الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله الآية.

وظاهر ذلك يدل على أن الواجب تعليق الأحكام المتصلة بالشهور والسنين، من عبادات وغيرها، بالأشهر العربية دون الشهور التي يعتبرها العجم والروم، وإن شهور الروم وإن لم تزد على اثني عشر، ولكنها مختلفة الأعداد، منها ما يزيد على ثلاثين، ومنها ما ينقص. وشهور [ ص: 200 ] العرب لا تزيد على ثلاثين، ومنها ما ينقص، والذي ينقص لا يتعين له شهر، وإنما تفاوتها في النقصان، والتمام على حسب سير القمر في البروج، ثم قال تعالى : منها أربعة حرم .

ولا خلاف أن هذه الأربعة الحرم لها ضرب من الاختصاص، وأنها رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم.

وإذا خصها الله تعالى بأنها حرم، فلا بد أن يكون لهذا الاختصاص معنى، وليس يظهر ذلك المعنى في حكم سوى المقابلة، وقد نسخ ذلك، أو تحريم القتل، حتى إن الدية تتغلظ بالأشهر الحرم، فهذا وجه التخصيص.

قوله تعالى : فلا تظلموا فيهن أنفسكم ، على قول ابن عباس هو راجع إلى الجميع، وعلى قول بعضهم : هو راجع إلى الأشهر الحرم خاصة، ومن يخصص بالأربعة يقول : لأنها إليها أقرب، ولها مزية تعظيم الظلم.

قوله تعالى : يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم .

فيه دليل على أن الله تعالى وضع هذه الشهور وسماها بأسمائها، على ما رتبها عليه يوم خلق السماوات والأرض، وأنزل الله ذلك على أنبيائه في الكتب المنزلة، وهو معنى قوله تعالى : إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا .

وحكمها باق على ما كانت عليه، ثم نزلها عن مرتبتها تغيير المشركين لأسمائها وتقديم المؤخر، وتأخير المقدم، في الاسم فيها، والمقصود من [ ص: 201 ] ذلك اتباع أمر الله تعالى فيها، ورفض ما كانت عليه الجاهلية من تأخير أسماء الشهور وتقديمها، وتعليق الأحكام على الأسماء التي رتبوها عليها، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع في خطبته بالعقبة : "أيها الناس، إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض" .

وإن الذي تجعله الجاهلية، من جعل المحرم صفرا وصفر محرما، ليس يتغيرن، ما وضعه الله تعالى.

والذين صاروا إلى جعل بعض السنين ثلاثة عشر شهرا، ليس على ما توهموه، لأن الله تعالى لم يضع غير اثني عشر شهرا، فهذا وجه.

ويحتمل أن يكون قوله في كتاب الله، أن الله تعالى قسم الزمان في الأصل اثني عشر قسما، فجعل نزول الشمس في كل برج من البروج الاثني عشر، قسما منها، فيكون قطعها للفلك في ثلاثمائة وخمس وستين يوما وربع يوم، فيجيء نصيب كل قسم منها بالأيام ثلاثين يوما وكسرا، وقسم الأزمنة أيضا على سير القمر، فصار القمر يقطع الفلك كل تسعة وعشرين يوما، ونصف، وجعل السنة القمرية ثلاثمائة وأربعة وخمسين يوما، وربع يوم، واختلفت سنة الشمس والقمر، مع اتفاق أعداد شهورها، وكان تفاوت ما بينها أحد عشر يوما بالتقريب، وكانت شهور القمر ثلاثين وتسعة وعشرين، فيما يتعلق بها من أحكام الشرع، ولم يكن للنصف الذي هو زيادة على تسعة وعشرين يوما حكم، وكان ذلك هو القسمة التي قسم الله تعالى عليها السنة في ابتداء وضع الخلق، ثم جاءت الأمم فغيرت هذا الوضع، وكان قصدهم بذلك أن لا تتغير الشهور عن [ ص: 202 ] أوقاتها التي هي عليها شتاء وصيفا وخريفا وربيعا، فاقتضاهم ذلك أوضاعا مختلفة. فوضعت الروم اثني عشر شهرا، بعضها ثمانية وعشرون، وبعضها ثمانية وعشرون ونصف، وبعضها أحد وثلاثون، وكانت شهور الفرس ثلاثين إلا شهرا واحدا، وهو أباز ماه، فإنه خمسة وثلاثون، ثم كانت تكبس في كل مائة وعشرين سنة شهرا كاملا، فتصير السنة ثلاثة عشر شهرا، فأما أشهر العرب ، فإنها تسعة وعشرون أو ثلاثون، وأبطل الله تعالى كبسة الفرس، وجعلها ثلاثة عشر شهرا في بعض السنة، وأبطل ما كان المشركون عليه من تغيير النظام، وصارت الشهور التي لها أسام لا تؤدي الأسماء معانيها، لأنها تارة تكون في الصيف، وتارة تكون في الشتاء، وأراد الله تعالى أن يجعل شهر رمضان تارة في الصيف، وتارة في الشتاء، استيغالهم مصالح الدين والدنيا في التخفيف تارة، وفي التغليظ أخرى، ولم يكن صومنا كصوم النصارى في الربيع لا يختلف.

التالي السابق


الخدمات العلمية