الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وكذلك محاباة الولاة في المعاملة من المبايعة والمؤاجرة والمضاربة والمساقاة والمزارعة ونحو ذلك هو من نوع الهدية ; ولهذا شاطر عمر بن الخطاب رضي الله عنه من عماله من كان له فضل ودين لا يتهم بخيانة ; وإنما شاطرهم لما كانوا خصوا به لأجل الولاية من محاباة وغيرها وكان الأمر يقتضي ذلك ; لأنه كان إمام عدل يقسم بالسوية .

                فلما تغير الإمام والرعية كان الواجب على كل إنسان أن يفعل من الواجب ما يقدر عليه ويترك ما حرم عليه ولا يحرم عليه ما أباح الله له .

                وقد يبتلى الناس من الولاة بمن يمتنع من الهدية ونحوها ; ليتمكن بذلك من استيفاء المظالم منهم ويترك ما أوجبه الله من قضاء حوائجهم [ ص: 282 ] فيكون من أخذ منهم عوضا على كف ظلم وقضاء حاجة مباحة أحب إليهم من هذا ; فإن الأول قد باع آخرته بدنيا غيره وأخسر الناس صفقة من باع آخرته بدنيا غيره ; وإنما الواجب كف الظلم عنهم بحسب القدرة وقضاء حوائجهم التي لا تتم مصلحة الناس إلا بها : من تبليغ ذي السلطان حاجاتهم وتعريفه بأمورهم ودلالته على مصالحهم وصرفه عن مفاسدهم ; بأنواع الطرق اللطيفة وغير اللطيفة ; كما يفعل ذوو الأغراض من الكتاب ونحوهم في أغراضهم .

                ففي حديث هند بن أبي هالة رضي الله عنه { عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : أبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغها ; فإنه من أبلغ ذا سلطان حاجة من لا يستطيع إبلاغها : ثبت الله قدميه على الصراط يوم تزل الأقدام } وقد روى الإمام أحمد وأبو داود في سننه عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له عليها هدية فقبلها فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا } وروى إبراهيم الحربي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : السحت أن يطلب الحاجة للرجل فتقضى له فيهدى إليه هدية فيقبلها وروي أيضا عن مسروق : أنه كلم ابن زياد في مظلمة فردها فأهدى له صاحبها وصيفا فرده عليه وقال : سمعت ابن مسعود يقول : من [ ص: 283 ] رد عن مسلم مظلمة فرزأه عليها قليلا أو كثيرا فهو سحت ; فقلت : يا أبا عبد الرحمن ما كنا نرى السحت إلا الرشوة في الحكم قال : ذاك كفر .

                فأما إذا كان ولي الأمر يستخرج من العمال ما يريد أن يختص به هو وذووه فلا ينبغي إعانة واحد منهما إذ كل منها ظالم كلص سرق من لص وكالطائفتين المقتتلتين على عصبيه ورئاسة ; ولا يحل للرجل أن يكون عونا على ظلم ; فإن التعاون نوعان : الأول : تعاون على البر والتقوى : من الجهاد وإقامة الحدود واستيفاء الحقوق وإعطاء المستحقين ; فهذا مما أمر الله به ورسوله . ومن أمسك عنه خشية أن يكون من أعوان الظلمة فقد ترك فرضا على الأعيان أو على الكفاية ; متوهما أنه متورع . وما أكثر ما يشتبه الجبن والفشل بالورع إذ كل منهما كف وإمساك .

                والثاني : تعاون على الإثم والعدوان كالإعانة على دم معصوم أو أخذ مال معصوم أو ضرب من لا يستحق الضرب ونحو ذلك فهذا الذي حرمه الله ورسوله .

                نعم إذا كانت الأموال قد أخذت بغير حق وقد تعذر ردها إلى أصحابها ككثير من الأموال السلطانية ; فالإعانة على صرف هذه [ ص: 284 ] الأموال في مصالح المسلمين كسداد الثغور ونفقة المقاتلة ونحو ذلك : من الإعانة على البر والتقوى ; إذ الواجب على السلطان في هذه الأموال - إذا لم يمكن معرفة أصحابها وردها عليهم ولا على ورثتهم - أن يصرفها - مع التوبة إن كان هو الظالم - إلى مصالح المسلمين . هذا هو قول جمهور العلماء كمالك وأبي حنيفة وأحمد وهو منقول عن غير واحد من الصحابة وعلى ذلك دلت الأدلة الشرعية كما هو منصوص في موضع آخر وإن كان غيره قد أخذها فعليه هو أن يفعل بها ذلك كذلك لو امتنع السلطان من ردها : كانت الإعانة على إنفاقها في مصالح أصحابها أولى من تركها بيد من يضيعها على أصحابها وعلى المسلمين .

                فإن مدار الشريعة على قوله تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم } المفسر لقوله : { اتقوا الله حق تقاته } وعلى قول النبي صلى الله عليه وسلم { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } أخرجاه في الصحيحين . وعلى أن الواجب تحصيل المصالح وتكميلها ; وتعطيل المفاسد وتقليلها فإذا تعارضت كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناها : هو المشروع .

                والمعين على الإثم والعدوان من أعان الظالم على ظلمه أما من [ ص: 285 ] أعان المظلوم على تخفيف الظلم عنه أو على أداء المظلمة : فهو وكيل المظلوم ; لا وكيل الظالم ; بمنزلة الذي يقرضه أو الذي يتوكل في حمل المال له إلى الظالم . مثال ذلك ولي اليتيم والوقف إذا طلب ظالم منه مالا فاجتهد في دفع ذلك بمال أقل منه إليه أو إلى غيره بعد الاجتهاد التام في الدفع ; فهو محسن وما على المحسنين من سبيل .

                وكذلك وكيل المالك من المنادين والكتاب وغيرهم الذي يتوكل لهم في العقد والقبض ودفع ما يطلب منهم ; لا يتوكل للظالمين في الأخذ .

                كذلك لو وضعت مظلمة على أهل قرية أو درب أو سوق أو مدينة فتوسط رجل منهم محسن في الدفع عنهم بغاية الإمكان وقسطها بينهم على قدر طاقتهم من غير محاباة لنفسه ولا لغيره ولا ارتشاء بل توكل لهم في الدفع عنهم والإعطاء : كان محسنا ; لكن الغالب أن من يدخل في ذلك يكون وكيل الظالمين محابيا مرتشيا مخفرا لمن يريد وآخذا ممن يريد . وهذا من أكبر الظلمة الذين يحشرون في توابيت من نار هم وأعوانهم وأشباههم ثم يقذفون في النار .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية