الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 111 ] أم للإنسان ما تمنى فلله الآخرة والأولى .

إضراب انتقالي ناشئ عن قوله وما تهوى الأنفس .

والاستفهام المقدر بعد أم إنكاري قصد به إبطال نوال الإنسان ما يتمناه وأن يجعل ما يتمناه باعثا عن أعماله ومعتقداته بل عليه أن يتطلب الحق من دلائله وعلاماته وإن خالف ما يتمناه . وهذا متصل بقوله إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى .

وهذا تأديب وترويض للنفوس على تحمل ما يخالف أهواءها إذا كان الحق مخالفا للهوى وليحمل نفسه عليه حتى تتخلق به .

وتعريف الإنسان تعريف الجنس ، ووقوعه في حيز الإنكار المساوي للنفي جعله عاما في كل إنسان .

والموصول في ما تمنى بمنزلة المعرف بلام الجنس ، ووقوعه في حيز الاستفهام الإنكاري الذي بمنزلة النفي يقتضي العموم ، أي : ما للإنسان شيء مما تمنى ، أي : ليس الشيء جاريا على إرادته بل على إرادة الله وقد شمل ذلك كل هوى دعاهم إلى الإعراض عن كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - فشمل تمنيهم شفاعة الأصنام ، وهو الأهم من أحوال الأصنام عندهم ، وذلك ما يؤفن به قوله بعد هذا وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا الآية . وتمنيهم أن يكون الرسول ملكا وغير ذلك نحو قولهم لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ، وقولهم ائت بقرآن غير هذا أو بدله .

وفرع على الإنكار أن الله مالك الآخرة والأولى ، أي : فهو يتصرف في أحوال أهلهما بحسب إرادته لا بحسب تمني الإنسان . وهذا إبطال لمعتقدات المشركين التي منها يقينهم بشفاعة أصنامهم .

وتقديم المجرور في للإنسان ما تمنى ؛ لأن محط الإنكار هو أمنيتهم أن تجري الأمور على حسب أهوائهم فلذلك كانوا يعرضون عن كل ما يخالف أهواءهم ، فتقديم المعمول هنا لإفادة القصر وهو قصر قلب ، أي : ليس ذلك [ ص: 112 ] مقصورا عليهم كما هو مقتضى حالهم فنزلوا منزلة من يرون الأمور تجري على ما يتمنون ، أي : بل أماني الإنسان بيد الله يعطي بعضها ويمنع بعضها كما دل عليه التفريع عقبه بقوله فلله الآخرة والأولى .

وهذا من معاني الحكمة ؛ لأن رغبة الإنسان في أن يكون ما يتمناه حاصلا رغبة لو تبصر فيها صاحبها لوجد تحقيقها متعذرا ؛ لأن ما يتمناه أحد يتمناه غيره فتتعارض الأماني فإذا أعطي لأحد ما يتمناه حرم من يتمنى ذلك معه فيفضي ذلك إلى تعطيل الأمنيتين بالأخارة ، والقانون الذي أقام الله عليه نظام هذا الكون أن الحظوظ مقسمة ، ولكل أحد نصيب ، ومن حق العاقل أن يتخلق على الرضا بذلك وإلا كان الناس في عيشة مريرة . وفي الحديث لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها ولتقعد فإن لها ما كتب لها .

وتفريع فلله الآخرة والأولى تصريح بمفهوم القصر الإضافي كما علمت آنفا . وتقديم المجرور لإفادة الحصر ، أي : لله لا للإنسان .

والآخرة : العالم الأخروي ، والأولى : العالم الدنيوي . والمراد بهما ما يحتويان عليه من الأمور ، أي : أمور الآخرة وأمور الأولى ، والمقصود من ذكرهما تعميم الأشياء مثل قوله رب المشرقين ورب المغربين .

وإنما قدمت الآخرة للاهتمام بها والتثنية إلا أنها التي يجب أن يكون اعتناء المؤمنين بها ؛ لأن الخطاب في هذه الآية للنبيء - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين ، مع ما في هذا التقديم من الرعاية للفاصلة .

التالي السابق


الخدمات العلمية