ومنه قوله : لا يكن حبك كلفا ، ولا بغضك تلفا .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثالث : قال الفراء : البين المواصلة أي جعلنا مواصلتهم في الدنيا هلاكا في يوم القيامة .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الرابع : الموبق البرزخ البعيد أي جعلنا بين هؤلاء الكفار وبين الملائكة وعيسى برزخا بعيدا يهلك فيه الساري لفرط بعده ؛ لأنهم في قعر جهنم ، وهم في أعلى الجنان ، ثم قال تعالى : ( ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ) وفي هذا الظن قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن الظن ههنا بمعنى العلم واليقين .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : وهو الأقرب أن المعنى أن هؤلاء الكفار يرون النار من مكان بعيد ، فيظنون أنهم مواقعوها في تلك الساعة من غير تأخير ومهلة ، لشدة ما يسمعون من تغيظها وزفيرها ، كما قال : ( إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا ) ( الفرقان : 12 ) وقوله : ( مواقعوها ) أي مخالطوها ، فإن مخالطة الشيء لغيره إذا كانت قوية تامة ، يقال لها : مواقعة ، ثم قال تعالى : ( ولم يجدوا عنها مصرفا ) أي لم يجدوا عن النار معدلا إلى غيرها ؛ لأن الملائكة تسوقهم إليها .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية