nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=7وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب .
جملة حال ، أي وهم لا قبل لهم بتأويله ; إذ ليس تأويله لأمثالهم ، كما قيل في المثل : ( ليس بعشك فادرجي ) .
ومن هنا
أمسك السلف عن تأويل المتشابهات ، غير الراجعة إلى التشريع ، فقال
أبو بكر - رضي الله عنه - : أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إن قلت في كتاب الله
[ ص: 164 ] بما لا أعلم وجاء في زمن
عمر - رضي الله عنه - رجل إلى
المدينة من
البصرة ، يقال له
صبيغ بن شريك أو
ابن عسل التميمي فجعل يسأل الناس عن متشابه القرآن ، وعن أشياء . فأحضره
عمر ، وضربه ضربا موجعا ، وكرر ذلك أياما ، فقال : حسبك يا أمير المؤمنين فقد ذهب ما كنت أجد في رأسي ، ثم أرجعه إلى
البصرة وكتب إلى
nindex.php?page=showalam&ids=110أبي موسى الأشعري أن يمنع الناس من مخالطته . ومن السلف من تأول عند عروض الشبهة لبعض الناس ، كما فعل
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس فيما ذكرناه آنفا .
قال
ابن العربي - في ( العواصم من القواصم ) - من الكائدين للإسلام
الباطنية والظاهرية . قلت : أما
الباطنية فقد جعلوا معظم القرآن متشابها ، وتأولوه بحسب أهوائهم ، وأما
الظاهريون فقد أكثروا في متشابهه ، واعتقدوا سبب التشابه واقعا ، فالأولون دخلوا في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=7وابتغاء تأويله ، والأخيرون خرجوا من قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=7وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم أو
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=7وما يعلم تأويله إلا الله فخالفوا الخلف والسلف . قال
ابن العربي - في العواصم - : وأصل
الظاهريين الخوارج الذين قالوا : لا حكم إلا لله ، يعني أنهم أخذوا بظاهر قوله تعالى : إن الحكم إلا لله ، ولم يتأولوه بما هو المراد من الحكم .
والمراد بالراسخين في العلم : الذين تمكنوا في علم الكتاب ، ومعرفة محامله ، وقام عندهم من الأدلة ما أرشدهم إلى مراد الله تعالى ، بحيث لا تروج عليهم الشبه . والرسوخ في كلام العرب : الثبات والتمكن في المكان ، يقال : رسخت القدم ترسخ رسوخا إذا ثبتت عند المشي ولم تتزلزل ، واستعير الرسوخ لكمال العقل والعلم بحيث لا تضلله الشبه ، ولا تتطرقه الأخطاء غالبا ، وشاعت هذه الاستعارة حتى صارت كالحقيقة . فالراسخون في العلم : الثابتون فيه العارفون بدقائقه ، فهم يحسنون مواقع التأويل ويعلمونه .
ولذا فقوله والراسخون معطوف على اسم الجلالة ، وفي هذا العطف تشريف عظيم : كقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=18شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم وإلى هذا التفسير مال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، ومجاهد ، والربيع بن سليمان ، nindex.php?page=showalam&ids=14946والقاسم بن محمد ، والشافعية ،
nindex.php?page=showalam&ids=13428وابن فورك ، والشيخ أحمد القرطبي ، وابن عطية ، وعلى هذا فليس في القرآن آية استأثر
[ ص: 165 ] الله بعلمها ، ويؤيد هذا أن الله أثبت للراسخين في العلم فضيلة ، ووصفهم بالرسوخ ، فآذن بأن لهم مزية في فهم المتشابه ; لأن المحكم يستوي في علمه جميع من يفهم الكلام ، ففي أي شيء رسوخهم ؟ وحكى إمام الحرمين ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : أنه قال في هاته الآية أنا ممن يعلم تأويله .
وقيل : الوقف على قوله إلا الله ، وإن جملة والراسخون في العلم مستأنفة ، وهذا مروي عن جمهور السلف ، وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر ، وعائشة ،
nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود ، وأبي ، ورواه
أشهب عن
مالك في جامع العتبية ، وقاله
nindex.php?page=showalam&ids=16561عروة بن الزبير ، nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي ، والأخفش nindex.php?page=showalam&ids=14888والفراء ، والحنفية ، وإليه مال
فخر الدين .
ويؤيد الأول وصفهم بالرسوخ في العلم ; فإنه دليل بين على أن الحكم الذي أثبت لهذا الفريق ، هو حكم من معنى العلم والفهم في المعضلات ، وهو تأويل المتشابه ، على أن أصل العطف هو عطف المفردات دون عطف الجمل ، فيكون الراسخون معطوفا على اسم الجلالة فيدخلون في أنهم يعلمون تأويله . ولو كان الراسخون مبتدأ وجملة
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=7يقولون آمنا به خبرا ، لكان حاصل هذا الخبر مما يستوي فيه سائر المسلمين الذين لا زيغ في قلوبهم ، فلا يكون لتخصيص الراسخين فائدة . قال
ابن عطية تسميتهم راسخين تقتضي أنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه الجميع وما الرسوخ إلا المعرفة بتصاريف الكلام بقريحة معدة ، وما ذكرناه وذكره ابن عطية لا يعدو أن يكون ترجيحا لأحد التفسيرين ، وليس إبطالا لمقابله إذ قد يوصف بالرسوخ من يفرق بين ما يستقيم تأويله ، وما لا مطمع في تأويله .
وفي قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=7وما يذكر إلا أولو الألباب إشعار بأن الراسخين يعلمون تأويل المتشابه .
واحتج أصحاب الرأي الثاني ، وهو رأي الوقف على اسم الجلالة : بأن الظاهر أن يكون جملة والراسخون مستأنفة لتكون معادلا لجملة
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=7فأما الذين في قلوبهم زيغ ، والتقدير : وأما الراسخون في العلم . وأجاب
التفتازاني بأن المعادل لا يلزم أن يكون مذكورا ، بل قد يحذف لدلالة الكلام عليه . واحتجوا أيضا بقوله تعالى
[ ص: 166 ] nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=7يقولون آمنا به كل من عند ربنا قال
الفخر : لو كانوا عالمين بتأويله لم يكن لهذا الكلام فائدة ; إذ الإيمان بما ظهر معناه أمر غير غريب . وسنجيب عن هذا عند الكلام على هذه الجملة ، وذكر
الفخر حججا غير مستقيمة .
ولا يخفى أن أهل القول الأول لا يثبتون متشابها غير ما خفي المراد منه ، وأن خفاء المراد متفاوت ، وأن أهل القول الثاني يثبتون متشابها استأثر الله بعلمه ، وهو أيضا متفاوت ; لأن منه ما يقبل تأويلات قريبة ، وهو مما ينبغي ألا يعد من المتشابه في اصطلاحهم ، لكن صنيعهم في الإمساك عن تأويل آيات كثيرة سهل تأويلها مثل
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=48فإنك بأعيننا دل على أنهم يسدون باب
nindex.php?page=treesubj&link=28085التأويل في المتشابه ، قال الشيخ
ابن عطية إن تأويل ما يمكن تأويله لا يعلم تأويله - على الاستيفاء - إلا الله تعالى ، فمن قال من العلماء الحذاق بأن الراسخين لا يعلمون تأويل المتشابه ، فإنما أراد هذا النوع ، وخافوا أن يظن أحد أن الله وصف الراسخين بعلم التأويل على الكمال .
وعلى الاختلاف في محمل العطف في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=7والراسخون في العلم انبنى اختلاف بين علماء الأمة في تأويل ما كان متشابها من آيات القرآن ، ومن صحاح الأخبار ، عن النبيء ، صلى الله عليه وسلم .
فكان رأي فريق منهم الإيمان بها ، على إبهامها وإجمالها ، وتفويض العلم بكنه المراد منها إلى الله تعالى ، وهذه طريقة سلف علمائنا ، قبل ظهور شكوك الملحدين أو المتعلمين ، وذلك في عصر الصحابة والتابعين وبعض عصر تابعيهم ، ويعبر عنها بطريقة السلف ، ويقولون : طريقة السلف أسلم ، أي أشد سلامة لهم من أن يتأولوا تأويلات لا يدرى مدى ما تفضي إليه من أمور لا تليق بجلال الله تعالى ولا تتسق مع ما شرعه للناس من الشرائع ، مع ما رأوا من اقتناع أهل عصرهم بطريقتهم ، وانصرافهم عن التعمق في طلب التأويل .
وكان رأي جمهور من جاء بعد عصر السلف تأويلها بمعان من طرائق استعمال الكلام العربي البليغ من مجاز ، واستعارة ، وتمثيل ، مع وجود الداعي إلى التأويل ، وهو تعطش العلماء الذين اعتادوا التفكر والنظر وفهم الجمع بين أدلة القرآن والسنة ، ويعبر عن هذه الطريقة بطريقة الخلف ، ويقولون : طريقة الخلف أعلم ، أي أنسب بقواعد
[ ص: 167 ] العلم وأقوى في تحصيل العلم لجدال الملحدين ، والمقنع لمن يتطلبون الحقائق من المتعلمين ، وقد يصفونها بأنها أحكم أي أشد إحكاما ; لأنها تقنع أصحاب الأغراض كلهم . وقد وقع هذان الوصفان في كلام المفسرين وعلماء الأصول ، ولم أقف على تعيين أول من صدر عنه ، وقد تعرض الشيخ
ابن تيمية - في العقيدة الحموية - إلى رد هذين الوصفين ولم ينسبهما إلى قائل . والموصوف بأسلم وبأعلم الطريقة لا أهلها ; فإن أهل الطريقتين من أئمة العلم ، وممن سلموا في دينهم من الفتن .
وليس في وصف هذه الطريقة بأنها أعلم أو أحكم ، غضاضة من الطريقة الأولى ; لأن العصور الذين درجوا على الطريقة الأولى فيهم من لا تخفى عليهم محاملها بسبب ذوقهم العربي ، وهديهم النبوي ، وفيهم من لا يعير البحث عنها جانبا من همته ، مثل سائر العامة . فلا جرم كان طي البحث عن تفصيلها أسلم للعموم ، وكان تفصيلها بعد ذلك أعلم لمن جاء بعدهم ، بحيث لو لم يؤولوها به لأوسعوا للمتطلعين إلى بيانها مجالا للشك أو الإلحاد أو ضيق الصدر في الاعتقاد .
واعلم أن التأويل منه ما هو واضح بين ، فصرف اللفظ المتشابه عن ظاهره إلى ذلك التأويل يعادل حمل اللفظ على أحد معنييه المشهورين لأجل كثرة استعمال اللفظ في المعنى غير الظاهر منه . فهذا القسم من التأويل حقيق بألا يسمى تأويلا ، وليس أحد محمليه بأقوى من الآخر إلا أن أحدهما أسبق في الوضع من الآخر ، والمحملان متساويان في الاستعمال وليس سبق إطلاق اللفظ على أحد المعنيين بمقتض ترجيح ذلك المعنى ، فكم من إطلاق مجازي للفظ هو أسبق إلى الأفهام من إطلاقه الحقيقي . وليس قولهم في علم الأصول بأن الحقيقة أرجح من المجاز بمقبول على عمومه .
وتسمية هذا النوع بالمتشابه ليست مرادة في الآية . وعده من المتشابه جمود .
ومن التأويل ما ظاهر معنى اللفظ فيه أشهر من معنى تأويله ولكن القرائن أو الأدلة أوجبت صرف اللفظ عن ظاهر معناه . فهذا حقيق بأن يعد من المتشابه .
ثم إن تأويل اللفظ في مثله قد يتيسر بمعنى مستقيم يغلب على الظن أنه المراد إذا جرى حمل اللفظ على ما هو من مستعملاته في الكلام البليغ مثل الأيدي والأعين في
[ ص: 168 ] قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=47بنيناها بأيد وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=48فإنك بأعيننا فمن أخذوا من مثله أن لله أعينا لا يعرف كنهها ، أو له يدا ليست كأيدينا ، فقد زادوا في قوة الاشتباه .
ومنه ما يعتبر تأويله احتمالا وتجويزا بأن يكون الصرف عن الظاهر متعينا . وأما حمله على ما أولوه به فعلى وجه الاحتمال والمثال ، وهذا مثل قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=5الرحمن على العرش استوى وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=210هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام فمثل ذلك مقطوع بوجوب تأويله ولا يدعي أحد أن ما أوله به هو المراد منه ولكنه وجه تابع لإمكان التأويل ، وهذا النوع أشد مواقع التشابه والتأويل .
وقد استبان لك من هذه التأويلات : أن نظم الآية جاء على أبلغ ما يعبر به في مقام يسع طائفتين من علماء الإسلام في مختلف العصور .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=7يقولون آمنا به حال من الراسخون أي يعلمون تأويله في هذه الحالة والمعنى عليه يحتمل أن يكون المراد من القول الكناية عن الاعتقاد ; لأن شأن المعتقد أن يقول معتقده ، أي يعلمون تأويله ولا يهجس في نفوسهم شك من جهة وقوع المتشابه حتى يقولوا : لماذا لم يجئ الكلام كله واضحا ، ويتطرقهم من ذلك إلى الريبة في كونه من عند الله ، فلذلك يقولون :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=7كل من عند ربنا . ويحتمل أن المراد : يقولون لغيرهم ، أي من لم يبلغ مرتبة الرسوخ من عامة المسلمين ، الذين لا قبل لهم بإدراك تأويله ، ليعلموهم الوقوف عند حدود الإيمان ، وعدم التطلع إلى ما ليس بالإمكان ، وهذا يقرب مما قاله أهل الأصول : إن المجتهد لا يلزمه بيان مدركه للعامي ، إذا سأله عن مأخذ الحكم ، إذا كان المدرك خفيا . وبهذا يحصل الجواب عن احتجاج الفخر بهذه الجملة لترجيح الوقف على اسم الجلالة .
وعلى قول المتقدمين يكون قوله : " يقولون " خبرا ، ومعنى قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=7آمنا به آمنا بكونه من عند الله ، وإن لم نفهم معناه .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=7كل من عند ربنا أي كل من المحكم والمتشابه . وهو على الوجهين بيان لمعنى قولهم :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=7آمنا به فلذلك قطعت الجملة . أي كل من المحكم والمتشابه ، منزل من الله .
[ ص: 169 ] وزيدت كلمة " عند " للدلالة على أن " من " هنا للابتداء الحقيقي دون المجازي ، أي هو منزل من وحي الله تعالى وكلامه ، وليس كقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=79ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك .
وجملة
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=7وما يذكر إلا أولو الألباب تذييل ، ليس من كلام الراسخين ، مسوق مساق الثناء عليهم في اهتدائهم إلى صحيح الفهم .
والألباب : العقول ، وتقدم عند قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=197واتقون يا أولي الألباب في سورة البقرة .
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=7وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ .
جُمْلَةُ حَالٍ ، أَيْ وَهُمْ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِتَأْوِيلِهِ ; إِذْ لَيْسَ تَأْوِيلُهُ لِأَمْثَالِهِمْ ، كَمَا قِيلَ فِي الْمَثَلِ : ( لَيْسَ بِعُشِّكِ فَادْرَجِي ) .
وَمِنْ هُنَا
أَمْسَكَ السَّلَفُ عَنْ تَأْوِيلِ الْمُتَشَابِهَاتِ ، غَيْرِ الرَّاجِعَةِ إِلَى التَّشْرِيعِ ، فَقَالَ
أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي إِنْ قُلْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ
[ ص: 164 ] بِمَا لَا أَعْلَمُ وَجَاءَ فِي زَمَنِ
عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَجُلٌ إِلَى
الْمَدِينَةِ مِنَ
الْبَصْرَةِ ، يُقَالُ لَهُ
صَبِيغُ بْنُ شَرِيكٍ أَوِ
ابْنُ عَسَلٍ التَّمِيمِيُّ فَجَعَلَ يَسْأَلُ النَّاسَ عَنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ ، وَعَنْ أَشْيَاءَ . فَأَحْضَرَهُ
عُمَرُ ، وَضَرَبَهُ ضَرْبًا مُوجِعًا ، وَكَرَّرَ ذَلِكَ أَيَّامًا ، فَقَالَ : حَسْبُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ ذَهَبَ مَا كُنْتُ أَجِدُ فِي رَأْسِي ، ثُمَّ أَرْجَعَهُ إِلَى
الْبَصْرَةِ وَكَتَبَ إِلَى
nindex.php?page=showalam&ids=110أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنْ يَمْنَعَ النَّاسَ مِنْ مُخَالَطَتِهِ . وَمِنَ السَّلَفِ مَنْ تَأَوَّلَ عِنْدَ عُرُوضِ الشُّبْهَةِ لِبَعْضِ النَّاسِ ، كَمَا فَعَلَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا .
قَالَ
ابْنُ الْعَرَبِيِّ - فِي ( الْعَوَاصِمِ مِنَ الْقَوَاصِمِ ) - مِنَ الْكَائِدِينَ لِلْإِسْلَامِ
الْبَاطِنِيَّةُ وَالظَّاهِرِيَّةُ . قُلْتُ : أَمَّا
الْبَاطِنِيَّةُ فَقَدْ جَعَلُوا مُعْظَمَ الْقُرْآنِ مُتَشَابِهًا ، وَتَأَوَّلُوهُ بِحَسَبِ أَهْوَائِهِمْ ، وَأَمَّا
الظَّاهِرِيُّونَ فَقَدْ أَكْثَرُوا فِي مُتَشَابِهِهِ ، وَاعْتَقَدُوا سَبَبَ التَّشَابُهِ وَاقِعًا ، فَالْأَوَّلُونَ دَخَلُوا فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=7وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ، وَالْأَخِيرُونَ خَرَجُوا مِنْ قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=7وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ أَوْ
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=7وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ فَخَالَفُوا الْخَلَفَ وَالسَّلَفَ . قَالَ
ابْنُ الْعَرَبِيِّ - فِي الْعَوَاصِمِ - : وَأَصْلُ
الظَّاهِرِيِّينَ الْخَوَارِجُ الَّذِينَ قَالُوا : لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ ، يَعْنِي أَنَّهُمْ أَخَذُوا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى : إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ، وَلَمْ يَتَأَوَّلُوهُ بِمَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْحُكْمِ .
وَالْمُرَادُ بِالرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ : الَّذِينَ تَمَكَّنُوا فِي عِلْمِ الْكِتَابِ ، وَمَعْرِفَةِ مَحَامِلِهِ ، وَقَامَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ مَا أَرْشَدَهُمْ إِلَى مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى ، بِحَيْثُ لَا تَرُوجُ عَلَيْهِمُ الشُّبَهُ . وَالرُّسُوخُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ : الثَّبَاتُ وَالتَّمَكُّنُ فِي الْمَكَانِ ، يُقَالُ : رَسَخَتِ الْقَدَمُ تَرْسَخُ رُسُوخًا إِذَا ثَبَتَتْ عِنْدَ الْمَشْيِ وَلَمْ تَتَزَلْزَلْ ، وَاسْتُعِيرَ الرُّسُوخُ لِكَمَالِ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ بِحَيْثُ لَا تُضَلِّلُهُ الشُّبَهُ ، وَلَا تَتَطَرَّقُهُ الْأَخْطَاءُ غَالِبًا ، وَشَاعَتْ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ حَتَّى صَارَتْ كَالْحَقِيقَةِ . فَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ : الثَّابِتُونَ فِيهِ الْعَارِفُونَ بِدَقَائِقِهِ ، فَهُمْ يُحْسِنُونَ مَوَاقِعَ التَّأْوِيلِ وَيَعْلَمُونَهُ .
وَلِذَا فَقَوْلُهُ وَالرَّاسِخُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ ، وَفِي هَذَا الْعَطْفِ تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ : كَقَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=18شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ وَإِلَى هَذَا التَّفْسِيرِ مَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَالرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ ، nindex.php?page=showalam&ids=14946وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، وَالشَّافِعِيَّةُ ،
nindex.php?page=showalam&ids=13428وَابْنُ فَوْرَكٍ ، وَالشَّيْخُ أَحْمَدُ الْقُرْطُبِيُّ ، وَابْنُ عَطِيَّةَ ، وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ اسْتَأْثَرَ
[ ص: 165 ] اللَّهُ بِعِلْمِهَا ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ أَثْبَتَ لِلرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ فَضِيلَةً ، وَوَصَفَهُمْ بِالرُّسُوخِ ، فَآذَنَ بِأَنَّ لَهُمْ مَزِيَّةً فِي فَهْمِ الْمُتَشَابِهِ ; لِأَنَّ الْمُحْكَمَ يَسْتَوِي فِي عِلْمِهِ جَمِيعُ مَنْ يَفْهَمُ الْكَلَامَ ، فَفِي أَيِّ شَيْءٍ رُسُوخُهُمْ ؟ وَحَكَى إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ ، عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّهُ قَالَ فِي هَاتِهِ الْآيَةِ أَنَا مِمَّنْ يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ .
وَقِيلَ : الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ إِلَّا اللَّهُ ، وَإِنَّ جُمْلَةَ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مُسْتَأْنَفَةٌ ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ جُمْهُورِ السَّلَفِ ، وَهُوَ قَوْلُ
nindex.php?page=showalam&ids=12ابْنِ عُمَرَ ، وَعَائِشَةَ ،
nindex.php?page=showalam&ids=10وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَأُبَيٍّ ، وَرَوَاهُ
أَشْهَبُ عَنْ
مَالِكٍ فِي جَامِعِ الْعُتْبِيَّةِ ، وَقَالَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=16561عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ، nindex.php?page=showalam&ids=15080وَالْكِسَائِيُّ ، وَالْأَخْفَشُ nindex.php?page=showalam&ids=14888وَالْفَرَّاءُ ، وَالْحَنَفِيَّةُ ، وَإِلَيْهِ مَالَ
فَخْرُ الدِّينِ .
وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ وَصْفُهُمْ بِالرُّسُوخِ فِي الْعِلْمِ ; فَإِنَّهُ دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي أُثْبِتَ لِهَذَا الْفَرِيقِ ، هُوَ حُكْمٌ مِنْ مَعْنَى الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ فِي الْمُعْضِلَاتِ ، وَهُوَ تَأْوِيلُ الْمُتَشَابِهِ ، عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْعَطْفِ هُوَ عَطْفُ الْمُفْرَدَاتِ دُونَ عَطْفِ الْجُمَلِ ، فَيَكُونُ الرَّاسِخُونَ مَعْطُوفًا عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فَيَدْخُلُونَ فِي أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ . وَلَوْ كَانَ الرَّاسِخُونَ مُبْتَدَأً وَجُمْلَةُ
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=7يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ خَبَرًا ، لَكَانَ حَاصِلُ هَذَا الْخَبَرِ مِمَّا يَسْتَوِي فِيهِ سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَا زَيْغَ فِي قُلُوبِهِمْ ، فَلَا يَكُونُ لِتَخْصِيصِ الرَّاسِخِينَ فَائِدَةٌ . قَالَ
ابْنُ عَطِيَّةَ تَسْمِيَتُهُمْ رَاسِخِينَ تَقْتَضِي أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَكْثَرَ مِنَ الْمُحْكَمِ الَّذِي يَسْتَوِي فِي عِلْمِهِ الْجَمِيعُ وَمَا الرُّسُوخُ إِلَّا الْمَعْرِفَةُ بِتَصَارِيفِ الْكَلَامِ بِقَرِيحَةٍ مُعَدَّةٍ ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ وَذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ لَا يَعْدُو أَنْ يَكُونَ تَرْجِيحًا لِأَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ ، وَلَيْسَ إِبْطَالًا لِمُقَابِلِهِ إِذْ قَدْ يُوصَفُ بِالرُّسُوخِ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ مَا يَسْتَقِيمُ تَأْوِيلُهُ ، وَمَا لَا مَطْمَعَ فِي تَأْوِيلِهِ .
وَفِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=7وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الرَّاسِخِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ .
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ الرَّأْيِ الثَّانِي ، وَهُوَ رَأْيُ الْوَقْفِ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ : بِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةُ وَالرَّاسِخُونَ مُسْتَأْنَفَةً لِتَكُونَ مُعَادِلًا لِجُمْلَةِ
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=7فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ، وَالتَّقْدِيرُ : وَأَمَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ . وَأَجَابَ
التَّفْتَازَانِيُّ بِأَنَّ الْمُعَادِلَ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَذْكُورًا ، بَلْ قَدْ يُحْذَفُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ . وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى
[ ص: 166 ] nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=7يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا قَالَ
الْفَخْرُ : لَوْ كَانُوا عَالِمِينَ بِتَأْوِيلِهِ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْكَلَامِ فَائِدَةٌ ; إِذِ الْإِيمَانُ بِمَا ظَهَرَ مَعْنَاهُ أَمْرٌ غَيْرُ غَرِيبٍ . وَسَنُجِيبُ عَنْ هَذَا عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ ، وَذَكَرَ
الْفَخْرُ حُجَجًا غَيْرَ مُسْتَقِيمَةٍ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ أَهْلَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَا يُثْبِتُونَ مُتَشَابِهًا غَيْرَ مَا خَفِيَ الْمُرَادُ مِنْهُ ، وَأَنَّ خَفَاءَ الْمُرَادِ مُتَفَاوِتٌ ، وَأَنَّ أَهْلَ الْقَوْلِ الثَّانِي يُثْبِتُونَ مُتَشَابِهًا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ ، وَهُوَ أَيْضًا مُتَفَاوِتٌ ; لِأَنَّ مِنْهُ مَا يَقْبَلُ تَأْوِيلَاتٍ قَرِيبَةً ، وَهُوَ مِمَّا يَنْبَغِي أَلَّا يُعَدَّ مِنَ الْمُتَشَابِهِ فِي اصْطِلَاحِهِمْ ، لَكِنَّ صَنِيعَهُمْ فِي الْإِمْسَاكِ عَنْ تَأْوِيلِ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ سَهْلٍ تَأْوِيلُهَا مِثْلَ
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=48فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ يَسُدُّونَ بَابَ
nindex.php?page=treesubj&link=28085التَّأْوِيلِ فِي الْمُتَشَابِهِ ، قَالَ الشَّيْخُ
ابْنُ عَطِيَّةَ إِنَّ تَأْوِيلَ مَا يُمْكِنُ تَأْوِيلُهُ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ - عَلَى الِاسْتِيفَاءِ - إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى ، فَمَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْحُذَّاقِ بِأَنَّ الرَّاسِخِينَ لَا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ ، فَإِنَّمَا أَرَادَ هَذَا النَّوْعَ ، وَخَافُوا أَنْ يَظُنَّ أَحَدٌ أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ الرَّاسِخِينَ بِعِلْمِ التَّأْوِيلِ عَلَى الْكَمَالِ .
وَعَلَى الِاخْتِلَافِ فِي مَحْمَلِ الْعَطْفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=7وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ انْبَنَى اخْتِلَافٌ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ فِي تَأْوِيلِ مَا كَانَ مُتَشَابِهًا مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ ، وَمِنْ صِحَاحِ الْأَخْبَارِ ، عَنِ النَّبِيءِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَكَانَ رَأْيُ فَرِيقٍ مِنْهُمُ الْإِيمَانَ بِهَا ، عَلَى إِبْهَامِهَا وَإِجْمَالِهَا ، وَتَفْوِيضَ الْعِلْمِ بِكُنْهِ الْمُرَادِ مِنْهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ سَلَفِ عُلَمَائِنَا ، قَبْلَ ظُهُورِ شُكُوكِ الْمُلْحِدِينَ أَوِ الْمُتَعَلِّمِينَ ، وَذَلِكَ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَبَعْضِ عَصْرِ تَابِعِيهِمْ ، وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِطَرِيقَةِ السَّلَفِ ، وَيَقُولُونَ : طَرِيقَةُ السَّلَفِ أَسْلَمُ ، أَيْ أَشَدُّ سَلَامَةً لَهُمْ مِنْ أَنْ يَتَأَوَّلُوا تَأْوِيلَاتٍ لَا يُدْرَى مَدَى مَا تُفْضِي إِلَيْهِ مِنْ أُمُورٍ لَا تَلِيقُ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا تَتَّسِقُ مَعَ مَا شَرَعَهُ لِلنَّاسِ مِنَ الشَّرَائِعِ ، مَعَ مَا رَأَوْا مِنِ اقْتِنَاعِ أَهْلِ عَصْرِهِمْ بِطَرِيقَتِهِمْ ، وَانْصِرَافِهِمْ عَنِ التَّعَمُّقِ فِي طَلَبِ التَّأْوِيلِ .
وَكَانَ رَأْيُ جُمْهُورِ مَنْ جَاءَ بَعْدَ عَصْرِ السَّلَفِ تَأْوِيلَهَا بِمَعَانٍ مِنْ طَرَائِقِ اسْتِعْمَالِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ الْبَلِيغِ مِنْ مَجَازٍ ، وَاسْتِعَارَةٍ ، وَتَمْثِيلٍ ، مَعَ وُجُودِ الدَّاعِي إِلَى التَّأْوِيلِ ، وَهُوَ تَعَطُّشُ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ اعْتَادُوا التَّفَكُّرَ وَالنَّظَرَ وَفَهْمَ الْجَمْعِ بَيْنَ أَدِلَّةِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ ، وَيُعَبَّرُ عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ بِطَرِيقَةِ الْخَلَفِ ، وَيَقُولُونَ : طَرِيقَةُ الْخَلَفِ أَعْلَمُ ، أَيْ أَنْسَبُ بِقَوَاعِدِ
[ ص: 167 ] الْعِلْمِ وَأَقْوَى فِي تَحْصِيلِ الْعِلْمِ لِجِدَالِ الْمُلْحِدِينَ ، وَالْمَقْنَعِ لِمَنْ يَتَطَلَّبُونَ الْحَقَائِقَ مِنَ الْمُتَعَلِّمِينَ ، وَقَدْ يَصِفُونَهَا بِأَنَّهَا أَحْكَمُ أَيْ أَشَدُّ إِحْكَامًا ; لِأَنَّهَا تُقْنِعُ أَصْحَابَ الْأَغْرَاضِ كُلَّهُمْ . وَقَدْ وَقَعَ هَذَانِ الْوَصْفَانِ فِي كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ وَعُلَمَاءِ الْأُصُولِ ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِ أَوَّلِ مَنْ صَدَرَ عَنْهُ ، وَقَدْ تَعَرَّضَ الشَّيْخُ
ابْنُ تَيْمِيَّةَ - فِي الْعَقِيدَةِ الْحَمَوِيَّةِ - إِلَى رَدِّ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ وَلَمْ يَنْسُبْهُمَا إِلَى قَائِلٍ . وَالْمَوْصُوفُ بِأَسْلَمَ وَبِأَعْلَمَ الطَّرِيقَةُ لَا أَهْلُهَا ; فَإِنَّ أَهْلَ الطَّرِيقَتَيْنِ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ ، وَمِمَّنْ سَلِمُوا فِي دِينِهِمْ مِنَ الْفِتَنِ .
وَلَيْسَ فِي وَصْفِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ بِأَنَّهَا أَعْلَمُ أَوْ أَحْكَمُ ، غَضَاضَةٌ مِنَ الطَّرِيقَةِ الْأُولَى ; لِأَنَّ الْعُصُورَ الَّذِينَ دَرَجُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ الْأُولَى فِيهِمْ مَنْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِمْ مَحَامِلُهَا بِسَبَبِ ذَوْقِهِمُ الْعَرَبِيِّ ، وَهَدْيِهِمُ النَّبَوِيِّ ، وَفِيهِمْ مَنْ لَا يُعِيرُ الْبَحْثَ عَنْهَا جَانِبًا مِنْ هِمَّتِهِ ، مِثْلَ سَائِرِ الْعَامَّةِ . فَلَا جَرَمَ كَانَ طَيُّ الْبَحْثِ عَنْ تَفْصِيلِهَا أَسْلَمَ لِلْعُمُومِ ، وَكَانَ تَفْصِيلُهَا بَعْدَ ذَلِكَ أَعْلَمَ لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ ، بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يُؤَوِّلُوهَا بِهِ لَأَوْسَعُوا لِلْمُتَطَلِّعِينَ إِلَى بَيَانِهَا مَجَالًا لِلشَّكِّ أَوِ الْإِلْحَادِ أَوْ ضِيقِ الصَّدْرِ فِي الِاعْتِقَادِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّأْوِيلَ مِنْهُ مَا هُوَ وَاضِحٌ بَيِّنٌ ، فَصَرْفُ اللَّفْظِ الْمُتَشَابِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ إِلَى ذَلِكَ التَّأْوِيلِ يُعَادِلُ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْهِ الْمَشْهُورَيْنِ لِأَجْلِ كَثْرَةِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي الْمَعْنَى غَيْرِ الظَّاهِرِ مِنْهُ . فَهَذَا الْقِسْمُ مِنَ التَّأْوِيلِ حَقِيقٌ بِأَلَّا يُسَمَّى تَأْوِيلًا ، وَلَيْسَ أَحَدُ مَحْمَلَيْهِ بِأَقْوَى مِنَ الْآخَرِ إِلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا أَسْبَقُ فِي الْوَضْعِ مِنَ الْآخَرِ ، وَالْمَحْمَلَانِ مُتَسَاوِيَانِ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَلَيْسَ سَبْقُ إِطْلَاقِ اللَّفْظِ عَلَى أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ بِمُقْتَضٍ تَرْجِيحَ ذَلِكَ الْمَعْنَى ، فَكَمْ مِنْ إِطْلَاقٍ مَجَازِيٍّ لِلَفْظٍ هُوَ أَسْبَقُ إِلَى الْأَفْهَامِ مِنْ إِطْلَاقِهِ الْحَقِيقِيِّ . وَلَيْسَ قَوْلُهُمْ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ بِأَنَّ الْحَقِيقَةَ أَرْجَحُ مِنَ الْمَجَازِ بِمَقْبُولٍ عَلَى عُمُومِهِ .
وَتَسْمِيَةُ هَذَا النَّوْعِ بِالْمُتَشَابِهِ لَيْسَتْ مُرَادَةً فِي الْآيَةِ . وَعَدُّهُ مِنَ الْمُتَشَابِهِ جُمُودٌ .
وَمِنَ التَّأْوِيلِ مَا ظَاهِرُ مَعْنَى اللَّفْظِ فِيهِ أَشْهَرُ مِنْ مَعْنَى تَأْوِيلِهِ وَلَكِنَّ الْقَرَائِنَ أَوِ الْأَدِلَّةَ أَوْجَبَتْ صَرْفَ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِ مَعْنَاهُ . فَهَذَا حَقِيقٌ بِأَنْ يُعَدَّ مِنَ الْمُتَشَابِهِ .
ثُمَّ إِنَّ تَأْوِيلَ اللَّفْظِ فِي مِثْلِهِ قَدْ يَتَيَسَّرُ بِمَعْنًى مُسْتَقِيمٍ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ الْمُرَادُ إِذَا جَرَى حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى مَا هُوَ مِنْ مُسْتَعْمَلَاتِهِ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ مِثْلَ الْأَيْدِي وَالْأَعْيُنِ فِي
[ ص: 168 ] قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=47بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=48فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا فَمَنْ أَخَذُوا مِنْ مِثْلِهِ أَنَّ لِلَّهِ أَعْيُنًا لَا يُعْرَفُ كُنْهُهَا ، أَوْ لَهُ يَدًا لَيْسَتْ كَأَيْدِينَا ، فَقَدْ زَادُوا فِي قُوَّةِ الِاشْتِبَاهِ .
وَمِنْهُ مَا يُعْتَبَرُ تَأْوِيلُهُ احْتِمَالًا وَتَجْوِيزًا بِأَنْ يَكُونَ الصَّرْفُ عَنِ الظَّاهِرِ مُتَعَيِّنًا . وَأَمَّا حَمْلُهُ عَلَى مَا أَوَّلُوهُ بِهِ فَعَلَى وَجْهِ الِاحْتِمَالِ وَالْمِثَالِ ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=5الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=210هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ فَمِثْلُ ذَلِكَ مَقْطُوعٌ بِوُجُوبِ تَأْوِيلِهِ وَلَا يَدَّعِي أَحَدٌ أَنَّ مَا أَوَّلَهُ بِهِ هُوَ الْمُرَادُ مِنْهُ وَلَكِنَّهُ وَجْهٌ تَابِعٌ لِإِمْكَانِ التَّأْوِيلِ ، وَهَذَا النَّوْعُ أَشَدُّ مَوَاقِعِ التَّشَابُهِ وَالتَّأْوِيلِ .
وَقَدِ اسْتَبَانَ لَكَ مِنْ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ : أَنَّ نَظْمَ الْآيَةِ جَاءَ عَلَى أَبْلَغِ مَا يُعَبَّرُ بِهِ فِي مَقَامٍ يَسَعُ طَائِفَتَيْنِ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ فِي مُخْتَلِفِ الْعُصُورِ .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=7يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ حَالٌ مِنَ الرَّاسِخُونَ أَيْ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْقَوْلِ الْكِنَايَةَ عَنِ الِاعْتِقَادِ ; لِأَنَّ شَأْنَ الْمُعْتَقِدِ أَنْ يَقُولَ مُعْتَقَدَهُ ، أَيْ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ وَلَا يَهْجِسُ فِي نُفُوسِهِمْ شَكٌّ مِنْ جِهَةِ وُقُوعِ الْمُتَشَابِهِ حَتَّى يَقُولُوا : لِمَاذَا لَمْ يَجِئِ الْكَلَامُ كُلُّهُ وَاضِحًا ، وَيَتَطَرَّقُهُمْ مِنْ ذَلِكَ إِلَى الرِّيبَةِ فِي كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، فَلِذَلِكَ يَقُولُونَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=7كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا . وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ : يَقُولُونَ لِغَيْرِهِمْ ، أَيْ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مَرْتَبَةَ الرُّسُوخِ مِنْ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، الَّذِينَ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِإِدْرَاكِ تَأْوِيلِهِ ، لِيُعَلِّمُوهُمُ الْوُقُوفَ عِنْدَ حُدُودِ الْإِيمَانِ ، وَعَدَمَ التَّطَلُّعِ إِلَى مَا لَيْسَ بِالْإِمْكَانِ ، وَهَذَا يَقْرُبُ مِمَّا قَالَهُ أَهْلُ الْأُصُولِ : إِنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يَلْزَمُهُ بَيَانُ مُدْرَكِهِ لِلْعَامِّيِّ ، إِذَا سَأَلَهُ عَنْ مَأْخَذِ الْحُكْمِ ، إِذَا كَانَ الْمُدْرَكُ خَفِيًّا . وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عَنِ احْتِجَاجِ الْفَخْرِ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ لِتَرْجِيحِ الْوَقْفِ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ .
وَعَلَى قَوْلِ الْمُتَقَدِّمِينَ يَكُونُ قَوْلُهُ : " يَقُولُونَ " خَبَرًا ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=7آمَنَّا بِهِ آمَنَّا بِكَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، وَإِنْ لَمْ نَفْهَمْ مَعْنَاهُ .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=7كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا أَيْ كُلٌّ مِنَ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ . وَهُوَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ بَيَانٌ لِمَعْنَى قَوْلِهِمْ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=7آمَنَّا بِهِ فَلِذَلِكَ قُطِعَتِ الْجُمْلَةُ . أَيْ كُلٌّ مِنَ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ ، مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ .
[ ص: 169 ] وَزِيدَتْ كَلِمَةُ " عِنْدَ " لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ " مِنْ " هُنَا لِلِابْتِدَاءِ الْحَقِيقِيِّ دُونَ الْمَجَازِيِّ ، أَيْ هُوَ مُنَزَّلٌ مِنْ وَحْيِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَامِهِ ، وَلَيْسَ كَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=79مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ .
وَجُمْلَةُ
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=7وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ تَذْيِيلٌ ، لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الرَّاسِخِينَ ، مَسُوقٌ مَسَاقَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ فِي اهْتِدَائِهِمْ إِلَى صَحِيحِ الْفَهْمِ .
وَالْأَلْبَابُ : الْعُقُولُ ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=197وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ .