الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                ولو احتاج إلى إجراء ماء في أرض غيره من غير ضرر بصاحب الأرض : فهل يجبر ؟ على قولين للعلماء هما روايتان عن أحمد والأخبار بذلك مأثورة عن عمر بن الخطاب قال للمهنع : والله لنجرينها ولو على بطنك . ومذهب غير واحد من الصحابة والتابعين : أن زكاة الحلي عاريته . وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد وغيره .

                والمنافع التي يجب بذلها نوعان : منها ما هو حق المال ; كما ذكره في الخيل والإبل وعارية الحلي . ومنها ما يجب لحاجة الناس .

                وأيضا فإن بذل منافع البدن يجب عند الحاجة كما يجب تعليم العلم ; وإفتاء الناس ; وأداء الشهادة ; والحكم بينهم ; والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ; والجهاد ; وغير ذلك من منافع الأبدان ; فلا يمنع وجوب بذل منافع الأموال للمحتاج وقد قال تعالى : { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } وقال : { ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله } . وللفقهاء في أخذ الجعل على الشهادة أربعة أقوال ; هي أربعة أوجه في مذهب أحمد وغيره : ( أحدها : أنه لا يجوز مطلقا . و ( الثاني لا يجوز إلا عند الحاجة . [ ص: 100 ] و ( الثالث يجوز إلا أن يتعين عليه . و ( الرابع يجوز . فإن أخذ أجرا عند العمل لم يأخذ عند الأداء . وهذه المسائل لبسطها مواضع أخر .

                والمقصود هنا : أنه إذا كانت السنة قد مضت في مواضع بأن على المالك أن يبيع ماله بثمن مقدر : إما بثمن المثل وإما بالثمن الذي اشتراه به : لم يحرم مطلقا تقدير الثمن . ثم إن ما قدر به النبي صلى الله عليه وسلم في شراء نصيب شريك المعتق هو لأجل تكميل الحرية ; وذلك حق الله وما احتاج إليه الناس حاجة عامة فالحق فيه لله ; ولهذا يجعل العلماء هذه حقوقا لله تعالى وحدودا لله ; بخلاف حقوق الآدميين وحدودهم وذلك مثل حقوق المساجد ومال الفيء ; والصدقات والوقف على أهل الحاجات والمنافع العامة ونحو ذلك ومثل حد المحاربة والسرقة والزنا وشرب الخمر ; فإن الذي يقتل شخصا لأجل المال يقتل حتما باتفاق العلماء ; وليس لورثة المقتول العفو عنه ; بخلاف من يقتل شخصا لغرض خاص ; مثل خصومة بينهما ; فإن هذا حق لأولياء المقتول ; إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا عفوا باتفاق المسلمين . وحاجة المسلمين إلى الطعام واللباس وغير ذلك من مصلحة عامة : ليس الحق فيها لواحد بعينه ; فتقدير الثمن فيها بثمن المثل على من وجب عليه البيع أولى من تقديره لتكميل الحرية ; لكن تكميل الحرية وجب على الشريك المعتق ; فلو لم يقدر فيها الثمن لتضرر بطلب [ ص: 101 ] الشريك الآخر ما شاء وهنا عموم الناس عليهم شراء الطعام والثياب لأنفسهم ; فلو مكن من يحتاج إلى سلعته أن لا يبيع إلا بما شاء لكان ضرر الناس أعظم .

                ولهذا قال الفقهاء : إذا اضطر الإنسان إلى طعام الغير كان عليه بذله له بثمن المثل فيجب الفرق بين من عليه أن يبيع وبين من ليس عليه أن يبيع وأبعد الأئمة عن إيجاب المعاوضة وتقديرها هو الشافعي ; ومع هذا فإنه يوجب على من اضطر الإنسان إلى طعامه أن يعطيه بثمن المثل .

                وتنازع أصحابه في جواز التسعير للناس إذا كان بالناس حاجة ولهم فيه وجهان . وقال أصحاب أبي حنيفة : لا ينبغي للسلطان أن يسعر على الناس إلا إذا تعلق به حق ضرر العامة فإذا رفع إلى القاضي أمر المحتكر ببيع ما فضل عن قوته وقوت أهله على اعتبار السعر في ذلك فنهاه عن الاحتكار فإن رفع التاجر فيه إليه ثانيا حبسه وعزره على مقتضى رأيه زجرا له أو دفعا للضرر عن الناس فإن كان أرباب الطعام يتعدون ويتجاوزون القيمة تعديا فاحشا وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير : سعر حينئذ بمشورة أهل الرأي والبصيرة . وإذا تعدى أحد بعد ما فعل ذلك أجبره القاضي . وهذا على قول أبي حنيفة ظاهر حيث لا يرى الحجر على الحر وكذا عندهما أي عند أبي يوسف [ ص: 102 ] ومحمد ; إلا أن يكون الحجر على قوم معينين . ومن باع منهم بما قدره الإمام صح ; لأنه غير مكره عليه .

                وهل يبيع القاضي على المحتكر طعامه من غير رضاه ؟ قيل : هو [ على ] الاختلاف المعروف في مال المديون . وقيل : يبيع هاهنا بالاتفاق ; لأن أبا حنيفة يرى الحجر لدفع الضرر العام . والسعر لما غلا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وطلبوا منه التسعير فامتنع لم يذكر أنه كان هناك من عنده طعام امتنع من بيعه ; بل عامة من كانوا يبيعون الطعام إنما هم جالبون يبيعونه إذا هبطوا السوق ; لكن نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد : نهاه أن يكون له سمسار وقال : " { دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض } " وهذا ثابت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه فنهى الحاضر العالم بالسعر أن يتوكل للبادي الجالب للسلعة ; لأنه إذا توكل له مع خبرته بحاجة الناس إليه أغلى الثمن على المشتري ; فنهاه عن التوكل له - مع أن جنس الوكالة مباح - لما في ذلك من زيادة السعر على الناس .

                ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تلقي الجلب وهذا أيضا ثابت في الصحيح من غير وجه وجعل للبائع إذا هبط إلى السوق الخيار ; ولهذا كان أكثر الفقهاء على أنه نهى عن ذلك لما فيه من ضرر البائع بدون ثمن المثل وغبنه فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم الخيار لهذا [ ص: 103 ] البائع . وهل هذا الخيار فيه ثابت مطلقا أو إذا غبن ؟ قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد . أظهرهما أنه إنما يثبت له الخيار إذا غبن والثاني يثبت له الخيار مطلقا وهو ظاهر مذهب الشافعي .

                وقال طائفة : بل نهى عن ذلك لما فيه من ضرر المشتري إذا تلقاه المتلقي فاشتراه ثم باعه .

                وفي الجملة فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البيع والشراء الذي جنسه حلال حتى يعلم البائع بالسعر وهو ثمن المثل ويعلم المشتري بالسلعة . وصاحب القياس الفاسد يقول : للمشتري أن يشتري حيث شاء وقد اشترى من البائع كما يقول : وللبادي أن يوكل الحاضر .

                ولكن الشارع رأى المصلحة العامة ; فإن الجالب إذا لم يعرف السعر كان جاهلا بثمن المثل فيكون المشتري غارا له ; ولهذا ألحق مالك وأحمد بذلك كل مسترسل . والمسترسل : الذي لا يماكس والجاهل بقيمة المبيع ; فإنه بمنزلة الجالبين الجاهلين بالسعر فتبين أنه يجب على الإنسان أن لا يبيع مثل هؤلاء إلا بالسعر المعروف وهو ثمن المثل ; وإن لم يكن هؤلاء محتاجين إلى الابتياع من ذلك البائع ; لكن لكونهم جاهلين بالقيمة أو مسلمين إلى البائع غير مماكسين له والبيع يعتبر فيه الرضا والرضا يتبع العلم ومن لم يعلم أنه غبن فقد يرضى وقد لا [ ص: 104 ] يرضى فإذا علم أنه غبن ورضي فلا بأس بذلك وإذا لم يرض بثمن المثل لم يلتفت إلى سخطه .

                ولهذا أثبت الشارع الخيار لمن لم يعلم بالعيب أو التدليس ; فإن الأصل في البيع الصحة وأن يكون الباطن كالظاهر . فإذا اشترى على ذلك فما عرف رضاه إلا بذلك فإذا تبين أن في السلعة غشا أو عيبا فهو كما لو وصفها بصفة وتبينت بخلافها فقد يرضى وقد لا يرضى فإن رضي وإلا فسخ البيع . وفى الصحيحين عن حكيم بن حزام عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما } " . وفي السنن { أن رجلا كانت له شجرة في أرض غيره ; وكان صاحب الأرض يتضرر بدخول صاحب الشجرة فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يقبل منه بدلها أو يتبرع له بها فلم يفعل فأذن لصاحب الأرض في قلعها وقال لصاحب الشجرة : إنما أنت مضار } . فهنا أوجب عليه إذا لم يتبرع بها أن يبيعها ; فدل على وجوب البيع عند حاجة المشتري وأين حاجة هذا من حاجة عموم الناس إلى الطعام ؟ ونظير هؤلاء الذين يتجرون في الطعام بالطحن والخبز . ونظير هؤلاء صاحب الخان والقيسارية والحمام إذا احتاج الناس إلى الانتفاع بذلك وهو إنما ضمنها ليتجر فيها فلو امتنع من إدخال الناس إلا بما شاء وهم [ ص: 105 ] يحتاجون لم يمكن من ذلك وألزم ببذل ذلك بأجرة المثل ; كما يلزم الذي يشتري الحنطة ويطحنها ليتجر فيها والذي يشتري الدقيق ويخبزه ليتجر فيه مع حاجة الناس إلى ما عنده ; بل إلزامه ببيع ذلك بثمن المثل أولى وأحرى بل إذا امتنع من صنعة الخبز والطحن حتى يتضرر الناس بذلك ألزم بصنعتها كما تقدم وإذا كانت حاجة الناس تندفع إذا عملوا ما يكفي الناس بحيث يشتري إذ ذاك بالثمن المعروف لم يحتج إلى تسعير . وأما إذا كانت حاجة الناس لا تندفع إلا بالتسعير العادل سعر عليهم تسعير عدل ; لا وكس ولا شطط .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية