الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              2061 2169 - حدثنا عبد الله بن يوسف ، أخبرنا مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن عائشة أم المؤمنين أرادت أن تشتري جارية فتعتقها ، فقال أهلها نبيعكها على أن ولاءها لنا . فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : "لا يمنعك ذلك ، فإنما الولاء لمن أعتق" . [انظر : 2156 - مسلم: 1504 - فتح: 6 \ 376]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ثم ساق حديث عائشة في قصة بريرة .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله - عليه السلام - : "ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ؟ ! ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ، وإن كان مائة شرط ، قضاء الله أحق ، وشرط الله أوثق ، وإنما الولاء لمن أعتق" .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 422 ] ثم ذكر بعده عنها حديثا آخر بنحوه ، وهو حديث صحيح حفيل له طرق ، وقد أفرد بالتأليف ، وقام الإجماع على أن من اشترط في البيع شرطا لا يحل أنه لا يجوز شيء منها ; عملا بهذا الحديث واختلفوا في غيرها من الشروط على مذاهب مختلفة ، فذهبت طائفة إلى أن البيع جائز ، والشرط باطل على نص حديث بريرة ، وهو قول ابن أبي ليلى والحسن البصري والشعبي والنخعي والحكم وابن جرير ، وبه قال أبو ثور ، قالوا : ودل هذا الحديث أن الشروط كلها في البيع تبطل وتثبت البيوع .

                                                                                                                                                                                                                              وذهبت أخرى إلى جوازهما ، واحتجوا بحديث جابر في بيعه واستثنائه حمله إلى المدينة ، روى ذلك عن حماد وابن شبرمة وبعض التابعين وذهبت ثالثة إلى بطلانها ، واحتجوا بحديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع وشرط ، وهو قول عمر وولده وابن مسعود والكوفيين والشافعي ، فحملوا هذه الأحاديث التي نزعوا بها على العموم ، ولكل واحد منهما موضع لا يتعداه ، ولها عند مالك أحكام مختلفة ، وقد يجوز عنده البيع والشرط في مواضع ، فإما إجازتهما فمثل أن يشترط المشتري على [ ص: 423 ] البائع شيئا ما في ملك البائع ما لم يدخل في صفقة البيع ، وذلك مثل أن يشتري منه زرعا ويشترط على البائع حصده ، أو دارا ويشترط سكناها مدة يسيرة ، أو يشترط ركوب الدابة يوما أو يومين ، وقد روي أنه لا بأس أن يشترط سكنى الدار الأشهر والسنة ; ووجه إجازته لذلك أن البيع وقع على الشيئين معا ، وعلى الزرع والحصاد ، والحصاد إجارة ، وهي بيع منفعة ، وكذا وقع البيع على الدار غير سكنى المدة وعلى الدابة غير الركوب .

                                                                                                                                                                                                                              وأبو حنيفة والشافعي لا يجيزان هذا البيع كله ; لأنه عندهم بيع وإجارة ولا يجوز ; لأن الإجارة عندهم بيع منافع طارئة في ملك البائع لم تخلق بعد ، وهو من باب بيعتين في بيعة .

                                                                                                                                                                                                                              ومما أجاز مالك فيه البيع والشرط : شراء العبد بشرط عتقه ، اتباعا للسنة في بريرة ، وهو قول الليث ، وبه قال الشافعي في رواية الربيع ، ولم يقس عليه غيره من أجل نهيه - عليه السلام - عن بيع وشرط ، وأجاز ابن أبي ليلى هذا البيع وأبطل الشرط ، وبه قال أبو ثور ، وأبطل أبو حنيفة البيع والشرط ، وأخذ بعموم نهيه عن بيع وشرط ; لأن أبا حنيفة يقول : إن المبتاع يقول : إذا أعتقه كان مضمونا عليه بالثمن ، وهذا خلاف أصوله ; لأنه كان ينبغي أن يكون مضمونا عليه بالقيمة ، كما قال وقلنا في البيع الفاسد .

                                                                                                                                                                                                                              ومضى أبو يوسف ومحمد على القياس فقالا : لا يكون مضمونا بالقيمة ، قال ابن المنذر : وما قالوه خطأ ; لأن البيع إن كان غير جائز [ ص: 424 ] فالعبد في ملك البائع لم يزل ملكه عنه ، وعتق المشتري له باطل ; لأنه أعتق ما لم يملك ، ومما أجاز مالك فيه البيع وأبطل الشرط ، وذلك شراء العبد على أن يكون الولاء للبائع ، وهذا البيع أجمعت الأمة على جوازه وإبطال الشرط فيه لمخالفته السنة في أن : "الولاء لمن أعتق" فإنه - عليه السلام - أجاز هذا البيع وأبطل الشرط ، وكذلك من باع سلعة وشرط أنه لم ينقد المشتري إلى ثلاثة أيام أو نحوها مما يرى أنه لا يريد تحويل الأسواق والمخاطرة ، فالبيع جائز والشرط باطل عند مالك ، وأجاز ابن الماجشون البيع والشرط ، وحمله محمل بيع الخيار إلى وقت مسمى ، فإذا أجاز الوقت فلا خيار له ، وممن أجاز هذا البيع والشرط : الثوري ، ومحمد بن الحسن ، وأحمد ، وإسحاق ، ولم يفرقوا بين ثلاثة أيام وأكثر منها ، وأجاز أبو حنيفة البيع والشرط إلى ثلاثة أيام ، وإن قال : إلى أربعة أيام ، بطل البيع ; لأن الخيار لا يجوز عنده اشتراطه أكثر من ثلاثة أيام ، وبه قال أبو ثور .

                                                                                                                                                                                                                              ومما يبطل فيه عند مالك البيع والشرط ، وذلك مثل أن يبيعه جارية على أن لا يبيعها ولا يهبها ، وعلى أن يتخذها أم ولد ، فالبيع عنده فاسد ، وهو قول أبي حنيفة والشافعي .

                                                                                                                                                                                                                              واعتلوا في فساد البيع بفساد الشرط فيه ، وذلك عدم تصرف المشتري في المبيع وكما لا يجوز عند الجميع أن يشترط المبتاع على البائع عدم التصرف فيما اشتراه وهذا عندهم معنى نهيه عن بيع وشرط .

                                                                                                                                                                                                                              وأجازت طائفة هذا البيع وأبطلت الشرط ، هذا قول النخعي والشعبي والحسن وابن أبي ليلى ، وبه قال أبو ثور ، وقال حماد الكوفي : البيع جائز والشرط لازم .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن المنذر : وقد أبطل الشارع ما اشترطه أهل بريرة من الولاء [ ص: 425 ] وأثبت البيع ، فمثال هذا أن كل من اشترط في البيع شرطا خلاف كتاب الله وسنة رسوله أن الشرط باطل والبيع ثابت ; استدلالا بحديث بريرة ، واشتراط البائع على المشتري أن لا يبيع ولا يهب شروطا ينبغي إبطالها وإثبات البيع ; لأن الله تعالى أحل وطء ما ملكت اليمين ، وأحل للناس أن يبيعوا أملاكهم ويهبوها فإذا اشترط البائع شيئا من هذه فقد اشترط خلاف كتاب الله ، وهو مثل اشتراط موالي بريرة ولاءها لهم ، فأجاز - عليه السلام - البيع وأبطل الشرط ، فكذلك ما كان مثله ، ومما يبطل فيه عند مالك والشافعي والكوفيين البيع والشرط بيع الأمة والناقة واستثناء ما في بطنها ، وهو عندهم من بيوع الغرر ; لأنه لا يعلم مقدار ما يصلح أن يحط من ثمنها قيمة الجنين ، وقد أجاز هذا البيع والشرط النخعي والحسن ، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور ; واحتجوا بأن ابن عمر أعتق جارية واستثنى ما في بطنها .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن المنذر : وهذا البيع معلوم ولا يضرهما أن يجهلا ما لم يدخل في البيع ، ولا أعلمهم يختلفون أنه يجوز بيع جارية قد أعتق ما في بطنها ، ولا فرق بين ذلك ; لأن المبيع في المسألتين جميعا الجارية دون الولد .

                                                                                                                                                                                                                              وما أحسن الحكاية المشهورة في ذلك أنبأنا بها غير واحد عن الدمياطي الحافظ ، منهم المعمر ناصر الدين محمد بن علي الحراوي ، أنا أبو القاسم بن أبي السعود ، أنا أبو الرضا محمد بن [ ص: 426 ] بدر بن عبد الله السنجي ، أنا أبو الحسن علي بن محمد العلاف ، أنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عمر الحمامي ، ثنا جعفر بن محمد بن [ ص: 427 ] الحجاج ، ثنا عبد الله بن أيوب بن زاذان الضرير ، ثنا محمد بن سليمان الذهلي ، ثنا عبد الوارث بن سعيد قال : قدمت مكة فوجدت بها أبا حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة ، فسألت أبا حنيفة فقلت : ما تقول في رجل باع بيعا وشرط شرطا ؟ فقال : البيع باطل والشرط باطل . ثم أتيت ابن أبي ليلى فسألته فقال : البيع جائز والشرط باطل . ثم أتيت ابن شبرمة فسألته فقال : البيع جائز والشرط جائز .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 428 ] فقلت : سبحان الله ، ثلاثة من فقهاء العراق اختلفوا على مسألة واحدة ، فأتيت أبا حنيفة فأخبرته فقال : ما أدري ما قالا ؟ حدثني عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع وشرط ، البيع باطل والشرط باطل .

                                                                                                                                                                                                                              ثم أتيت ابن أبي ليلى فأخبرته فقال : ما أدري ما قالا ؟ حدثني هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أشتري بريرة فأعتقها ، البيع جائز والشرط باطل .

                                                                                                                                                                                                                              ثم أتيت ابن شبرمة فأخبرته فقال : لا أدري ما قالا ؟ حدثني مسعر بن كدام ، عن محارب بن دثار ، عن جابر بن عبد الله قال : بعت من النبي - صلى الله عليه وسلم - ناقة واشترط لي حملانها إلى المدينة ، البيع جائز والشرط جائز .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 429 ] قال الحافظ أبو الفتح بن أبي الفوارس : هذا حديث غريب من حديث ابن شبرمة ، عن مسعر وهذا الحديث تفرد به عبد الوارث بن سعيد .

                                                                                                                                                                                                                              قال المهلب : وحديث بريرة أصل في العقوبة بالأموال ; لأن مواليها أبوا الوقوف عند حكم الله وحكم السنة ، فلما عرفت عائشة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإبائهم واستمرارهم على خلاف الحق باشتراطهم ما لا يجوز ، قال لها : "اشترطي لهم ذلك" فإن ذلك غير نافعهم ولا ناقض لبيعهم ، فعاقبهم في المال بعشر ما وضعوا من الثمن ، من أجل اشتراط الولاء واستبقائه لهم ولم يعطهم قيمة عقوبة .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 430 ] قال أبو عبد الله : فلو وقع اليوم مثل هذا وباع رجل جارية على أن يتخذها المشتري أم ولد وعلى أن لا يبيعها ولا يهبها ، ثبت البيع ورجع البائع بقيمة ما وضع .

                                                                                                                                                                                                                              ولنذكر نبذة من فوائده وألفاظه :

                                                                                                                                                                                                                              ففيه : جواز كتابة الأمة ، وكرهها القاضي في "معونته" لما روي عن عثمان أنه قال : لا تكلفوا الأمة الكسب فتكتسب بفرجها وفيه : تنجيم الكتابة خلافا للمالكية ، والإعانة عليها ، ويدل على أن الخير في الآية الصلاح والعفة لا المال .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : جواز السؤال للضرورة . لقولها : أعينيني .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : أخذ المكاتب للزكاة : وهو المعني بقوله وفي الرقاب [التوبة : 60] خلافا لمالك .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : جواز بيع المكاتب ، وقد يقال : إنها عجزت نفسها ، وأجازه مالك ، ومنعه أبو حنيفة والشافعي .

                                                                                                                                                                                                                              وفي تعجيز المكاتب ثلاثة أقوال عند المالكية : ثالثها : ما في "المدونة" : نعم ، إلا أن يكون له مال ظاهر .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 431 ] وقوله : ("واشترطي لهم الولاء") قد أسلفنا أنه أعل بتفرد مالك به عن هشام ، وأنه لم يتابع ، وقال يحيى بن أكثم : هذا لا يجوز عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يتوهم أنه يأمر بغرور أحد . وليس كما قال ، فقد تابعه عليه أبو أسامة وجرير ، وقد سلف تأويله وأن (لهم) بمعنى عليهم ، أو أنه من باب : اعملوا ما شئتم [فصلت : 40] على التهكم ، أو أنه لم يعبأ بقولهم ، ولا رآه قادحا في البيع ، أو أن هشاما نقله على المعنى ، أو أنه قد يخرج الحكم بخاص يتعلق به ، ثم يرتفع السبب ويرتفع الحكم ، فإن الجاهلية كانت تعتقد ذلك ، فأراد - عليه السلام - أن يمنعهم منه وينهاهم عنه ، فأمرهم بفعله ، ثم منعه ليكون أبلغ في منعه ، قاله الشافعي . أو معنى "اشترطي لهم الولاء" أي : لا يلزمك ، ويدل له رواية البخاري في بعض طرقه "اشتريها وأعتقيها ، ودعيهم يشترطون ما شاءوا" ، وروي "أشرطي" رباعي أي : بيني ، [ ص: 432 ] أو خصت به عائشة ، أو لم يكن الشرط في العقد ، فهذه تأويلات ، وخطبته - عليه السلام - على رءوس الأشهاد أبلغ في النكير وأوكد في التنفير .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : "قضاء الله أحق" وفي لفظ : "شرط الله أحق" يعني قوله تعالى : فإخوانكم في الدين ومواليكم [الأحزاب : 5] وقوله : وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه [الأحزاب : 37] فأثبت الولاء للمعتق .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : الابتداء بالحمد عند الموعظة .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : دليل على ابن عباس القائل بأن المكاتب حر بنفس الكتابة ، لانتقال الولاء إلى عائشة ، وعندنا وعند مالك : أنه عبد ما بقي عليه درهم ، وعند ابن مسعود : يعتق بأداء نصف كتابته .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : أن المسئول لا يجب عليه أن يعطي سائله إذا لم يخف عليه هلكة من موت أو أسر .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : أن العدة لا تلزم ; لأنه - عليه السلام - لم يلزمها ما شرطت لهم ، ورد ذلك عليهم .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية