الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              2176 [ ص: 146 ] 4 - باب: جوار أبي بكر في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعقده

                                                                                                                                                                                                                              2297 - حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، قال ابن شهاب: فأخبرني عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - - قالت: لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين. وقال أبو صالح: حدثني عبد الله، عن يونس، عن الزهري قال: أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها قالت: لم أعقل أبوي قط، إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طرفي النهار بكرة وعشية، فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا قبل الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة - وهو: سيد القارة - فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي فأنا أريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي. قال ابن الدغنة: إن مثلك لا يخرج ولا يخرج، فإنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وأنا لك جار فارجع فاعبد ربك ببلادك. فارتحل ابن الدغنة، فرجع مع أبي بكر، فطاف في أشراف كفار قريش، فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله، ولا يخرج، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟ فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة وآمنوا أبا بكر، وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصل وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك، ولا يستعلن به، فإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا. قال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فطفق أبو بكر يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بالصلاة ولا القراءة في غير داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، وبرز فكان يصلي فيه، ويقرأ القرآن، فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، يعجبون وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم، فقالوا له: إنا كنا أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في داره، وإنه جاوز ذلك، فابتنى مسجدا بفناء داره، وأعلن الصلاة [ ص: 147 ] والقراءة، وقد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا، فأته فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن ذلك فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان. قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة أبا بكر، فقال: قد علمت الذي عقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترد إلي ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له. قال أبو بكر: إني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ بمكة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد أريت دار هجرتكم، رأيت سبخة ذات نخل بين لابتين". وهما الحرتان، فهاجر من هاجر قبل المدينة حين ذكر ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورجع إلى المدينة بعض من كان هاجر إلى أرض الحبشة، وتجهز أبو بكر مهاجرا، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي". قال أبو بكر: هل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: "نعم". فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصحبه وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر أربعة أشهر. [انظر: 476 - فتح: 4 \ 475]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه حديث عائشة : لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين.

                                                                                                                                                                                                                              وذكر جوار ابن الدغنة... إلى آخره.

                                                                                                                                                                                                                              وقد سلف بعضه في المساجد.

                                                                                                                                                                                                                              وهذا الجوار كان معروفا بين العرب يجيرون من لجأ إليهم واستجار بهم، وقد أجار أبو طالب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يكون الجوار إلا من الظلم والعدا. [ ص: 148 ]

                                                                                                                                                                                                                              فيه: أنه إذا خشي المؤمن على نفسه من ظالم أنه يباح له وجائز أن يستجير بمن يمنعه ويحميه من الظلم، وإن كان مجيره كافرا إن أراد الأخذ بالرخصة، وإن أراد الأخذ بالشدة على نفسه فله ذلك، كما رد الصديق الجوار ورضي بجوار الله ورسوله، والصديق يومئذ كان من المستضعفين، فآثر الصبر على ما يناله من الأذى محتسبا على الله واثقا به، فوفى الله له بما وثق به منه ولم ينله مكروه حتى أذن في الهجرة فخرج مع حبيبه، ونجاهما الله من كيد أعدائهما حتى بلغ مراده - عز وجل - من إظهار النبوة وإعلاء الدين وكان للصديق في ذلك من الفضل والصدق في نصر رسوله وبذله نفسه وماله في ذلك ما لم يخف مكانه ولا جهل موضعه.

                                                                                                                                                                                                                              وقط - بالتشديد والضم - وهي الأبد الماضي، تقول: ما رأيته قط، قال أبو علي: قط تجزم إذا كانت بمعنى القليل، وتضم وتثقل إذا كانت في معنى الزمن والحين من الدهر تقول: لم أر هذا قط، وليس عندي إلا هذا قط.

                                                                                                                                                                                                                              وقولها: (وهما يدينان الدين)، أي: يطيعان الله، وذلك أن مولدها بعد البعث بسنتين، وقيل: بخمس، وقيل: بسبع، ولا وجه له؛ لإجماعهم أنها كانت حين هاجر بنت ثمان، وأكثر ما قيل: أن مقامه بمكة بعد البعث ثلاث عشرة، وإنما يصح خمس على قول من يقول: أقام ثلاث عشرة بمكة، وسنتين على قول من يقول: أقام عشرا بها. وتزوجها بنت ست، وقيل: سبع، وبنى بها بنت تسع، ومات عنها وهي بنت ثماني عشرة، وعاشت بعده ثمانيا وأربعين سنة.

                                                                                                                                                                                                                              وقولها: (فلما ابتلي المسلمون) تريد بأذى المشركين. [ ص: 149 ]

                                                                                                                                                                                                                              وقولها: (خرج أبو بكر مهاجرا) قال الأزهري : أصل المهاجرة عند العرب: خروج البدوي من البادية إلى المدن، يقال: هاجر البدوي: إذا حضر وأقام كأنه ترك الأولى للثانية.

                                                                                                                                                                                                                              و (الغماد) - بكسر الغين المعجمة في الأصل، وضبطه عند ابن فارس بضمها - قال: وهي أرض.

                                                                                                                                                                                                                              و (الدغنة): بفتح الدال وكسر الغين المعجمة وتخفيف النون، قال أبو الحسن : كذا يرويه جميع الناس، وأهل العربية يضمون الدال والغين ويشددون النون، وعند المروزي بفتح الغين. قال الأصيلي : كذا قرأه لنا. وقيل: إنما كان ذلك؛ لأنه كان في لسانه استرخاء لا يملكه، والصواب الأول، يقال: الدثنة، والدغن: الدجن، والدثنة: المسترخية اللحم، والدغنة أمه وقيل: رايته.

                                                                                                                                                                                                                              و (القارة) حي من العرب، وهم أرمى الناس بالنبل، ومنه المثل: قد أنصف القارة من راماها.

                                                                                                                                                                                                                              (أسيح): أذهب، لا يريد موضعا بعينه حتى يجد موضعا فيستقر به.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (تكسب المعدوم) إلى آخره سلف في الإيمان.

                                                                                                                                                                                                                              وقول ابن الدغنة: (إن أبا بكر لا يخرج مثله، ولا يخرج)، أي: إن رغب فيه، وكذا ينبغي أن كل من ينتفع بإقامته لا يخرج ويمنع منه إن أراده، حتى قال محمد بن مسلمة في الفقيه: ليس له أن يغزو؛ لأن ثم من ينوب عنه فيه، وليس يوجد من يقوم مقامه في التعليم، ويمنع [ ص: 150 ] من الخروج إن أراده، واحتج بقوله تعالى: وما كان المؤمنون لينفروا كافة [التوبة: 122].

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (وأنا لك جار)، أي: مجير؛ لقوله تعالى: وإني جار لكم [الأنفال: 48] والجار يكون المجير والمستجير أي: أنا مؤمنك ممن أخافك منهم.

                                                                                                                                                                                                                              و (الأشراف) جمع شريف.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (فطفق أبو بكر)، هو بكسر الفاء تقول: طفق يفعل كذا مثل ظل مثله، قال صاحب "الأفعال": طفق بالشيء طفوقا: إذا أدام فعله ليلا ونهارا، ومنه قوله تعالى: فطفق مسحا بالسوق [ص: 33].

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (ثم بدا لأبي بكر)، أي: ظهر له غير ما كان يفعله.

                                                                                                                                                                                                                              فابتنى مسجدا بفناء داره، وهو أول مسجد بني في الإسلام، قاله أبو الحسن . قال الداودي : بهذا يقول مالك وفريق من العلماء أن من كانت لداره طريق متسع له أن يرتفق منها بما لا يضر بالطريق.

                                                                                                                                                                                                                              ومعنى (يتقصف عليه): يزدحمون حتى يسقط بعضهم على بعض، وأصله التكسر، ومنه ريح قاصفة: شديدة تكسر الشجر.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (أن نخفرك)، هو بضم النون رباعي من أخفر إذا عاهد ثم غدر، وخفرته: منعته وحميته، وأخفرته: نقضت عهده، وأخفرته أيضا جعلت منه خفيرا، وأخفرت القوم أيضا: إذا وصلوا إلى عدوهم، وهي في خفارتك.

                                                                                                                                                                                                                              وقول الصديق: (أرضى بجوار الله)، أي: حماه. [ ص: 151 ]

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: جوار المشرك للمسلم والرجوع إلى ما هو أفضل كما سلف.

                                                                                                                                                                                                                              و (السبخة) بفتح الباء وصفها بالنخل والسبخة، وكان قبل ذلك رآها بصفة تجمع الحبشة والمدينة، فظنت الحبشة فهاجر بعضهم إليها، ثم أري تمام الصفة فانصرفوا إلى المدينة.

                                                                                                                                                                                                                              و "رسلك" بكسر الراء هيئتك كما أنت وهو السير الرفيق، أما الرسل - بفتح الراء - فهو السير السهل، وضبطه في الأصل بكسر الراء، وفي بعض الروايات بفتحها.

                                                                                                                                                                                                                              وقول البخاري : (وقال أبو صالح : حدثني عبد الله...) إلى آخره، رواه الإسماعيلي في "صحيحه" من حديث أبي الطاهر أحمد بن عمرو بن السرح، أنا عبد الله بن وهب، أنا يونس، عن الزهري . ومن حديث يونس، أنا ابن وهب، ثم قال: ذكر أبو عبد الله - يعني البخاري - من هذا الحديث: لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين، فقط من حديث الليث، عن عقيل، عن الزهري . واقتص باقيه من غير ذكر خبر عن عبد الله بن صالح، أنا عبد الله، عن يونس به. وهو غير ابن وهب، وقد ذكرته بإسناده، عن أبي الطاهر ويونس، عن ابن وهب، وجوده معمر، ولما ذكره أبو نعيم من حديث ابن السرح عن ابن وهب قال: روى - يعني: البخاري - حديث يونس، عن أبي صالح المروزي، عن عبد الله بن المبارك، عن يونس .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الجياني : في رواية ابن السكن، قال. أبو صالح سلمويه : ثنا عبد الله بن المبارك .

                                                                                                                                                                                                                              قال: وأبو صالح هذا اسمه سليمان بن صالح مروزي، روى [ ص: 152 ] البخاري عن ابن أبي رزمة عنه، وحكى أيضا عن الأصيلي، وتبعه المزي .

                                                                                                                                                                                                                              وأما الدمياطي فقال في "حاشية الصحيح" عند أبي صالح : محبوب (د. س) بن موسى الأنطاكي الفراء، عنه، وأبو داود والنسائي عن رجل عنه، قال أحمد بن عبد الله : ثقة صاحب سنة، مات سنة ثنتين أو إحدى وثمانين ومائتين.

                                                                                                                                                                                                                              خاتمة:

                                                                                                                                                                                                                              إن قلت: ما وجه هذا الحديث في الكفالة؟ أجاب ابن المنير بأن قال: أدخله في الكفالة، وينبغي أن يناسب كفالة الأداء كما ناسب والذين عقدت أيمانكم [النساء: 33] كفالة الأموال.

                                                                                                                                                                                                                              ووجهه: أن مجير الصديق كأنه تكفل للجار ألا يضام من جهة من أجاره منهم، وضحى لمن أجاره عمن أجاره منهم لا يؤذيه فتكون العهدة عليه.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية