الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم عطف على في جنات ونعيم إلخ .

[ ص: 52 ] والإمداد : إعطاء المدد وهو الزيادة من نوع نافع فيما زيد فيه ، أي : زدناهم على ما ذكر من النعيم والأكل والشرب الهنيء فاكهة ولحما مما يشتهون من الفواكه واللحوم التي يشتهونها ، أي : لايؤتى لهم بشيء لا يرغبون فيه فلكل منهم ما اشتهى .

وخص الفاكهة واللحم تمهيدا لقوله " يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم " منحهم الله في الآخرة لذة نشوة الخمر والمنادمة على شربها لأنها من أحسن اللذات فيما ألفته نفوسهم ، وكان أهل الترف في الدنيا إذا شربوا الخمر في الدنيا كسروا سورة حدتها في البطن بالشواء من اللحم قال النابغة يصف قرن الثور : سفود شرب نسوه عند مفتأد ويدفعون لذغ الخمر عن أفواههم بأكل الفواكه ويسمونها النقل ( بضم النون وفتحها ) ويكون من ثمار ومقاث .

ولذلك جيء بقوله يتنازعون حالا من ضمير الغائب في أمددناهم بفاكهة إلخ .

والتنازع أطلق على التداول والتعاطي . وأصله تفاعل من نزع الدلو من البئر عند الاستقاء ، فإن الناس كانوا إذا وردوا للاستقاء نزع أحدهم دلوه من الماء ثم ناول الدلو لمن حوله وربما كان الرجل القوي الشديد ينزع من البئر للمستقين كلهم يكفيهم تعب النزع ، ويسمى الماتح بمثناة فوقية .

وقد ذكر الله تعالى نزع موسى عليه السلام لابنتي شعيب لما رأى انقباضهما عن الاندماج في الرعاء . وذكر النبيء - صلى الله عليه وسلم - في رؤياه نزعه على القليب ثم نزع أبي بكر - رضي الله عنه - ثم نزع عمر - رضي الله عنه - . ثم استعير أو جعل مجازا عن المداولة والمعاورة في مناولة أكؤس الشراب ، قال الأعشى :

نازعتهم قضب الريحان متكئا     وخمرة مزة راووقها خضل

والمعنى : أن بعضهم يصب لبعض الخمر ويناوله إيثارا وكرامة .

وقيل : تنازعهم الكأس مجاذبة بعضهم كأس بعض إلى نفسه للمداعبة كما قال امرؤ القيس في المداعبة على الطعام : [ ص: 53 ]

فظل العذارى يرتمين بلحمها     وشحم كهداب الدمقس المفتل

والكأس : إناء تشرب فيه الخمر لا عروة له ولا خرطوم ، وهو مؤنث ، فيجوز أن يكون هنا مرادا به الإناء المعروف ومرادا به الجنس ، وتقدم قوله في سورة الصافات يطاف عليهم بكأس من معين ، وليس المراد أنهم يشربون في كأس واحدة بأخذ أحدهم من آخر كأسه .

ويجوز أن يراد بالكأس الخمر ، وهو من إطلاق اسم المحل على الحال ، مثل قولهم : سال الوادي وكما قال الأعشى : نازعتهم قضب الريحان ( البيت السابق آنفا ) .

وجملة لا لغو فيها ولا تأثيم يجوز أن تكون صفة لكأس وضمير لا لغو فيها عائد إلى كأس ووصف الكأس ب لا لغو فيها ولا تأثيم .

إن فهم الكأس بمعنى الإناء المعروف فهو على تقدير : لا لغو ولا تأثيم لصاحبها ، فإن في للظرفية المجازية التي تؤول بالملابسة ، كقوله تعالى وجاهدوا في الله حق جهاده وقول النبيء - صلى الله عليه وسلم - ففيهما ، أي : والديك فجاهد ، أي : جاهد ببرهما ، أو تؤول " في " بمعنى التعليم كقول النبيء - صلى الله عليه وسلم - دخلت امرأة النار في هرة حبستها حتى ماتت جوعا .

وإن فهم الكأس مرادا به الخمر كانت " في " مستعارة للسببية ، أي : لا لغو يقع بسبب شربها . والمعنى على كلا الوجهين أنها لا يخالط شاربيها اللغو والإثم بالسباب والضرب ونحوه ، أي : أن الخمر التي استعملت الكأس لها ليست كخمور الدنيا ، ويجوز أن تكون جملة لا لغو فيها ولا تأثيم مستأنفة ناشئة عن جملة يتنازعون فيها كأسا ، ويكون ضمير " فيها " عائدا إلى جنات من قوله إن المتقين في جنات مثل ضمير " فيها كأسا " ، فتكون في الجملة معنى التذييل ؛ لأنه إذا انتفى اللغو والتأثيم عن أن يكونا في الجنة انتفى أن يكونا في كأس شرب أهل الجنة .

ومثل هذين الوجهين يأتي في قوله تعالى إن للمتقين مفازا حدائق وأعنابا [ ص: 54 ] إلى قوله لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا في سورة النبإ .

واللغو : سقط الكلام والهذيان الذي يصدر عن خلل العقل .

والتأثيم : ما يؤثم به فاعله شرعا أو عادة من فعل أو قول ، مثل الضرب والشتم وتمزيق الثياب وما يشبه أفعال المجانين من آثار العربدة مما لا يخلو عنه الندامى غالبا ، فأهل الجنة منزهون عن ذلك كله ؛ لأنهم من عالم الحقائق والكمالات ، فهم حكماء علماء ، وقد تمدح أصحاب الأحلام من أهل الجاهلية بالتنزه عن مثل ذلك ، ومنهم من اتقى ما يعرض من الفلتات فحرم على نفسه الخمر مثل قيس بن عاصم .

وقرأ الجمهور لا لغو فيها ولا تأثيم برفعهما على أن " لا " مشبهة بليس . وقرأه ابن كثير وأبو عمرو بفتحهما على أن " لا " مشبهة بإن وهما وجهان في نفي النكرة إذا كانت إرادة الواحد غير محتملة ومثله قولها في حديث أم زرع : زوجي كليل تهامة لا حر ولا قر ولا مخافة ولا سآمة رويت النكرات الأربع بالرفع وبالنصب .

التالي السابق


الخدمات العلمية